كتاب عربي 21

الجبهة الجنوبية وصداع جبهة النصرة

1300x600
لا شك بأن الجبهة الجنوبية في سوريا تتمتع بأهمية استثنائية لدى كافة أطراف الصراع المحلي والإقليمي والدولي نظرا لموقعها الجغرافي وأهميتها الاستراتيجية، ويبدو أن جبهة النصرة باتت تشكل قلقا مضاعفا وصداعا مؤكدا لكافة الأطراف منذ سيطرتها على إدلب مع جماعات قريبة إيديولوجيا في إطار "جيش الفتح".

وقد بلغ الصداع أوجه مع سيطرة النصرة مع فصائل أخرى على معبر نصيب في الجبهة الجنوبية رغم انسحابها منه لاحقا، إذ لم تفلح الجهود الإقليمية والدولية بدفع جبهة النصرة إلى مزيد من التكيّف مع الشأن الداخلي السوري وفك ارتباطها مع تنظيم القاعدة.

لا تخفي الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في إطار "غرفة العمليات المشتركة" في الأردن قلقها البالغ من التحولات الجارية في الجبهة الأخطر في الجنوب السوري المتاخمة للحدود السورية الأردنية والسورية الإسرائيلية، فعلى الرغم من دعم وإسناد مكونات الجيش الحر وممثلهم الأبرز فصائل "الجبهة الجنوبية"، إلا أن ما حدث في إدلب يضفي ظلالا من الشك على قدرة مكونات "الجبهة الجنوبية" رغم جودة تسليحها وضخامة عدد أفرادها والذي يتجاوز (30) ألف مقاتل.

خطورة جبهة الجنوب وأهميتها الاستراتيجية كانت قد دفعت في 11 شباط/ فبراير 2015 قوات التحالف الذي يضم إيران والنظام السوري و"حزب الله" إلى شن هجوم عسكري واسع ضد فصائل المعارضة المسلحة في جنوب سوريا، بالقرب من الحدود مع إسرائيل والأردن، شارك فيه حوالي (5) آلاف مقاتل، حيث استهدف الهجوم محافظتي درعا على الحدود مع الأردن، والقنيطرة على الحدود مع هضبة الجولان التي تسيطر عليها إسرائيل، وقد شارك في العمليات القتالية عناصر من الجيش الإيراني وفي مقدمتهم الجنرال قاسم سليماني، قائد "فيلق القدس" الجناح الخارجي لـ "الحرس الثوري". 

لقد كانت الحملة العسكرية تحمل في طياتها عواقب استراتيجية خطيرة على قوى الثورة السورية الموالية للغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا وحلفائها من الدول العربية وإسرائيل، الأمر الذي استدعى تحركا سريعا لغرفة العمليات المشتركة بدعم واسناد فصائل الجبهة الجنوبية التي تمكنت من استعادة السيطرة على عدة مناطق كانت قد خسرتها بداية المعارك لكنها سرعان ما تمكنت من تحرير مناطق جديدة وسيطرت على بصرى الشام في 25 آذار/ مارس 2015، ثم اندفعت باتجاه تحرير مناطق أخرى ومن أهمها معبر نصيب الذي سيطرت عليه مجموعة من الفصائل وفي مقدمتها "جبهة النصرة" في 1 نيسان/ إبريل 2015.

شكلت عملية تحرير معبر نصيب وسيطرة جبهة النصرة صداعا لغرفة العمليات المشتركة رغم انسحابها لاحقا من البوابة الحدودية لمعبر نصيب الحدودي مع الأردن، فقد تضاعف القلق من تكرار سيناريو إدلب بهيمنة النصرة مع حلفائها من الفصائل الإسلامية على جبهة الجنوب في لوائي القنيطرة ودرعا،  فعندما أعلن عن تأسيس "جيش الفتح" من عدة فصائل إسلامية مسلحة (جبهة النصرة، وأحرار الشام، وجند الأقصى، وجيش السنة، وفيلق الشام، ولواء الحق، وأجناد الشام) في ريف إدلب شمال غربي سوريا لتحرير محافظة إدلب من قبضة قوات النظام السوري، في 24 آذار/ مارس 2015، وهو ما تحقق سريعا بعد أربعة أيام بتحرير إدلب في 28 آذار/ مارس 2015، وقد جاء في بيان صادر عن الكتائب المتوحدة: "إن الحاجة لتحرير إدلب وحلب وباقي المدن السورية، بما في ذلك العاصمة دمشق، تتطلب تضافر الجهود للقضاء على القوات الإيرانية وقوات نظام الأسد وميليشيات حزب الله الشيعي"، الأمر الذي يؤسس لتعميم التجربة في جبهات أخرى. 

على الرغم من تأكيد زعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني، في تسجيل صوتي عنوان "نصر من الله وفتح قريب"، صدر في 1 نيسان/ إبريل 2015، على بعث رسائل تطمينية بأن الجبهة لا تسعى إلى حكم مدينة إدلب بعد أن سيطرت عليها المعارضة المسلحة، وأنها تقبل حكما على أساس الشورى، حيث قال: "إننا كجبهة النصرة نؤكد على عدم حرصنا على حكم المدينة أو الاستئثار به دون غيرنا، وإنما حرصنا أن تكون المدينة بأيد أمينة يحققون فيها العدل ويسحقون الظلم ويحكمون بشرع الله ويبسطون الشورى"، ودعوته إلى تشكيل "لجنة إشراف من قبل الفصائل" للنظر في أحوال أهل إدلب وتلبية احتياجاتهم،  إلا أن كلمته حملت تهديدا مبطنا وظاهرا للداخل والخارج، حيث أكد الجولاني على أهمية الحفاظ على النصر الذي تحقق في إدلب، داعيا الفصائل السورية إلى نبذ الفرقة، ومواصلة العمل حتى تحرير المحاصرين في دمشق وريفها وحمص وحلب، لكنه حذر من السعي وراء الغرب قائلا: "إن ريح النصر التي هبت على أرض الشام تثبت للجميع أن السعي خلف الغرب ودول الإقليم لتحقيق النصر لهو سعي خلف السراب، فإن النصر وعز الإسلام لن يعود على أيدي القتلة المجرمين كما ولن يعود على أيدي عملاء الغرب"، الأمر الذي يشير إلى فشل الجهود الرامية لتفكيك العلاقة والارتباط بين جبهة النصرة وتنظيم القاعدة. 

بين تحرير إدلب ومعبر نصيب كان صداع جبهة النصرة يتعاظم لدى غرفة العمليات المشتركة، حيث بدأت عملية هجوم واسعة على النصرة عن طريق فصائل الجبهة الجنوبية، إذ أصدرت مجموعة من فصائل "الجيش الحر" بيانات عديدة منددة بنهج النصرة وعبرت عن "رفضها التامّ للفكر المتشدد الذي تتبنّاه جبهة النصرة"، فقد أصدرت كل من ألوية "سيف الشام"، و"الجيش الأول"، و"فجر الإسلام"، و"جيش اليرموك"، و"الفيلق الأول" بيانات مشتركة، توضح فيها رفضها أي "تعاون أو تقارب عسكري أو فكري مع تشكيل جبهة النصرة"، كما اعتبرت قيادة "جيش اليرموك" أن "الجبهة الجنوبية، هي المكوّن العسكري الوحيد الممثل للثورة السورية في الجنوب السوري".

لم تصدر "جبهة النصرة" بيانا بالرد على بيان الفصائل، إلا أن السجال كان واضحا على شبكات التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي وعلى جبهات القتال في العالم الواقعي، حيث برزت الاتهامات لفصائل الجيش الحر في الجبهة الجنوبية بالعمالة للغرب والولايات المتحدة والأردن وغيرها، الأمر الذي ظهر في سياق ردود بعض قادة فصائل الجبهة الجنوبية، حيث  قال قائد "ألوية سيف الشام"، أبو صلاح الشامي، إن "قرارهم بوقف التعاون مع جبهة النصرة أو أي فصيل يحمل فكراً متطرفاً، هو قرار وطني سوري ثوري، لا يمت بصلة لأي رغبة خارجية، وسنكون جنوداً لمصلحة سورية وشعبها وثورتها" كما أكد الشامي أن "جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وجهان لعملة واحدة، وأحد أسباب بقاء النظام، وأكثر من أساء للثورة أمام الرأي العام"، مستذكراً "تسهيل جبهة النصرة لتنظيم الدولة التسلل إلى مخيم اليرموك، جنوب دمشق، والتنكيل بأهله".

كان من الواضح أن بيان فصائل الجبهة الجنوبية بخصوص النصرة لم يكن ذاتيا، فهو لا يبدو مقنعا على الصعيد الميداني، وإنما يشير إلى القلق الدولي والإقليمي، فمبررات المقاطعة كانت هزيلة واقعيا استندت إلى أن "النصرة لم تلتزم بقرارات "دار العدل" (هيئة قضائية تكونت من جبهة النصرة وفصائل الجيش الحر وجماعة بيت المقدس وحركة أحرار الشام الإسلامية وحركة المثنى) إثر حادثة السيطرة على معبر نصيب، وما سببته من خلافات بين الفصائل، في الوقت الذي أصدرت فيه دار العدل بياناً يدعو للتهدئة بين الفصائل ويطالب بحلّ الخلافات"، و"قيام عناصر من النصرة بضرب امرأة من عائلة المسالمة في درعا البلد، الأسبوع الماضي، بعد أن حاولت ردع عناصر النصرة عن اعتقال ابنها"، كما أن "النصرة تخلّت عن مخيم اليرموك وأدخلت داعش إليه".

لا جدال بأن جبهة النصرة لا تتوافر على تجانس إيديولوجي وتنظيمي، وهي تتوافر على اختلافات شديدة بين أجنحتها ومناطق سيطرتها، إلا أنها تبنت نهجا براغماتيا تكيّفت من خلاله مع كافة الجبهات وحاولت التواصل مع سائر الفصائل والأطراف، وربما تكون جبهة النصرة أكثر تكيفا في جبهة الجنوب نظرا لتجانس بنيتها الإيديولوجية والتنظيمية بقيادة الأردني أبو جليبيب (إياد الطوباسي) وشرعي النصرة الأردني الدكتور سامي العريدي، وانسجام أعضائها مع المكون الاجتماعي العشائري والمدني، لكن تجربة النصرة في أماكن مماثلة حملها على التعامل بصرامة مع بعض مكونات الجيش الحر الذي تعاطى معها كما تفعل فصائل الحر في الجبهة الجنوبية، فقد قامت "النصرة" بإنهاء فصائل من "الجيش الحر" بشكل كامل، مثل "حركة حزم" و"جبهة ثوار سورية"، بقيادة جمال معروف.

خلاصة القول أن الصدام بين فصائل الجبهة الجنوبية وجبهة النصرة بات قريبا، فقد فشلت الجهود الإقليمية والدولية الرامية لدفع النصرة إلى مزيد من التكيّف مع الشأن السوري وفك ارتباطها مع تنظيم القاعدة، وقد نشهد ائتلافا جديدا بين النصرة وفصائل إسلامية في الجنوب كما حدث مع تجربة "جيش الفتح" في إدلب، وإذا دفعت الجهات الإقليمية والدولية الداعمة لفصائل جبهة الجنوب باتجاه الصدام مع النصرة فسوف تكون خيارات الفصائل الإسلامية في الجنوب محسومة بالانحياز للنصرة بدءا من حركة أحرار الشام الإسلامية، ومرورا بحركة المثنى الإسلامية، وصولا إلى "لواء شهداء اليرموك، ويبدو أن غرفة العمليات المشتركة لا تزال تدرس خطة الهجوم على النصرة وطبيعة المعركة بين الاستدخال والاستئصال، وهي خيارات تتوافر على خطورة بالغة سوف تعمل على تعزيز موقف تنظيم الدولة الإسلامية ورؤيتها الاستراتيجية الصلبة.