كتاب عربي 21

تونس... بِغَيرِكَ رَاعِيا عَبثَ الذّئَابُ

1300x600
حال تونس اليوم كحال صدر قصيدة المتنبي رغم اختلاف السياق والزمان فصراع الراعي والذئاب فصلٌ من فصول واحدة من أعمق المآسي الإنسانية التي عرفتها منطقة الشمال الغربي التونسي وتحديدا مدينة "سيدي بوزيد" مهد الثورة التونسية المباركة ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر ومهدُ كامل الربيع العربي. البارحة قامت واحدة من فرق الموت الغامضة والتي نبتت في صحراء "بن علي" بعد الثورة بقتل الطفل "مبروك السلطاني" بشكل وحشي. الذئاب البشرية لم تعبث بجسد الراعي وحده بل عبثت بكل مكتسبات الثورة وبالمسار الانتقالي التونسي جملة بهدف أن يتبخر سحر الثورة وتعود الثروة إلى أصحابها ويموت المهمّشون فقرا في أريافهم النائية وقراهم التي يلفّها الفقر لفا قبل الثورة وحتى بعدها. 

المشهد قاس أليم وموغل في التوحش صورة وسردا لكنه لا يخرج عن سياق الموت العربي الذي أطلق الشياطين من أغلالها لحظة خرجت الجماهير مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. الشارع التونسي يعيش اليوم على وقع الجريمة التي قابلتها النُخب الانتهازية في البداية بالتغاضي والإنكار ثم ارتدّت إليها بعد أن اكتسحت الجريمة كامل الفضاء الافتراضي التونسي ورأت فيها نخب السلطة والمعارضة صيدا سمينا قد يقفز بصورتهم إلى أعالي المشهد بعد أن نزلت به شروط الممارسة السياسية في تونس إلى القاع وكشفت حجم العجز الذي يعاني منه الفاعل السياسي. 

الصادم أنّ الفاعل كالعادة غامض غموضَه في كل الجرائم التي ارتكبت في حق الثورة التونسية منذ جرائم القناصة مرورا باغتيال المناضلين "بلعيد" و"البراهمي" وعشرات الجنود والضباط من قوات الحرس والأمن والجيش وصولا إلى عمليتيْ "باردو" و"سوسة" الإرهابيتين. فإلى حدّ الساعة لم تُعلن السلطات الرسمية التونسية عن القبض على أي واحد من كل المسؤولين عن الجرائم الوضيعة التي ارتكبت في حق الثورة والشعب من أجل تحقيق أحد أهم أهداف الدولة العميقة، وهو هدف الترويع والتخويف وإرهاب الشعب والجماهير. 

حاضنة الفقر التونسية أضخم من أن توصف وحالات الموت البطيء أكثر من أن تُعدَّ في بلد لا يزيد عدد سكانه عن الملايين العشرة ويتمتع بثروات كبيرة تحتكرها بعض العائلات منذ خروج الاستعمار الفرنسي المباشر وتسليمه السلطة إلى الوكلاء من أعون الاستبداد. هؤلاء هم أنفسهم ممن نكّلوا بالمجاهدين و"الفلاقة" وحشروهم في أحزمة الفقر ومدن الموت والصفيح التي تطوّق كل المدن الكبرى والحواضر التي قدم إليها النازحون من قراهم بحثا عن لقمة العيش. قدموا إليها بعد أن جففت دولة "الاستقلال المزيف" منابع الحياة في العمق التونسي العميق الذي مثّل لأجيال وقرون الخزّان الذي لا ينقطع للقيم ولأسس الهوية الوطنية ودعائمها الحضارية. كان العمق التونسي كذلك بل ويزيد قبل أن تعصف به "دولة الاستقلال" ودولة وهم الحداثة التي انكشفت مع نظام الرئيس الهارب بن علي عن واحدة من أبشع تجارب التجفيف والاستبداد في العصر الحديث. 

في منطقة "مغيلة" من ولاية "سيدي بوزيد " حيث يعيش الراعي وأهله لا يملك الناس من العلاقة بالوطن غير بطاقة الهوية الوطنية ـ كما صرح أحد أبناء عمومته ـ فلا ماء ولا كهرباء ولا عمل ولا دولة إلا الجبال الوعرة والأفاعي السامة. لكن هناك وغير بعيد عنهم وعن ولاية القصرين المحاذية تنشط شبكات إرهابية ـ على حدّ وصف الرواية الرسمية ـ تفتك بمهد الثورة التونسية ويمتد نشاطها عبر الحدود الجزائرية في حركة لا تخلو من الريبة والشك خاصة وأنها استقرت صدفة في مهد الربيع لا في مكان آخر من الوطن. 

نعود دائما لنؤكد على واحدة من أوضح المعطيات التي نتجت عن ثورات الربيع وتمثلت في كشفها عن معطيات وحقائق لم تكن تخطر على بال أكثر المحللين تشاؤما. فالفقر الذي لم يكن إعلام "بن علي" خلال فترة حكمه يسمح بكشفه في منصات الإعلام التابعة لقصر قرطاج انفجر يوما في وجه نظامه ودفعه إلى الهروب إلى وجهة لم يكن يعلمها. نفس هذا الفقر المدقع الذي يمسّ في تونس ما يقارب ثلث السكان هو الذي يهدد المسار الانتقالي وهو الذي يعمّق جراح الجسد الوطني ويمنعه من النهوض. 

لكن المعطى الجديد المعمّق لحالة الفقر اليوم هو ظاهرة الإرهاب الناشئة والتي تضرب بكل عنف أكثر الفئات الاجتماعية هشاشة وضعفا لكنها تشكل من جهة أخرى حاضنة أساسية ومناخا ملائما لحالة التطرف بحيث تخلُق تناغما بين الفقر والإرهاب بشكل قد يمدّد حالة الفوضى التي تعاني منها دول أخرى كثيرة. لهذا فإن درس شهيد الفقر والإرهاب الراعي "مبروك السلطاني" لا بد أن يتحول في وعي النّخب السياسية إلى أكثر من ورقة متاجرة بهموم المسحوقين وإلا فإنه سيحوّل وغيرَه أحلام هذه النخب كوابيسَ لا إفاقة منها مثلما فعل الشهيد محمد البوعزيزي مع أحلام بن علي وعصابته.