قضايا وآراء

بنت الخليل هديل الهشلمون.. هل أسقطت مفهوم الهندسة الحديثة؟

1300x600
أيام عشر مباركات، العمل الصالح فيهن لا يفوقه في الأجر عند الله عز وجل إلا رجل خرج مجاهدا في سبيله بنفسه وماله، ولم يعد من ذلك بشيء أبدا. 

بالطبع هناك رجال سمعنا عنهم من قبل في عصور سابقة  وفي عصرنا الذي نعيش فيه. هم رجال باعوا أنفسهم لله الواحد الأحد، فكانت تجارة لم ولن تبور أبدا. وقد سمعنا عن نساء طاهرات عفيفات بعن أنفسهن لله عز وجل وبذلن في سبيله الغالي والنفيس. واليوم نسمع ونرى بأم أعيننا نموذجا فريدا من نوعه من النساء الشابات، اللواتي يؤسسن لمدرسة فريدة من نوعها، كي تتجذر جذورها ويشتد عودها، وتمتد فروعها فتغطي فلسطين، كل فلسطين الحبيبة العزيزة الأبية على المغتصب المحتل ومن والاهم ومن في فلكهم يسبحون.
 
هديل الهشلمون، صوت الحمام، الطاهرة العفيفة المجاهدة في سبيل الله. كذلك نحسبها في ذهابها وإيابها. تذهب وتعود من وإلى بيتها طالبة للعلم، مؤسسة لأعظم مدرسة في عصرنا الحديث. إنها مدرسة الشباب بل الشابات اللواتي لم ترهبهن حواجز الذل والإهانة، لدى أكبر وأعتى مستعمر في عصرنا الحديث، الذي تفوق على كل نظم الفصل العنصري في إفريقيا بل العالم قاطبة.
 
ذلك هو صوت الحمام الذي جاء من أرض خليل الرحمن، فأرهب قلوبهم فخرت أعصابهم جبنا يقتلونها في أحب الأيام إلى الله. يقتلونها ليس غيلة ولكن على مرأى ومسمع الجبناء من زمرتهم، ومن رأى وسمع من العالم الغربي والشرقي، فسكت الصهاينة واختبأ المتصهينون في جحورهم ودست النعامات ريشها في جوفها، لا لتستحي لأن ماء وجها قد ذهب وجف، فلا صلب لها وأصبحت عقيمة، لا تلد إلا جبنا وهوى لتتبعه فتعبده وكأنه إله، فضلت بنفسها وأضلت الطريق وأضلت أمتها. تلك النعامات تبلد حسها من وقت أن سكتت عقودا وتستمر في سكوتها على اغتصاب فلسطين وتشريد أمة وتضييع مقدسات.
 
كل ذلك أصبح يعرفه الطفل الوليد قبل الرضيع، ولكن ما الجديد ؟ 
 
الجديد ربما أن التماسيح قد عجزت أن تفهم تبلد الحس الإنساني عند الإنسانية كلها، وعلى الأخص عند قوم الإسلام والعروبة وليس العكس، فلا عروبة بلا إسلام!!
 
ولكن تلك تماسيح ركنت إلى الظالمين ونسيت أو تناست  قول الحق سبحانه: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (هود 113).
 
نعلم جميعا في الحديث الشريف ما رواه الطبراني عن أنس رفعه "من آذى مسلما بغير حق فكأنما هدم بيت الله"، ونعلم أيضا ما رواه النسائي من حديث بريدة مرفوعا "قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا". ونعلم كذلك ما رواه ابن ماجة من حديث البراء مرفوعا "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق".
 
وإذا كنا أخذنا قياسا، والله أعلم، فإن قتل هديل الهشلمون، ومن قبلها ريهام الدوابشه ورضيعها وزوجها ومن يقتلون ظلما وعدوانا في سوريا وغيرها، هو أعظم عند الله عز وجل من هدم المسجد الأقصى والكعبة المشرفة بل زوال الدنيا كلها. من هنا ندرك قدسية الإنسان عند خالقه الذي نفخ فيه من روحه، فكرمه، وحمله في البر والبحر، وفضله على كثير من خلقه تفضيلا، ليكون خليفته في الأرض، فيكون خير من يؤتمن على النفس والمال والعرض.
 
اليوم ذلك الإنسان تراه أستاذا، سياسيا، طبيبا ، ممرضا، صيدلانيا، مهندسا، محاميا، مزارعا ..إلخ، ولكن هل حافظ ذلك الإنسان على استخلافه في الأرض؟
 
الإنسان المهندس في عصرنا الذي نعيش هندس أعتى الأسلحة، لا ليدافع عن نفسه ودينه وتراب وطنه، ولكن في ما نراه في عصرنا هندس ليفتك بأخيه الإنسان، مثلما فعل قابيل بأخيه هابيل. إن المهندس الحق هو من يدرس متطلبات منتجه ويشرف على بنائه في عملية مترابطة متتابعة المراحل، وبميزانية وتوقيتين ملائمين لمشروعه في منتجه هذا، حتى يأتي بما أبدع وأنتج ليكون صالحا ومفيدا للإنسانية لا ضارا بها ، وقد تعرضت لذلك في مقالة سابقة عن ذي القرنين وتعريف الهندسة في أحد أرقى الدوريات العلمية الهندسية البريطانية.
 
ولكن من قتل هديل ؟
 
من قتل صوت الحمام القادم من الخليل؟
 
ولنسأل من طبقوا أصول الهندسة العلمية معتمدين على قوانين الفيزياء الطبيعية، والرقائق الإلكترونية المتطورة والبرمجيات ذات الخوازميات المعقدة في تطوير أسلحة فتاكة بالبشر والشجر والدواب، وكل شيء حي وغير حي؟
 
نسأل هؤلاء: أين أصول علم الهندسة عندكم؟
 
نسأل هؤلاء: أليست الركيزة في علم الهندسة أن تُنتج مُنتجا يكون مفيدا للإنسانية، لا فاتكا بها؟
 
نسأل هؤلاء: ألا تنتمون لدولكم وحكوماتكم التي تصدر تلك الأسلحة الفتاكة إلى هؤلاء القتلة المارقين المغتصبين الحاقدين؟
 
نسأل هؤلاء: أليس عندكم نقابات هندسية تنتمون لها في دولكم؟ أليست تلك النقابات الهندسية في بلادكم هي التي توافق على منحكم لقب المهندس القانوني ?- chartered engineer ?- لخريجي جامعاتكم التي درستم بها، شريطة أن تكون قد درستكم تلك الجامعات مساقات تعني بالجانب الأخلاقي والمهني للهندسة؟
 
نسألهم ونسأل نقابات مهندسينا في العالم العربي والإسلامي: ألم تُسقِط رصاصات هديل مفهوم علم الهندسة في عصرنا؟
 
نسألهم جميعا: أليس تلك الأسلحة والترسانة المدمرة عند تلك الدولة المغتصبة، هي تدمير أعظم أساس في علم الهندسة، ذلك المفهوم الذي أجمعت عليه جامعات ونقابات الهندسة؟  ألم يجمعوا على أن يكون ما يصممه المهندسون مفيدا لا ضارا بالإنسان وإنسانيته؟
 
رحلت روح هديل إلى بارئها ، ولكن صوت الحمام من الخليل لم يرحل أبدا ولن يرحل …
 
ونتساءل بأصوات عالية لتهز الأسماع:
 
ألا تذكرنا هديل الهشلمون بذلك الفتى الذي ضحى بروحه من أجل إعلان، بل ترسيخ توحيد الربوبية والألوهية؟
 
ألا تذكرنا هديل بذلك الفتى الذي دل الملك على طريقة الخلاص منه بقوله له: "قل بسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني” . عندها فعل الملك ما قاله له الغلام، فرمى الغلام بسهم وقع في صدغه فمات !!!
 
فقالت الناس: آمنا برب الغلام.
 
اليوم تلك الرصاصات، التي قتلت هديل، ندعو رب البرية وحاميها،  أن تكون هي ذات الرصاصات التي تحيي الأمة بعد سباتها وتردها إلى رشدها، فتلبي نداء المعتصم وهبة صلاح الدين لتقول للظالم (لا) وألف (لا).
 
ألا تذكرنا رصاصات استشهاد هديل - ونحسبها عند الله كذلك - بسورة البروج ؟ ألا تذكرنا تلك الرصاصات باليوم الموعود؟ ألا تذكرنا بالشاهد والمشهود؟ ولكن الخزي لهم في الدنيا والنار ذات الوقود لهم، والذين هم عليها قعود في يوم لا ظل لهم فيه أبدا.
 
القتلة يستكبرون في الأرض، هم ومن يدعمهم ويمولهم ليرهبوا الإنسان وطير الحمام، ولكنهم لن يسكتوا هديل الحمام أبدا !!!
 
ألا يتذكرون قوم عاد أصحاب إرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد؟ ماذا فعلت عاد: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( فصلت 15))؟
 
نقول لهؤلاء القتلة ومن معهم في جوقتهم ، تذكروا ما قاله الجنرال جون أبي زيد قائد القوات الأمريكية الوسطى في زيارته بعد حربهم واحتلالهم لعراق الرشيد: "أولا: نحن سننتصر. ثانيا: يجب على الجميع أن يفهموا أنه لا توجد قوة على الأرض أقوى من هذه القوة العسكرية".
 
نسألهم: هل انتصرتم بعدما دمرتم الإنسان وأهلكتم الحرث والنسل؟ هل استطعتم حماية ولاياتكم من الأعاصير؟ نقول هذا ولا نحقد على الإنسان أهو عندكم أم عندنا، ونتمنى الخير للبشرية كلها أينما تكون لأننا تربينا على حفظ الإنسان وكرامته وإنسانيته.
 
ألا يتذكر هؤلاء جميعهم ما حل بقوم عاد: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ( فصلت 16)).

اليوم نسأل مهندسي العرب والمسلمين قبل مهندسي الغرب: ماذا أنتم فاعلون لتحموا شرف الهندسة الذي دنسته آلة الفتك العنصرية؟
 
اليوم نسأل مهندسي جلب مياه البحر الأبيض المتوسط حول رفح والحدود بين غزة فلسطين الحبيبة ومصر الأبية؟ اليوم نسألهم هل أنتم ونقابات الهندسة في العالم العربي والإسلامي راضون عن شرف الهندسة الذي غمره طين الحدود بين الحبيبتين مصر وفلسطين؟
 
اليوم نسأل نقابات المهندسين في العالم العربي والإسلامي؟ نسألهم ماذا أنتم فاعلون؟ هل ستكتفون بالمظاهرات فقط ضد الظلم والطغيان؟ أم ستجأرون بصوتكم إلى نقابات المهندسين في العالم الغربي لمقاطعة من يُساهم ولو بمثقال ذرة في تدنيس شرف الهندسة وعلمها؟
 
اليوم لم تمت هديل الهشلموني …
 
اليوم لم يرحل هديل الحمام من الخليل …
 
بالأمس رحلت روح هديل إلى بارئها ونحسبها شهيدة عند الله عزوجل في جنات النعيم …
 
واليوم تُسقِط هديل وإخوانها وأخواتها مفهوم علم الهندسة الحديث …
 
اليوم تأسست مدرسة هديل الهشلموني …
 
اليوم تأسست مدرسة جديدة لجيل شاب جديد بل جيل لشابات تركن وراءهن متاع الدنيا وزينتها وبعن أنفسهن لله عز وجل .. جيل لشابات تركن الفلول وأهل الفلول.
 
لقد ربح البيع بإذن الله..
 
لقد ربح البيع يا هديل ، الأخت، البنت، الكريمة..
 
لقد ربح البيع يا والدي هديل..
 
لقد ربح البيع يا مدينة خليل الرحمن..
 
لقد ربح البيع يا فلسطين، كل فلسطين..
 
لقد ربح البيع يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم..
 
لقد ربح البيع يا أيتها الأمة الإنسانية جمعاء، لأن هناك إنسانة جاهدت وكافحت وتعلمت وقالت للظالم "لا، لن تزيدني إلا إصرارا على إنسانيتي التي وهبني إياها ربي، الذي لا إله إلا هو، خلقني وأكرمني، فخسئت أيها القاتل أن تنال من إنسانيتي".
 
رحم الله هديل وأسكنها مع الشهداء والصديقين ، ورزقنا الله من يُكمل على الدرب في "مدرسة هديل الهشلمون"، فلا يغيب صوت الحمام عن آذاننا أبدا .. اللهم آمين.