مقالات مختارة

أُحِبُّهُم..!

1300x600
سعيدٌ هذا اليوم؛ لأنني أضمرت في نفسي أن أكتب عن أشخاص أحببتهم في الله، واعتقدت أنهم أفضل مجموعة بشرية تكوَّنت في وقت متقارب، وأحدثت إنجازاً لا نظير له في التاريخ الإنساني.

حين تُثني عليهم فأنت لا تزيدهم شرفاً، بل تكتسب الشرف بذكرهم، ولا أبالغ إن قلتُ إنه يَصْدُق عليهم أنه عند ذكرهم تنزل الرحمة.

طفلاً قرأت كتاب (صور من حياة الصحابة) للأستاذ عبدالرحمن رأفت الباشا بكامل أجزائه اللطيفة الملائمة لشباب لتوّه بدأ القراءة، وحفظت مطلعه حيث يقول: اللهم إني أحببت صحابة نبيك -صلى الله عليه وسلم- أصدق الحب وأعمقه، فهبني يوم الفزع الأكبر لأيهم شئت، فإنني ما أحببتهم إلا فيك يا أرحم الراحمين.

قرأتُ القرآن الذي هو رسالة الله الخاتمة للإنسان، فوجدته يتحدث عنهم، ويُثني عليهم، ويُقدِّمهم أنموذجاً يحتذى في السبق، والفضيلة، والتضحية، والإيمان..

ووجدته يسرد تفاصيل حياتهم العامة؛ في العلاقات الاجتماعية، والعمل الجهادي، والحراك السياسي، والعبادة، والتَّبَتُّل، ويُرَسِّمهم قدوة لمن بعدهم، حتى حين يخطئون كيف يتصرفون ويثوبون ويعتذرون!

لا عجب فالقرآن كله نزل بينهم، وكل أسباب النزول تتعلَّق بهم، فقد رضي الله عنهم إذ يبايعون نبيّهم تحت الشجرة، {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (18:الفتح).

هنيئاً لجيلٍ يُسجِّل لهم ربهم رضوانه في فاتحة الآية، ويصفهم بالإيمان ويُعلن صدق بيعتهم، ويشهد على ما في قلوبهم - وكفى بهذا تزكية - ويكافئهم بإنزال السكينة، والفتح القريب.

ولا غرابة فهم جلساء محمد -صلى الله عليه وسلم- ووزراؤه وتلاميذه وطلاب حلقاته، وخرِّيجو مدرسته، ورفقاؤه في السفر، وجلساؤه في الحضر.

وفيهم أزواجه، الطاهرات، المطهرات، القانتات، العابدات، الحافظات.. وهم القديسون الذين بشرت بهم كتب السماء، وفتح الله بهم الأرض، وحفظ بهم التنزيل، وأقام بهم الملة، وأتمَّ الدِّين.

كانوا يسألونه فيُجيبهم، ويُصَلُّون خلفه فيقول: {وَلاَ الضَّالِّينَ} (7:الفاتحة)، فيقولون: آمين، ويقول: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فيقولون: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وينادي للجهاد، فيقولون: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، ويُصرَعون بين يديه فرحين مستبشرين وهم يقولون:

كَذَبتُم وَبَيت اللَهِ نُبزى مُحَمَّداً... وَلَمّا نُطاعِن دونَهُ وَنُناضِلِ

وَنُسلِمهُ حَتّى نُصَرَّعَ حَولَهُ... وَنذهلَ عَن أَبنائِنا وَالحَلائِلِ!

الثناء عليهم ثناء على النبي؛ الذي تعلَّموا على يديه، وتربّوا بأخلاقه، وقبسوا من هديه، وهم سر من أسرار امتيازه عن إخوانه من النبيين والمرسلين السابقين.

والقدح فيهم تنقص لمقام النبوة، وتشكيك في جدواها وأثرها وبصمتها في الناس والحياة.

لا ينقضي عجبي من أناس ينتسبون إلى الإسلام ثم يطعنون في جملتهم، ولا يستثنون منهم إلا أفراداً قلائل، فكيف لمثل هؤلاء أن يتوقَّعوا نجاحاً لشيوخهم ورموزهم الدينية في تربية أتباعهم وضبط سلوكهم؟ أفيظنون أن ينجح سادتهم فيما يزعمون أن أفضل البشر لم ينجح فيه؟
وحاشاه من ذلك بأبي هو وأمي!


لا ينقضي عجبي ممن يثور حين يُتهم شيوخه وقادته بالفشل والإخفاق، ولا يبالي أن يَصِم أفضل الأنبياء بذلك حين يتجرأ على نخبة أصحابه، وينسب إليهم من النقائص ما يتنزَّه عنه عامة الناس العاديون؛ الذين لم يتلقوا تربية، ولم يصاغوا في محضن!

لا ينقضي عجبي ممن يقول إنه يؤمن بالرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم يزعم أن أصحابه المقرَّبين منه خدعوه، وزيَّفوا عليه الحقائق فصدقهم، ولم تنكشف حقيقتهم طيلة حياته، ثم يدعي أن أئمته يعلمون الغيب ويكشفون المخبأ!

ولو قيل عن أحد شيوخه المرموقين أن من حولهم كانوا يخدعونهم ويُظهرون لهم خلاف ما يبطنون، ويكذبون عليهم فيُصدِّقون، لعدَّ هذا طعناً في عقولهم وتَنَقُّصاً لذكائهم!

لا ينقضي عجبي ممن يغارون على أزواجهم وبناتهم، ويغضبون لمحارم زعمائهم، ويعدّون التعرض لهن جريمة وانحطاطاً، ثم تطاوعهم ألسنتهم في الوقيعة في امرأة اختارها الله وفضَّلها، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيت في لحافها، ويتوضأ ويغتسل معها، ويصحبها في سفره وحضره، ويجد متعة الحديث معها ثم يموت في حضنها..

لم أستطع أن أفهم كيف تواردت ملايين من المغيَّبين عبر قرون على توارث معاني السَّب والوقيعة، وتداول مرويات تزخر بها آلاف المدونات كل ما فيها الازدراء والتَّنَقُص لجيلٍ سمع الوحي لأول مرة وحفظه، وكان هو التطبيق العملي لتعليماته، وكان الله يتعاهدهم من فوق سبع سماوات بالتوجيه، والتسديد، والتصحيح، والتأييد، والمعاتبة.

وبكل وضوح فلا أجد سبباً للإلحاد والشك أقوى من هذا السبب، فكيف تريدون من الناس أن يؤمنوا بواقعية هذه القيم، وإمكانية تمثلها في الحياة وصدقها إذا كان الرعيل الأول حَوّلها في اعتقادكم إلى وسيلة لطلب الدنيا والتنافس عليها، ووظَّفها للخداع من أجل الرئاسة والسياسة والسلطة!

لماذا تغضبون عندما تسمعون تحليلاً سياسياً عن دولةٍ (ما)؛ يكشف صراعاً محتدماً على السلطة، ومؤامرات تُحاك، وخداعاً باسم المذهب والطائفة، واستقواء بالأعداء والخصوم، وتخطيطاً للانقلاب على الحال الراهن والتحول إلى نقيضه، وأنتم تنسبون هذا لأبي بكر، وعمر، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد.. وإخوانهم؛ رضي الله عنهم، وحشرنا معهم، وألحقنا بهم..

إنني أدعو الأجيال الجديدة الواعية إلى الثورة على هذا التراث المنحرف، والبراءة منه، وعدم الاغترار بكثرته أو بما رُكِّب له من الأسانيد والرجال والقصص، والانتباه إلى أن المذاهب البشرية تتطوَّر وتتبدل مع الزمن، ويضيف كل جيل إليها من عندياته ما يناسبه حتى ترثه الأجيال اللاحقة مثقلاً بأغلال وأحمال يعز عليها تركها، ويصبح الرافض لها منبوذاً في مجتمع مغلق معزول محكوم بسلطة تقليدية منتفعة، وكأنه نظام القبيلة الجاهلي؛ الذي كان يتبرَّأ من متمرديه، ويسلمهم للصعلكة والفقر والهوان!

اللهم إني أبرأ إليك من كل قول أو قائل يقول في أصحاب نبيك وخلفائه وأزواجه غير الحق، وأسألك أن تحشرنا في زمرتهم، وتنظمنا في سلكهم، وتجمعنا بهم في جناتك ورضوانك يا أرحم الراحمين.



(نقلا عن صحيفة بوابة الشرق)