كتاب عربي 21

هيبة الدولة تبدأ أين تنتهي دولة "هو يسرق وأنت تخلص"

1300x600
مثلما كان متوقعا وبعد تصاعد الحملة المعارضة لما يسمى "قانون المصالحة والاقتصادية والمالية" (الذي أرسل من الرئيس السبسي وبدعم من الحكومة إلى مجلس نواب الشعب مع ملحوظة "عاجل جدا")، اختلق داعمو القانون اتهامات غير صحيحة للطعن في رموز تعارض هذا القانون، على رأسها الرئيس السابق الدكتور المنصف المرزوقي، وأيضا الناطق باسم "الجبهة الشعبية" حمة الهمامي بدعوى تلقيهم تمويلا أجنبيا لدعم حملتهم في الانتخابات الرئاسية، أواخر سنة 2014. كان من المتوقع أن يعتمد حماة الفساد على خطة "أحسن طريقة للدفاع هي الهجوم". 

قانون "المصالحة" ليس مجرد قانون، بل هو عنوان أساسي لسياسة عامة وفلسفة للدولة، تقتضي أساسا تطبيع الفساد؛ إذ يسقط كل التبعات على أي فساد إداري، حتى إذا تم إثباته وإذا تم الانتفاع منه من حيث النفوذ الإداري والارتقاء، مع شرط وحيد عدم الانتفاع المالي العيني، ولا يفرض حتى الاعتذار المعنوي من "طالب الصلح" (بعكس الفصل 46 من قانون العدالة الانتقالية)، ويشرع المال المهرب والمجهول المصدر مقابل خمسة في المئة فقط من تاريخ امتلاكه، مع عدم وضع صيغة للتحقق من القيمة الجملية من المال المهرب، بما يشجع عمليا على تهريب الأموال. ويضع آلية لتصفية كل الملفات في ظرف قصير مدته ثلاثة أشهر، وبلجنة يتم تعيينها من حكومة الرباعي الحاكم، أي إنها ستخضع لنفوذ أحزاب، ومن ثمة مصالح محددة. 

وللرد على حملة المعارضة صرح مدير مكتب الرئيس السبسي أن المعارضين "أقلية منهزمة". ونسي في المقابل أن حزبه لم يتحصل إلا على 15% من اصوات مجمل الذين باستطاعتهم الانتخاب (يقاربون 8 ملايين)، وأنه بعد حوالي تسعة أشهر من انتخابه تشير كل استطلاعات الرأي إلى اهتراء شعبية الحكومة داخل القاعدة الانتخابية للأحزاب الداعمة لها. 

وكيف لا تهترئ هذه الشعبية ونحن إزاء أداء كارثي غير مسبوق لأي حكومة تونسية؛ إذ أعلن معهد الإحصاء أن نسبة نمو هذا الثلاثي هي الأقل منذ سنوات (0.7%) مع ارتفاع نسبة البطالة، فضلا عن أكبر عمليتين إرهابيتين في تاريخ تونس، ناتجة عن إخلالات أمنية مسؤولة عنها الحكومة، أهمها إلغاء خطة منسق العمل الأمني ("المدير العام للأمن الوطني") في شهر فيفري، وعدم تفعيل خطة طوارئ إثر هجوم باردو، بما أدى إلى تأزم التعاون الأمني مع شركاء أوروبيين أساسيين، وتوقف وفود السواح منها، فضلا عن الأداء الكارثي الإقليمي خاصة مع السلطات المجاورة التي نحتاج التنسيق معها في ملف مقاومة الإرهاب، وأهمها "حكومة طرابلس" التي صرح وزير خارجيتها هذا الأسبوع أن حكومته: "طرحت على الحكومة التونسية عديد المرات مسألة التعاون الأمني بين البلدين، لكنْ لم يكن هناك تجاوب واضح من الجانب التونسي". 

وهنا بناء على هذا الأداء، لا يمكن أن يتجاوز داعمو حزب مدير مكتب السبسي العشرة في المئة من مجمل الناخبين التونسيين. فمن هي "الأقلية المنهزمة"؟ وهل يستطيع مدير مكتب السبسي تحدي نفسه وعرض القانون على هيئة مراقبة دستورية القوانين، ثم عرضه على الاستفتاء الشعبي؟ 
في الأثناء تواصل السلطة الجديدة إرسال مؤشرات متزايدة على ضرب الحريات بعنوان قانون الطوارئ، آخرها عرض مدون على المحاكمة بسبب سخريته من رئيس الجمهورية وهرسلته في التحقيق لآرائه السياسية. حيث صرح للإعلام "أنّ التحقيق معه في مركز الإيقاف كان شديد الغرابة، فالأسئلة تمحورت حول علاقته بالرئيس السابق للجمهورية محمد منصف المرزوقي وحراك شعب المواطنين، إضافة لسؤاله حول موقفه من داعش ومع من سيقف في حال دخولها إلى تونس، وعلاقته بمختلف الأطياف السياسيّة في البلاد". 

وهناك أيضا القمع الكبير لتحركات المعلمين بعد محاولة الحكومة اقتطاع نسب كبيرة من أجور مديري المؤسسات التربوية للتعليم الأساسي بسبب إضرابات سابقة، وتخلل ذلك توظيف لحالة الطوارئ لقمع مسيرات المعلمين، وهو ما يؤكد أن إعادة رسكلة القانون اللادستوري للطوارئ الذي يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، ليس له أية علاقة  بالإجراءات المتوجبة لمقاومة الإرهاب. 

يمثل إجراء الاقتطاع من الأجور بسبب الإضراب تطبيقا للقانون ظاهريا، لكن في السياق العام لسياسات الحكومة يمثل سياسة المكيالين؛ فلا يمكن لأي دولة تريد أن تكون متشددة في تطبيق القانون التصرف كدولة ظالمة تميز بين مواطنيها. الدولة الصارمة يجب أن تكون عادلة حتى يمكن لها تفعيل صرامتها: فكيف نقنع المعلم بتطبيق القانون واقتطاع الحكومة أيام الإضراب من أجره، والحكومة نفسها تقتطع من ميزانية الدولة لمصلحة لوبيات الأثرياء. وكيف سيتفهم مستعملو النقل العمومي الزيادات في التذاكر (مثلما صرح وزير النقل) بسبب العجز في الميزانية، عندما يتم تخصيص مئات المليارات من الميزانية نفسها لتغطية الأموال التي سرقها المستفيدون من أصحاب الامتيازات. وكيف سيتفهم آلاف المرسمين في القطاع السياحي ومئات آلاف المتعاقدين عمليات تسريحهم بتوظيف مجلة الشغل (المتوقعة بداية الشهر القادم)، في الوقت الذي تدفع فيه الدولة عشرات المليارات لأصحاب المؤسسات السياحية.

ولهذا الانسجام يفرض أن الدفاع عن تطبيق القانون يعني أيضا الدفاع عن حق كل هؤلاء في الاحتجاج على الظلم ورفض التمييز ودولة اللوبيات. 

ليست الثورة من أسقط دولة الهيبة. الثورة لم تكن عملا اعتباطيا ناتجا عن صفعة مجهولة السياق لبائع خضار وانطلقت من باب الترفيه عن النفس. كانت الثورة في تونس التعبير العميق عن رفض لهيبة تحمي "عصابة السراق". سقوط الهيبة المزيفة لدولة الاستبداد والفساد سنة 2011 كان حتميا. من أسقط هيبة الدولة كان دولة تعميم وتطبيع السرقة، وهو المراد من "قانون المصالحة" الحالي. 
هيبة الدولة تبدأ أين تنتهي دولة "هو يسرق وأنت تخلص".