قضايا وآراء

ماهية المثقف وحجم الوزر

1300x600
((إن الحديث عن وضع المثقف العربي في هذه المرحلة مخيف ومؤلم، ولكنه ضروري جدا، وقد قررت أن أبذل جهد المقل في تناول الحالة الثقافية العربية في سلسلة مقالات ألقى بها الله متحللا من عبء ثقيل، ومتأملا أن ينهض ولو قليل من المثقفين العرب لحمل الأمانة، متحررا من تقديم المهم على الأهم، لا سيما في هذه المرحلة المفصلية من التاريخ العربي والإسلامي والإنساني)).

في المقال السابق، تعمدت ألا أحدد مفهوم المثقف العربي، ولن أدخل في الجدل التاريخي حول تعريف الثقافة والمثقف، وأرى أن الدخول في جدل كهذا غير مجد الآن، وعادة ما يخطر في بال العامة والخاصة أن المثقف هو غالبا قارئ لعدد كبير من الكتب، ويحمل درجة علمية، ويمارس التنظير عبر الصالونات الأدبية، أو الندوات الفكرية والسياسية، أو الفضائيات، وحاليا الإنترنت، وله كتب أو دراسات أو مقالات منشورة ومتداولة. وطبعا أنا لا أتبنى هذا التعريف الاختزالي، وأشدد أنني أتحدث عن المفهوم والتعريف، وليس عن قوة التأثير وحجم المشاركة في صياغة الوعي الجمعي.

وأنا مضطر لاستدعاء تعريف غرامشي للمثقف العضوي بعيدا عن ظروف إيطاليا (غرامشي إيطالي ونحت تعريفه في عشرينيات القرن الماضي) ولا الأيديولوجيا التي تلقي بظلالها على ذاك التعريف، ومحاولة للوصول إلى تعريف مناسب أقول: المثقف العربي هو كل من امتلك أدوات فكرية أو إعلامية أو تعليمية مهما كان حجم تأثيرها لصياغة وعي وتفكير الجمهور الذي يعيش في داخله أو يرغب في التأثير فيه حتى لو عاش بعيدا عنه؛ سواء حرّض الناس على فهم ما يجري حولهم، أو دعاهم إلى التعلق بفكر سياسي أو نمط اجتماعي معين.

وعليه، فإن المثقف قد يكون كاتبا سياسيا أو أديبا أو شاعرا وروائيا أو فنانا تشكيليا أو رسام كاريكاتير أو كاتب سيناريو للمسلسلات والأفلام والمسرحيات أو معلما في مدرسة أو محاضرا في جامعة له قدرة على التأثير، أو إماما وخطيبا في مسجد، أو نجما من نجوم (التوك شو)، أو مغردا نشطا له جمهور من المتابعين في مواقع التواصل الاجتماعي. وبهذا لا أختزل المثقف في مصر مثلا بنجيب محفوظ وأضرابه، بل إن الشيخ عبد الحميد كشك مثقف، وكل يستخدم أدواته الثقافية وكل له تأثير في صياغة الوعي والتأثير في المجتمع، والخلاف ليس حول الأداة وفاعليتها، فهذا شيء نسبي يختلف باختلاف الزمان والمكان.

وتوضيحا للفكرة، عندنا في مدينة جنين رجل يأتي أحيانا من إحدى البلدات المجاورة، وهو إنسان بسيط لا يحمل شهادة جامعية وعمره حوالي 70 سنة، وهو معروف لدى معظم أهل المدينة ومن يزورون أسواقها، لأنه يحمل مكبر صوت يدوي أحيانا ويلقي مواعظ للناس تحضهم على التقوى وعمل الخير واجتناب المنكر. هذا الرجل ضمن النسيج الثقافي ويدخل ضمن تعريف المثقف، فليس مهما ما يحمل من مؤهلات علمية أو كم قرأ من الكتب أو تلقى من دروس علماء الشرع، ولكنه يمارس دورا واضحا ومشهودا في محاولة التأثير في سلوك الناس ونظرتهم إلى الحياة؛ ويسمع كلامه حامل الشهادة العلمية العليا، ومتوسط التعليم والأمي وغيرهم. أيضا هنا لا أتحدث عن حجم ومدى تأثيره عليهم ونجاحه في تحقق ما يدعو إليه، فقد يؤثر في عدد قليل، بل قد لا يؤثر - مقارنة بأصحاب الأدوات الإعلامية المعروفة - وقد يتجاهله بعض الناس... إلخ، ولكنه في النهاية يؤدي دورا ثقافيا حسب التعريف الذي أوضحته. وكم من حامل لشهادات علمية ويقرأ كثيرا، ولكن وجوده يظل محصورا في نطاق ضيق، ونتاجه المطبوع يظل أسير رف بعض الباحثين فقط... فهذا برأيي ليس مثقفا.

وبعيدا أو قريبا عن تعريف المثقف، تبقى المسألة المهمة بالمخرجات والنتائج، وهل تشكل بمجموعها جهاز مناعة يقي الأوطان من الغزو الخارجي أو يعزز صمودها، وبقاء قلاع حصينة في بنيتها الاجتماعية غير قابلة للاختراق في ظل الوهن والتخاذل الذي أصاب ويصيب البنية السياسية والعسكرية للأوطان؟

ولهذا فإن المثقف يتحمل وزرا كبيرا لأن الحجة القائلة بأنه لا يجوز أن يتحمل المثقف إثما كون أدواته الثقافية ضعيفة أو غير كافية، مقارنة بأدوات النظم السياسية التي يمكن أن تنجز أكثر في مواجهة الغزو والعدوان، هي حجة ضعيفة غير مقبولة. فالمثقف آثم إذا لم يحذر من وقوع الكارثة بشرحها وتبيان النتائج المترتبة على عدم التصدي لمن يصنعها، والمثقف يرتكب جريمة إذا عمد إلى التضليل والكذب وبيع الأوهام والمداراة، وصار ديدنه هو الحديث الانتقائي المبتور الموجه.

والإثم بلا ريب أكبر وأعظم حينما يكون المثقف العربي عرّابا للكارثة وأحد ركائزها، فلا خير في المخزون الثقافي والإبداع ما دام يخدم هدم كيان الأمة، ولو تغطّى بكل الشعارات القومية أو الوطنية أو حتى الدينية، فالعبرة بما جرى ويجري وسيجري على الأرض وأهلها.

وهنا قد تبرز مسألة الفرز بين المثقفين والدعوة إلى عدم التعميم والتخصيص والتحديد. ويفترض أنه يمكن الاختلاف في أوساط المثقفين على قضايا جزئية، بينما يجب أن تكون الكتلة الثقافية موحدة في القضايا المصيرية والخطر الخارجي، لا أن تنقسم حوله كما نرى، بل النسق العام لدينا يمهد الطريق لنجاح الانتصار الكلي للغزو الخارجي، أو يتغافل عن هذا الخطر ويتعامل معه بلا مبالاة، فيما تخوض ثلة مثقفة معركتين صعبتين؛ الأولى في التصدي للخطر الخارجي، ومحاولة إيجاد المناعة من أهواله، والثانية مع كتلة ثقافية أخرى تؤازر عن قصد أو غير قصد هذا الخطر، وهذا هو المشهد القائم، ولهذا لجأت إلى استخدام ما يشبه التعميم لأن القاعدة العريضة هي ما ذكرت وسأذكر.

فالمثقف العربي في السنوات الأخيرة ازداد انحدارا نحو الهاوية وأمعن في اتباع الهوى، وتقديم المصالح الشخصية على الوطنية، وإلباس التضليل والتجهيل ثوبا مزيفا يسميه تنويرا وتعليما وإرشادا.