كتاب عربي 21

روسيا والغرب والعرب في ظل التوتر الأوروبي المتصاعد

1300x600
مستعيراً كلمات الفيلسوف الروسي إيفان إليين، قال الرئيس فلاديمير بوتين في كلمته السنوية حول حال الاتحاد (الخميس، 4 كانون الأول/ديسمبر)، أن من يحب روسيا يتمنى لها الحرية والاستقلال، الاستقلال والحفاظ على موقعها الدولي؛ وبعد حرية روسيا تأتي الحرية لنا جميعاً. تلخص هذه الكلمات، ربما، ما يمكن أن يسمى عقيدة بوتين: الدولة الروسية أولاً، قوة الدولة، ودورها على المسرح العالمي، ثم تأتي بعد ذلك حقوق الشعب الروسي ومتطلباته. في أحد وجوهها، لا تمثل هذه السياسة جديداً، فقد كانت هي أيضاً سياسة القياصرة، سيما قياصرة الحقبة التالية على الثورة الفرنسية، عندما أصبحت روسيا طرفاً رئيسياً في توازنات قوى القارة الأوروبية.

وبخلاف معظم دول القارة الأخرى، بما في ذلك السلطنة العثمانية، لم يكن ثمة تلازم بين رفاه الشعب الروسي وقوة ونفوذ دولته؛ بمعنى أن ازدهار الاقتصاد الروسي وتوفر حاجات الشعب الأساسية لم يكن شرطاً لحركة الدولة في المجال الدولي واستعدادها للانخراط في حروب كبرى ومكلفة. الجديد، أن يستدعى هذا المبدأ في القرن الحادي والعشرين، حيث صنعت متغيرات أدوات الاتصال وانتشار وسائل الثقافة والمعرفة عالماً يصعب فيه تجاهل طموحات الشعوب، وقدرتها الحثيثة على رؤية وضعها بالمقارنة مع أحوال شعوب العالم الأخرى.

وهذا، ربما، ما شكل الدافع لفقرات خطاب بوتين القتالية الأخرى. قال بوتين في واحدة من أكثر كلماته صراحة حول علاقة بلاده بالغرب: «إن الغرب يحاول من عقود، إن لم يكن من قرون، تقويض مقدرات روسيا…. وإن لم تكن هناك أوكرانيا، لاخترعوا مبرراً آخر لاحتواء روسيا بالعقوبات. إن سياسة الاحتواء لم تخترع بالأمس؛ وقد طبقت على بلادنا لسنوات عديدة. في كل مرة رأى أحدهم أن روسيا أصبحت قوية ومستقلة، عادوا إلى هذه الأدوات لتطبيقها». وبعد أن أشار بوتين إلى قوة جيش روسيا واستعداده الدائم، أكد على قناعته بأن القوى الغربية حاولت بالفعل في التسعينات تفتيت روسيا، كما فعلت في يوغسلافيا، منهياً هجومه المباشر على القوى الغربية بالقول، «لبعض الدول الغربية، ترى العزة القومية باعتبارها رفاهاً، ولكنها لروسيا ضرورة».

خلال السنوات منذ توليه الحكم في روسيا، أقام بوتين سياسته على أساس من معادلة بسيطة: استعادة الأمن وتحسين مستوى المعيشة للروس، بعد حقبة التسسعينات الكئيبة، مقابل تخلي الشعب عن الحرية بمعناها الليبرالي وتأييده مساعي تعزيز قوة الدولة في الداخل واستعادة بعض من موقعها ودورها في الخارج، سيما ما يعرف بالخارج القريب، أي جوار روسيا الاستراتيجي. وفر ارتفاع أسعار البترول من 30 دولاراً للبرميل في 2003 إلى 147 دولاراً في 2008، موارد كافية لمعادلة الحكم البوتينية. ولم يشكل انخفاض الأسعار بفعل الأزمة الاقتصادية – المالية في 2009 معضلة كبرى، نظراً لأن العقوبات على إيران واضطرابات ما بعد الثورات العربية، أعادت أسعار النفط لما يزيد عن المئة دولار سريعاً بعد ذلك. ولكن المستقبل يبدو بائساً، اليوم، من وجهة نظر وضع روسيا المالي – الاقتصادي. خلال أشهر قليلة من هذا العام، تضافرت العقوبات الغربية على روسيا بعد الأزمة الأوكرانية، والتدهور المتسارع في أسعار النفط، الذي يقدر له أن يستمر طويلاً هذه المرة، ليدخل روسيا بوتين في مأزق اقتصادي ومالي ثقيل الوطأة.

تمثل صادرات النفط والغاز ثلثي مجمل الصادرات الروسية، ولا تكاد روسيا تصدر أية سلع أخرى إلى جانب النفط والغاز والسلاح، يؤمن لها موقعاً بديلاً في السوق العالمية. ويقول منتقدو بوتين أنه أضاع سنوات الوفرة الماضية بدون أن يقوم بعملية التجديد التي تتطلبها القاعدة الصناعية الروسية المتهالكة، وغير القادرة على منافسة الصناعات الغربية والآسيوية. وحتى في مجال زراعي ضروري مثل البطاطس، تستورد روسيا البذور والأسمدة ومضادات الحشرات والآلات الزراعية. وهذا ما قد يفاقم من أزمة روسيا الاقتصادية المالية الوشيكة، بعد أن أطاحت أسعار النفط والعقوبات الغربية بمعدلات الدخل القومي وقيمة الروبل، أطلقت موجة هروب مالي هائلة من البلاد إلى البنوك الأوروبية الآمنة، وباتت تهدد الدخل الحقيقي للمواطن الروسي ومستوى معيشته. 

التوقعات السابقة بنمو الدخل القومي الروسي بنسبة 1.2 بالمئة العام المقبل، انقلبت إلى توقعات بالانكماش الاقتصادي. ولدعم الروبل وحمايته من الانهيار أمام الدولار واليورو، اضطر البنك المركزي الروسي لسحب 100 مليار دولار من احتياطي البلاد المالي، الذي اعتبر دائماً الإنجاز الأكبر لسياسة بوتين المالية. في الأسابيع الأخيرة، توقف البنك المركزي عن دعم الروبل، خوفاً من استنزاف الاحتياطي المالي، مما أدى إلى انحداره إلى أكثر من 52 روبل مقابل الدولار الأميركي (بعد أن كان الدولار يساوي أكثر من 30 روبل بقليل في 2013). تعتقد إدارة بوتين، وهي على الأرجح محقة في ذلك، أن الانهيار في أسعار النفط يعود إلى أسباب سياسية وليس إلى قوى السوق، وأن المستهدف في هذا الانهيار هو روسيا أولاً، وربما إيران أيضاً. كما يرى الروس أن العقوبات الغربية التي فرضت عليهم ليس لها من مبرر حقيقي، لأن الغرب هو الذي اعتدى على المصالح الروسية الحيوية، عندما شجع ما بدا أنه ثورة شعبية في نهاية العام الماضي على إطاحة رئيس منتخب في أوكرانيا. وما كان للغرب أن يدهش من قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم، لأن هذه الخطوة، كما أشار بوتين، لا تمثل سوى استعادة بقعة مقدسة للشعب الروسي. ولا كان للغرب أن يدهش من موقف موسكو من الانتفاضة القومية لروس أوكرانيا، الذين لن يقبلوا تحول أوكرانيا الموحدة إلى قاعدة لحلف الناتو على الحدود الغربية للوطن الأم. من وجهة نظر بوتين، تبدو روسيا اليوم، بعد توسع الناتو في أوروبا الشرقية وذهاب جورجيا وأوكرانيا غرباً، مهددة كما لم تهدد منذ نابليون وألمانيا النازية.

من وجهة النظر الغربية، ارتكزت روسيا السوفياتية إلى أداة عسكرية هائلة وقاعدة أيديولوجية صلبة، ذات طموحات عالمية، وشكلت بالتالي تحدياً كبيراً للغرب الليبرالي ونفوذه عبر العالم. لم تزل روسيا تحتفظ بأداة عسكرية معتبرة، وبالرغم من أن سلاحها الأيديولوجي ذو الجاذبية العالمية لم يعد متاحاً، فإن روسيا اليوم، إن أخذت كلمات بوتين في الاعتبار، ليست دولة قومية وحسب، ولكنها دولة قومية بالغة التشدد، تستخدم الأداة القومية لتثير سلسلة من النزاعات في قلب القارة الأوروبية، من شمال القوقاز إلى أوكرانيا ومولدوفيا، وربما دول البلطيق في الغد. وبعد أن كانت وثيقة الصلة بقوى اليسار، تقيم موسكو الآن علاقات وثيقة باليمين الأوروبي المتطرف، لتشجيعه على مناهضة الاتحاد الأوروبي. وإن كان البعض يعتقد أن الأيديولوجيا الاشتراكية وفرت المرجعية لسلسلة من صراعات الحرب الباردة، فالحقيقة أن التدافعات القومية كانت القاطرة الكبرى لتاريخ القارة الأوروبية الدموي منذ القرن الثامن عشر. روسيا بوتين، في نظر العديد من الغربيين، لا تقل خطراً عن روسيا السوفياتية، إن لم تكن أكثر خطراً. 

هذه التصورات المتقابلة بين روسيا والغرب، هي التي تجعل مستقبل العلاقة بينهما مفتوحاً على الاحتمالات.

ليس ثمة خطر من اندلاع حرب باردة جديدة؛ فبوتين يدرك أن روسيا لا يمكن لها تحمل أعباء حرب باردة. ولكن رؤية بوتين لماهية روسيا وموقعها ودورها، والأسس التي يرتكز إليها نظامه، تجعل من أية تراجعات إضافية في الساحة الأوروبية مصدر خطر مباشر ليس على دور روسيا وموقعها وحسب، بل وعلى وجود النظام أيضاً. والمشكلة بالنسبة للعرب لا تتعلق بالتوتر في الساحة الأوروبية، التي لا يكترث كثير من العرب لها، على أية حال.

المشكلة أن المزيد من التوتر، سيما بعد تخلي ألمانيا عن تحفظاتها تجاه فرض عقوبات غربية على روسيا، تجعل الأخيرة أكثر اهتماماً بمحاولة بناء علاقات مع دول أبعد من الخارج القريب، سيما دول الشرق الأوسط. والمشكلة الأكبر، أن الدول المرشحة في المشرق العربي – الإسلامي لبناء علاقات استراتيجية مع روسيا بوتين، على الأقل في المدى المنظور، هي في معظمها تلك الأكثر تسلطاً وطائفية وخصومة مع شعوبها.