1300x600
ذكريات الطفولة كلها آلام مبهجة، ملابسنا التي تجتهد أن تكون ثقيلة، فقرنا الذي لم ندركه إلا بعد أن رأينا الحياة خلف أسوار شبرا مصر، مقاهي وسط البلد التي شهدت ارتجافنا نشوة وتطلعا، ليوم آخر أكثر دفئا، وقصيدة أخرى أكثر وجعا وحياة، وشيء ما في الغيب لم ندركه بعد.

يارب، ما الذي بيننا وبين البرد، ولماذا الشتاء بكل كآباته، ومرارة ذكرياته هو الأكثر قربا من الشعراء؟ الآن عرفت.. هل حقا عرفت؟ ما الشتاء؟ الشتاء صوت الباجور، أخبرتها يوما عنه، فسألتني: ما الباجور؟ فتاتي الأولى لم تكن تعرف ما الباجور؟ أحلتها لأمها، فجاءتني تسعى، عرفته: بوتوجاز بعين واحدة!! ، ضحكنا مثل المطر في يناير، بغزارة.

الشتاء صوت "الكراكيب" فوق سطوح الجيران المنخفض، شبابيكهم المغلقة على أجسادهم دون أصواتهم، وصرخات الأمهات من العيال، ارتعاش بقايا أوراق الجرائد على جانبي الطريق، في الصباح تحيط بلقمة عيش الناس، فول وفلافل، وفي المساء تنزوي بزيتها الغامق، تلفظها أحذيتهم، ويعبث بأخبارها برد الشتاء..

ما الشتاء؟ "هيصة" العيال الصبح، أمام مدرسة ابتدائية، ورائحة الفشار النشوانة، كأنها كيس فاكهة غالية في يد ضيف، وانتظار، انتظار لجرس "المرواح"، انتظار لمجيء الأب من شغله، انتظار لليل، حيث التليفزيون.. المسلسل.. الماتش، انتظار لمكالمة مختلسة، أو حجر شيشة أيام المراهقة في قهوة لا يجلس عليها أحد يعرفني، نجلس في الداخل، ونشرب الحلبة بالحليب مثل الكبار، ونلعب النرد، ونرتجف .. أثر الشتاء.

الشتاءات المتوالية لا تحمل إلا دفئا، حتى النوات في الإسكندرية، حيث بيوت عماتي، تخلع الناس من الأرض، فتنتزع ضحكاتهم الصاخبة، التي لا تهدأ كالموج، الناس تجري، ونحن نعتلي سور الكورنيش، كأن الشتاء، هوانا، ليكن، يجيء الطوفان فنضع الأمواج تحت أرجلنا، ولا نبالي، الشتاءات زماننا الذي لا يشيخ، وصوت من الغيب لا يهدد، كلما منحنا الحياة شبابنا قالت هل من مزيد، الشتاء خطانا نحو المزيد، دون ماذا بعد؟

العساكر يرفضون دخول ملابس شتوية إلى سجناء العقرب!!

أي عساكر؟ وفي أي زمان، ومكان، وحياة؟ أين نحن؟ من الذي يمنع عن من؟ هكذا يقول الخبر، الدكتورة عايدة سيف الدولة مدير مركز النديم تقول أن المساجين محرومون من ملابسهم، شتاء بلا دفء، الدفء ممنوع حفاظا على هيبة الدولة، الدفء خطر على الأمن القومي، الدفء إرهاب!!!

اتصلت بمن أعرف من أهالي السجناء، الخبر صحيح، منعوا عن الناس الدفء، تركوهم يرتجفون في زنازينهم حسرة وألما ورعبا، بلا رحمة، هكذا فعلوا، بدم بارد، أكثر برودة من زنازينهم، عن أي نوع من البشر نتحدث؟

هل تعرف البرد؟ اكتشفت أنني لا أعرفه على وجه اليقين، حتى في أعنف النوات حيث يشربنا المطر على الطرقات، كان على أجسادنا ما يسترها، ويمنحها رفاهية الدفء، ما البرد؟ عرفناه إلا أننا لم نعاشره، فلم نعرفه!

البرد، أن يكون أبوك الآن في زنزانة، كثلاجة الموتى، لا يغطيه سوى "خرقة" الصيف، أن تكون ممنوعا من شراء بالطو لابنتك، في زنازين النظام الأعمى، تراها ترتجف في كوابيسك، ولا تراها في "الزيارة"، أن يكون شعورك بالدفء في حد ذاته جريمة، لأنك لست مسجونا.

البرد.. أن ترى صور المساجين في الأقفاص وقد فقدوا أوزانهم، وتقددت جلودهم، كبقايا خبز مهمل، أن تبذل جهدك لتتعرف إلى صورهم، وتدرك من هذا؟ فلان أم علان، كأنهم لم يكونوا يوما ملء السمع والبصر.

البرد.. أن ترى أحدهم يسخر من اختطاف عيالك واختفائهم قسريا، يفتري عليهم الكذب، يرميهم بما ليس فيهم، أمام عينك، وعلى رؤوس الأشهاد، يرى في الحكم على جماجم الناس مدعاة للاستهزاء!!

البرد.. صورة بنت حسام أبو البخاري وهي محرومة من احتضانه في الزيارة، تراه من خلف الزجاج، ذلك لأن دفء أبيها ممنوع عنها، مسجونة عنه، مسجونة معه، مسجونة بين جدران البرد..

البرد.. هو خبر ميلاد سندس، ابنة محمد البطاوي، زميلنا الصحفي، الذي أخذوه من على مائدة سحور أول ليلة في رمضان، وإلى الآن مسجون، وإلى الآن بلا تهمة حقيقية، لا هو يعرف، ولا نحن، ولا سندس، التي ربما لم تعرف أنفاسها بعد، أن ثمة ما يسمى في الحياة أب، سندس ابنة الشتاء والبرد.

البرد.. هو منظر خطيبة عمر عبد المقصود زميلنا، وقد انكفأت على اللاب توب، تعمل، وتفكر، وتنتظر، ولا شيء يبدو في أفق السماء الملبدة سوى الغيوم، بلا أمل، وبلا حلم، وبلا شيء سوى البرد....

البرد.. أن تلتمس سندا في شريك لك، فتجده منشغل عنك، إما بإدانتك، أو بهمومه الخاصة، يتسامرون على قنوات يسمونها قنوات الشرعية، يلقون "إيفيهات" جنسية، طلبا للمتعة في ليلة كان بعض سجناءنا ينتظرون في صباحها إعدامات جماعية، ذهبت لتجد بعض المواساة، فعدت بالبرد..

البرد أن يطلب من يسمونه وزير العدل في بلادك ثمنا لاستئجار أحضان بناته، ودفئهن، خمسون ألف جنيها مصريا رسوم استمتاع شيوخ الخليج بصبايا مصر، نخاس في ثوب مسؤول، والاسم دولة!

البرد:

ديننا في قفص الاتهام بكل ما لم يجئ به / دنيانا رهن التحقيقات / مستقبلنا في سراديب الماضي / يومنا كئيب ثقيل/ بلا معنى، بلا قيمة، يفعلون كل ما من شأنه أن يزرع البرد، ولا حصاد سوى مزيد من الكراهية .. "يارب".
 

للتواصل مع الكاتب عبر موقع "فيسبوك":

https://www.facebook.com/mohamed.t.radwan