مقالات مختارة

داعش واتحاد العاقل باللامعقول

1300x600
دمعت عيوني كما الكثير من العراقيين، وانا اتابع مقطع فيديو عن تقدم مشرف قام به الجيش ومساندوه في جرف الصخر، حيث يركض الشباب بحذر وينبه بعضهم بعضا الى مخاطر القنص. ولا اخفيكم ان العين تدمع على كل شاب عراقي يحمل السلاح في اي فريق كان.

اذ دائما يأتي مجانين ويتورطون في سياسات حمقاء، واحلام حمقاء، ثم يجري استدعاء شباب من كل حدب وصوب، وانتزاعهم من مخادع امهاتهم، كي يصححوا اخطاء ناقصي الحكمة في السلطة، او المهووسين بالدم في الحركات المتشددة.

ولا ادري ما الذي جعلني اتذكر صدر المتألهين الشيرازي، حين سألني كاتب لبناني معروف قبل ايام: ما اخبار العراق؟ وبلا ادنى تفكير، تلفظت باسم ملا صدرا، الذي لم افتح له كتابا منذ 15 سنة، وقلت لصاحبنا: اننا نموذج لما اقترحه فيلسوف الحكمة المتعالية والاسفار الاربعة، في حديثه عن العقاب والثواب الاخروي. ان داعش هي "تجسم لاعمالنا".

ونظرية "تجسم الاعمال" خيال ادبي ولاهوتي وتربوي قديم، نلاحظه حتى عند اليونان واخوان الصفا، لكن الشيرازي اسنده ببراهين من
داخل منظومته الفلسفية، مستعينا بمبدأ "اتحاد العاقل والمعقول" ونحوه، في الدفاع عنها. والنظرية تفترض ان اعمال الخير تتحول يوم القيامة الى كائنات ملموسة، حلوة، تسر القلب وتحيط بنا لمكافأتنا. اما عملنا الشرير، فيتحول في القيامة الى كائن مخيف بشع يلتصق بنا فيعذبنا ملمسه ورائحته ومظهره، لمجازاتنا. ان داعش هي تجسم بشع لليأس والفشل والتهور السياسي وتجاهل النصائح.

واذا كان الشيرازي قد استعار خيال اللاهوتيين والاخلاقيين والمتصوفة، وافرغه في قالب الحكمة النظرية المعقدة، مستعينا بمبدأ "اتحاد العاقل بالمعقول"، فان داعش قد تسمح لنا بالتصرف بالعبارة، والزعم بأن احلام "الخليفة" هي نتاج "اتحاد العاقل باللامعقول" وذلك حين يضطر اهل العقل للخضوع لتدابير لا يمكن تعقلها، ودفع ثمن وجود المجانين على الكرسي الهزاز لصناعة القرار.

وعبر عقود كان اليأس السياسي العام، موجة ركبها مجانين من اليسار واليمين. وداعش، مع الاحتفاظ بالفارق الكبير احيانا مع الراديكالية التقليدية، تركب موجة يأس عابرة لسوريا والعراق. وهي تستخدم بالنحو الامثل منطق القرن الواحد والعشرين وايقاعه السريع. كما انها سعيدة بمواجهة اضعف سياستين في المنطقة كما تمثل الامر في بغداد ودمشق. ونادرا ما تجتمع هذه الظروف المثالية لحركة متشددة، لذلك فان التاكيد على انهم مجرد فريق مجرم وفاسد العقيدة، لن يقدم العلاج الاستراتيجي، في منطقة تزخر بكل انواع الجريمة والاضطهاد مثل الشرق الاوسط، حيث تتبادل الطوائف اتهامات عن ذبح يومي.

ويمكن للتضحيات والعمل العسكري الدؤوب، ان ينتهي بزوال دولة البغدادي، لكن الفكرة في وسعها ان تتجذر، وتفرخ "خلفاء" كثيرين مثل العديد من رموز "الجنون الثوري" الذين فقدوا تاثيرهم كاشخاص الى حد بعيد، لكنهم ظلوا مثالاً يفرخ عصابة تلو اخرى.

ولا شك ان وجود ساسة حكماء سيخفف من مستقبل العنف البشع، لكن النخبة السياسية في المنطقة، ستظل غير مؤهلة بمفردها لمنح امل كافٍ مضاد لداعش وامثال داعش، لان العرب والمسلمين يشعرون بان كل الدنيا ضدهم، وكثير من شبابهم يحلمون بثورة عظمى ضد الكون بأسره. ولذلك فان التحالف الدولي الذي يجمع السلاح لمواجهة هؤلاء، عليه ان يفكر داخل عجلة العولمة المبهرة والقاسية، كيف يصنع بعض الامل للجمهور في خارطة العالم القديم. وهذا امر تناوله الجميع طوال مائة عام بلا نتيجة!

داعش كما قد نكتشف بعد عشرة اعوام، ليست سوى بداية ل"تجسم اعمال" القادة الفاشلين، والنظام الدولي المنطوي على ظلم كثير، فصندوق الجنون مليء بسيناريوهات يتحد فيها "اللامعقول المحلي باللامعقول الدولي"، واذا كان بن لادن قد سرق طائرة وهدم برجاً، فان احفاده قد يمتلكون طائرات وقنابل جرثومية، بعد ان ينجحوا في امتلاك ابار نفط وموانئ ومطارات، وحين "تتجسم" الاعمال فإنها لا تمزح، ولذلك فان اي تهاون في تنصيب الحمقى كامراء يصنعون القرار، هو تشجيع لكل العفاريت المستحيلة، كي تنبعث وتبهرنا بألعاب نارية وسماوية وارضية، لم تكن تخطر على بال.


(المدى العراقية)