مقابلات

عالم شرعي: تلبّس الجان بالإنسان خرافة

أبو حسان: غالب الأدلة التي يستدل بها القائلون بدخول الجان في الإنسان غير صحيحة - أرشيفية
اعتبر الدكتور جمال أبو حسان، الأكاديمي الأردني المتخصص في تفسير القرآن وعلومه، تلبّس الجان بالإنسان وصرعه له وتحكمه فيه "خرافة راجت بين المسلمين بفعل الموروثات الشعبية التي يتناقلها الناس من غير بحث ولا تدقيق". 

وأكدّ أبو حسان في مقابلة خاصة بـ"عربي21" أنه بعد دراسته المستفيضة لهذه القضية، ونظره المتأني في الأدلة التي يستشهد المؤمنون بها، يستطيع القول بأنها لا تعدو أن تكون "شبهة انتشرت بين الناس من غير أن يكون لها مستند شرعي لا من القرآن الكريم ولا من السنة الصحيحة".

وأوضح أبو حسان أنه، وهو يعلن رأيه بكل وضوح وجرأة، لا يروم مناكفة العلماء ومخالفتهم، وإنما الذي دفعه لإعلان رأيه هذا هو ما أداه إليه اجتهاده ونظره العلمي المجرد، ولو أنه وقف على أدلة صحيحة صريحة تثبت هذه المقولة لقال بها.

وناقش أبو حسان غالب الأدلة التي يستدل بها القائلون بدخول الجان في الإنسان، وتلبسه به وصرعه له، خالصا إلى القول بأن الصحيح منها غير صريح في الدلالة على ذلك، وأن بعضها ضعيف لا يصلح للاحتجاج به على المسألة المبحوثة.

وأرجع أستاذ التفسير وعلوم القرآن في الجامعة العالمية الإسلامية الأردنية انتشار هذه الظاهرة في أوساط المسلمين خلال العقود الأخيرة إلى أنها باتت مهنة امتهنها وتكسب بها من لا عمل له، فأوهموا عامة المسلمين بأن كثيرا مما أصابهم وألمّ بهم من أمراض سببه ومنشأه جني، فازدهرت تلك التجارة وراجت في أوساط المسلمين، محذرا من هذه الممارسات التي اعتبرها ضربا من ضروب الشعوذة والدجل.

في ما يأتي نص الحوار بكامل أسئلته وأجوبته:

** ما خلاصة بحثكم بخصوص مس الجان للإنسان بمعنى دخوله في بدنه وتلبسه به وتحكمه فيه؟

- لقد درست هذه القضية دراسة مستفيضة، ونظرت في جميع الأدلة التي يسوقها من يعتقدون بتلبس الجان للإنسان ودخوله في بدنه وتحكمه فيه، ووجدت أن تلك الأدلة منها ما هو صحيح لكنه ليس صريحا في الدلالة على ذلك، وبعضها الآخر ضعيف لا يصلح للاحتجاج به، وخلاصة بحثي لهذه القضية أنها شبهة انتشرت بين الناس من غير أن يكون لها مستند شرعي لا من القرآن الكريم ولا من السنة الصحيحة، وهي خرافة راجت بفعل الموروثات الشعبية التي يتناقلها الناس من غير بحث ولا تدقيق.

** كيف ارتقى الاعتقاد بأن الجني يدخل في بدن الإنسي، ويتخبطه ويصرعه إلى مستوى إدراجه في مجمل معتقد أهل السنة كما فعل أبو الحسن الأشعري؟

- ما يجب التنبيه عليه في هذا السياق أن كتب العقيدة احتوت أمورا ومقولات ليست من صميم العقيدة، وهي عبارة عن آراء تناقلها اللاحق عن السابق، وقد تكون بعض تلك الأقوال اختلطت فيها الأوهام بالحقائق، ونتيجة لتداولها عبر الأجيال غدت وكأنها من مسلمات الدين وقطعيات العقيدة وهي في حقيقة الأمر ليست كذلك.

 ومسألتنا هذه من هذا القبيل فالباحث الشرعي المتجرد والطالب للحقيقة لا يجد في الأدلة المستشهد بها ما يصلح لإثبات تلك المسألة في أصولها فضلا عن ادراجها في مجمل معتقد أهل السنة، ونحن نتعبد الله تعالى بما قامت عليه الأدلة الصحيحة الصريحة، أما ما كان من قبيل الأقوال والآراء المفتقرة إلى الأدلة فلنا حق محاكمتها إلى الأدلة الأصلية ومن ثم مخالفة قائليها مع احترامنا وتقديرنا لأولئك الأئمة الأعلام. 

** كيف تتجرأ على إنكار دخول الجني في بدن الإنسي وصرعه، وأئمة الإسلام يغلظون القول لمن أنكر ذلك، فابن تيمية حكى اتفاق أهل السنة على ثبوته، وقال: "ومن أنكر ذلك وادّعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك"؟

- أولا أحب الإشارة إلى أنني أحترم علماء الإسلام وأنزلهم المنزلة اللائقة بهم، فقد تعلمنا العلم بفضل جهودهم وإنتاجهم العلمي النافع، ولكننا تعلمنا من أولئك العلماء أن أقوالهم واجتهاداتهم يُستدل لها ولا يستدل بها، فهي في المحصلة أقوال واجتهادات بشرية تكتسب قوتها من موافقتها للأدلة الشرعية الأصلية.

وما قاله ابن تيمية في القول السابق لا أراه يقوم على أساس علمي متين، ولا هو مشفوع بأدلة شرعية صحيحة، وهذا فهمه واجتهاده، فهو معذور فيه ومأجور عليه، لكن القطع بأن القضية ثابتة بذلك الوضوح وتلك الصراحة التي يتحدث عنها ابن تيمية فليس الأمر كذلك بحسب دراستي للمسألة وبحثي لأدلتها، إذ ليس في الأدلة الشرعية ما يمكن اعتباره دليلا صحيحا صريحا في الدلالة عليها، فكيف يمكن لباحث شرعي أن يعتقد بمسألة لم تثبت لديه أدلتها؟ هل يجوز له أن يعتقد بها تقليدا لغيره من العلماء؟ 

إنني وأنا أعلن رأيي في هذه المسألة لا أقول ذلك مناكفة للعلماء الذين قالوا بها وأثبتوها وجعلوها من مجمل اعتقاد أهل السنة، وإنما أعلن ما أداني إليه اجتهادي وهو ما أدين لله به، ولو وجدت في الأدلة المستشهد بها ما ينهض لإثبات المسألة لقلت بذلك ووافقت القائلين بها.

** عمدة أدلة القائلين بتلبس الجني للإنسي ودخوله في بدنه وصرعه له هو الآية (274) من سورة البقرة {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} وهم يرونها ظاهرة وصريحة جدا في دلالتها على المطلوب، فما تأويلكم للآية وهل ترونها لا تنهض على إثبات ما أثبتوه؟

- الربا جريمة اجتماعية خطيرة، ولها أثارها النفسية والاقتصادية والاجتماعية على الفرد والمجتمع، وما يحسن بيانه والتنبيه عليه في هذا السياق أن الآية تتحدث عن حالة قيام المرابين في الدنيا، ولا يمكن فهمها على أنها تتحدث عن حالتهم حين يقومون من قبورهم يوم القيامة، لأنهم لو كانوا كذلك لكان ذلك نعمة لهم بسبب فقدانهم للإحساس بما يجري حولهم حينذاك، لأن قيام المرابين من قبورهم على تلك الحالة يعني أنهم لا يحسون بما يحدث حولهم من أهوال جسيمة، وهذا من الخير الذي يساق إليهم، ما يلزم منه استبعاد فهم تلك الحالة بأنها تكون يوم القيامة حينما يبعث الناس من قبورهم.

أما المراد بقوله تعالى (الذي يتخبطه الشيطان من المس) فهو ما ذكره بعض العلماء بقولهم: أنه مأخوذ من قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَامَسَّهُمْ طَـآئفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَاهُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201]، وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، فهذا هو المراد من مس الشيطان (الوسوسة)، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطا، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى، وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى، فحدثت هناك حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان.

فالآية تتحدث عن حالة الجزع والهلع التي تصيب المرابين نتيجة تمزقهم الوجداني بين معرفتهم بحرمة ما يرتكبونه، وفي الوقت نفسه جشع نفوسهم في تحصيل المردود المادي عن طريق الربا، فتسيطر عليهم حينها حالة التخبط المذكورة في الآية.

** من الأدلة التي يستدلون بها حديث المرأة السوداء، حينما قالت للنبي عليه الصلاة والسلام "إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي"، وهو في الصحيحين ويرونه صريحا في الدلالة على إثبات صرع الجني للإنسي. فما ردكم على استدلالهم بهذا الحديث؟

- نعم هذا الحديث في الصحيحين، وهو مثال واضح جدا للأدلة الصحيحة غير الصريحة التي يستدلون بها، فمن أين جاءوا بأن الصرع المذكور في الحديث هو بسبب الجن؟ هل يوجد في الحديث ما يدل عليه من قريب أو بعيد؟  فالمرأة حينما اشتكت للنبي عليه الصلاة والسلام قالت: "إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله تعالى لي"، فأجابها عليه الصلاة والسلام بقوله: "إن شئت صبرتِ ولكِ الجنَّة، وإن شئتِ دَعَوت الله تعالى أن يعافيك"، فقالت: "أصبر"، فقالت: "إنّي أتكشفُ فادع الله أن لا أتكشف"، فدعا لها.

هذا نص الحديث وليس فيه ما يفهم منه أن صرعها كان بسبب الجن، بل كل ما فيه أنها تصرع، والصرع مرض معروف لدى الأطباء، وفي عصرنا بات علاجه سهلا وميسورا، فما علاقة ذلك بالجن؟ وهل يصح لو أن صرعها كان بسبب الجن (كما فهموا منه) أن يتركها الرسول عليه الصلاة والسلام للجني يتلاعب بها دون أن يرشدها إلى ما تدفع به شر صرعه إياها؟

** ماذا تقول في حديث عثمان بن أبي العاص، حينما اشتكى إلى النبي عليه الصلاة والسلام ما يفسد عليه خشوعه في صلاته، فأصبح لا يدري ماذا يقول فيها، فقال له: "ذاك الشيطان، ادنه، فدنوت منه فجلست على صدور قدمي، قال: فضرب صدري بيده وتفل في فمي وقال: اخرج عدو الله.."، ألا يثبت هذا الحديث دخول الجني في الإنسي وتلبسه به؟

- الرواية الثابتة في صحيح مسلم لهذا الحديث ليس فيها مثل هذه الزيادات وهذا نصها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "أمّ قومك"، قال: قلت له يا رسول الله إني أجد في نفسي شيئا، قال "ادنه"، فجلسني بين يديه ثم وضع كفه في صدري بين ثديي ثم قال "تحول"، فوضعها في ظهري بين كتفي، ثم قال: "أمّ قومك فمن أم قوما فليخفف فإن فيهم الكبير وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء".

وجاء في حديث آخر في صحيح مسلم أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي، فقال: "يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبسها علي"، فقال رسول الله: "ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته، فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا"، قال: "ففعلت ذلك فأذهبه الله عني".

ووفقا لما قاله الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث، فإن قوله "أجد في نفسي شيئا" يحتمل أنه أراد الخوف من حصول شيء من الكبر والإعجاب له بتقدمه على الناس فأذهبه الله تعالى ببركة كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه، ويحتمل أنه أراد الوسوسة في الصلاة فإنه كان موسوسا ولا يصلح للإمامة الموسوس".

فحديث عثمان بن أبي العاص كما في روايتي صحيح مسلم يثبت أن ما اشتكى منه هو الوسوسة، وليس التلبس، وما جاء في صحيح مسلم مقدم على غيره من الروايات الأخرى (هذا إن كانت صحيحة وسلمت من النقد الحديثي) لأن رواية مسلم أثبت منها، ولأن الروايات جميعا تعود إلى حادثة واحدة فاختلف الرواة في نقلها، فما كان في الصحيح هو المعول عليه عند الاختلاف، وهو لا يدل إلا على الوسوسة، وهو ما أقول به. 

** ثمة حديث يوردونه على أنه من أدلة تلبس الجني للإنسي، ويرونه في غاية الوضوح والصراحة في إثبات ما يعتقدونه ألا وهو حديث صفية "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق.."، ألا يكفي وهو في الصحيحين لإثبات ذلك؟

- في نظري أن استدلالهم بهذا الحديث من أعجب العجب، فإن سبب ورود الحديث يحدد المراد منه بشكل واضح وجلي، فعن صفية بنت حيي قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي عليه الصلاة والسلام أسرعا، فقال النبي عليه السلام: "على رسلكما إنها صفية بنت حيي"، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا" أو قال "شيئا".

نقل الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ما قاله القاضي وغيره "قيل هو على ظاهره وأن الله تعالى جعل له قوة وقدرة الجري في باطن الإنسان مجاري دمه، وقيل هو على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه، وقيل يلقي وسوسته في مسام لطيفة من البدن فتصل الوسوسة إلى القلب"، فعلى القول الأول الذي يحمل الحديث ظاهره، هل يفهم منه أن الشيطان بجريانه في باطن الإنسان قد تلبس الخلق جميعهم بسبب جريانه في باطنهم على الحقيقة، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون ضربا من ضروب الاستعارة، بسبب تمكنه من الوسوسة للإنسان فكأنه لا يفارقه كما لا يفارقه دمه؟ ثمة قرينة ظاهرة في الحديث نفسه تدل على المعنى الثاني وهي قوله عليه الصلاة والسلام "وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا" فتعين حمله على الوسوسة ولا شيء غير ذلك.

** لماذا تنكر يا دكتور دخول الجني في الإنسي، وقد ورد في حديث التثاؤب "إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب"، فهل تريد دليلا أوضح وأصرح على دخول الجني كما يتساءل القائلون بذلك؟

- أولا لنحرر محل النزاع، فليس ما اختلف معهم فيه هو دخول الجني أو عدم دخوله في الإنسي، بل ما أخالفهم فيه هو دخول الجني في بدن الإنسي وصرعه له وتحكمه به، بحيث تغيب شخصية الإنسي ويكون الحضور للجني، فهل في هذا الحديث ما يثبت ما يريدونه؟ الحديث يتحدث عن أن الشيطان يدخل في حالة تثاؤب الإنسان إن لم يضع يده على فيه، فلو حملنا هذا الحديث على ظاهره، وقلنا بأن الشيطان يدخل في الإنسان في تلك الحالة المذكورة فماذا يترتب على ذلك الدخول؟ هل يوجد نص يثبت أنه في حال دخوله أعطي من القدرة ما يصرع به الإنسان ويتحكم فيه ويسيطر عليه؟

ولنتخيل كم عدد المسلمين الذين لا يضعون أيديهم عند تثاؤبهم، فهل يعني ذلك أن الشيطان قد دخل فيهم وتلبس بهم، وأنه قادر على التحكم فيهم والسيطرة عليهم سيطرة تامة؟ هل تحتمل ألفاظ الحديث السابق كل هذه المعاني والدلالات؟

** بعض من يعتقدون بتلبس الجان للإنسان يجدون في قوله تعالى {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ {[ص : 41] دليلا على أن الشيطان قد يتسلط على جسم الإنسان كما حدث لنبي الله أيوب بحسب ما هو مروي في بعض الآثار من أن الشيطان "سلط على جسده فنفخ فيه حتى تقرح ثم تقيح بعد ذلك واشتد به الأمر".. فهل تتفق مع هذا الفهم وكيف تناقشه؟

- تفسير الآية بهذا التفسير من أبطل الباطل، ولا يليق نسبة هذه الروايات الساقطة إلى نبي الله أيوب عليه السلام، إذ كيف يُصاب نبي من أنبياء الله بتلك الحالة المزرية المنفرة؟ ألا تكون حالته المقززة سببا لنفور المدعوين منه؟ فكيف سيكون داعيا إلى الله وهو على تلك الحالة التي يهرب الناس من صاحبها؟

أما إسناد المس بالنصب والعذاب إلى الشيطان، "فظاهره أن الشيطان مس أيوب بهما، أي: أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب، ففي سورة  الأنبياء (أني مسني الضر)، فأسند المس إلى الضر، والضر هو النصب والعذاب"، كما يقول العلامة ابن عاشور في التحرير والتنوير.

أما ما يمكن فهمه من إسناد المس بالنصب والعذاب إلى الشيطان، فأنا أميل إلى ما قاله ابن عاشور حينما أشار إلى أن "الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر في مكرر آيات القرآن وليس النصب والعذاب من الوسوسة، ولا من آثارها"، وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة.. والوجه عندي: أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النصب والعذاب مسببين لمس الشيطان إياه، أي: مسني بوسواس سببه نصب وعذاب، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النصب والعذاب عنده، ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقا لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك". 

** إلى ماذا تُرجع تفشي هذه الظاهرة في أوساط المسلمين، وتعلقهم كثيرا بمن يسمونهم "المعالجين والراقين بالقرآن"، ودفعهم لهم مكافآت مالية قد تفوق ما يدفعونه للأطباء؟

- يرجع ذلك في بعض أسبابه إلى ما يشيعه العلماء والمشايخ من ثبوت التلبس والمس الجني من الناحية الشرعية، ويسوقون الأدلة التي يحتجون بها على ذلك، ما أدّى إلى اعتبار المسألة ثابتة ومقررة في وعي عامة المسلمين باعتبارها أمرا ثابتا ومقررا، وهي ليست كذلك على ضوء البحث العلمي المجرد.

وتعود في بعض أسبابها الأخرى إلى تلك الطبقة من المعالجين الذين امتهنوا هذه المهنة، وتفرغوا لممارساتها، والتي باتت مهنة من لا عمل له، فأوهموا عامة المسلمين بأن كثيرا مما أصابهم وألمّ بهم يرجع إلى أسباب "جنية" وعلاجها لا يكون إلا على أيديهم، وإنني أتساءل: كيف يتمكن هؤلاء المعالجون من الحكم بأن فلانا أو علانا مصاب بالمس والتلبس الجني، فالأعراض التي يحكمون بها على المريض أنه كذلك، هي ذات الأعراض لكثير من الأمراض النفسية، كالهلوسات السمعية والبصرية، وهي معروفة عند الأطباء النفسيين ولها علاجاتها المعروفة والمجربة؟