كتاب عربي 21

نوبل الذي لا يتكلم العربية

1300x600
مرت جوائز نوبل كالعادة فوق رؤوس العرب فلم ينالوا منها إلا الإخبار عنها أو التباكي عليها والتعزي بجلد الذات القاصرة والمغبونة. وأرجو أن لا يقع مقالي هذا في المزيد من جلد ذات تقرحت حتى لم تعد تقوى على المزيد من القروح. لكن من يهن يسهل الهوان عليه وما لجرح بميت إيلام.

قيمة الجائزة واستعمالاتها السياسية:

للجائزة أقسام علمية (طب وفيزياء وكيمياء) تمنح بناء على نتائج أبحاث مفيدة للإنسانية ولذلك تكون غير قابلة للتوظيف السياسي مثل جائزة السلام أو الأدب وهما الفرعان المثيران للجدل أكثر من غيرهما.

ورغم ذلك فأن القيمة المالية للجائزة ليست مقصودة في ذاتها أو أن الطامحين إليها يريدون الغنى المادي بقدر ما يسعون إلى الاعتبار الأدبي الذي تسمح به الجائزة (لا شك أنها تشكل تقاعدا مريحا لأديب عاش فقيرا حتى نهاية مشواره في الكتابة) وهنا ترتفع قيمة جائزة السلام وجائزة الأدب في العالم حيث يتحول الحاصلون عليها إلى رسل سلام ووسطاء خير وسفراء نوايا حميدة في فض النزاعات الدولية المتفاقمة فالجائزة تمنحهم أدوارا بعد الحصول عليها أكثر مما كان لهم قبلها بما يحولهم إلى شخصيات اعتبارية (في المجتمع الدولي/ العالمي) فكأنما تعيد الجائزة صناعتهم وتدويرهم في سياق مبادئ كبرى تشرٍّف المدافعين عنها وإن كانت بعض هذه الأدوار مسطرة بعناية وموجهة لأهداف محددة وليس بالضرورة محل إجماع عالمي مثل مقاومة الإرهاب الدولي والشق المتأسلم منه بالخصوص والذي يشك في أنه غير موجه ومصطنع.

بحيث يجد جماعة نوبل أنفسهم أحيانا  يشاركون رمزيا في معارك لم يعرفوا أسبابها ولا يطلعون على كواليسها ولا على نتائجها.

الجائزة المتعلقة بالسلام خاصة تصنع صاحبها وتوجه فعله وتستعمله أكثر مما يستعملها  بما يجعلها جائزة موجهة لفئات محددة قابلة لإعادة الاستعمال طبقا لاجندا ولذلك لا نعتقد أنها تمنح بشكل موضوعي وهنا نتذكر أمثلة كثيرة منها ما منح للبابا جون بول 2 الذي ساهم بشكل لا يقارن في إنهاء منظومة الدول الاشتراكية انطلاقا من مكانته الدينية في بولونيا ثم في مركز البابوية ثم طاف العالم مبشرا بكسوة الدين وكسوة السلام العالمي المثبت بالجائزة.

واليه نظيف منح الجائزة لأنور السادات بالاشتراك مع صناع السلام والذي عمل على طمس القضية الفلسطينية طمسا نهائيا وتثبيت الكيان الغاصب في المنطقة. وهو السياق نفسه الذي منح نصف الجائزة لياسر عرفات ثم سحبها منه.

كان المطلوب استعمال الجائزة سياسيا عبر اختيار مستحقيها وإعادة تكليفهم بمهام محددة ليست بالضرورة مهام لصالح أوطانهم بل في الغالب ضدها.

لماذا لم تمنح الجائزة للاتحاد العام التونسي للشغل؟

راهنت المنظمة النقابية التونسية على الجائزة ودعمتها شخصيات اعتبارية من تونس  لنيل الجائزة ومنها بالخصوص رؤساء الجامعة التونسية باعتبارهم زبدة النخبة التونسية لكن الجائزة طارت إلى آسيا وحصل علها شخصان لا يعرف أدوارهما إلا المحليون في الباكستان والهند.

وبين البلدين بؤرة توتر تعود إلى أكثر من قرن إذا أخذنا في الاعتبار الخلاف العقائدي بين الهندوس والمسلمين والذي حرضه الانجليز منذ بداية احتلالهم للمنطقة.

وقد ظهرت شخصيات كثيرة داعمة للسلام في المنطقة ولكنها لم تحصل على الجائزة ولذلك فان منح الجائزة للمنطقة الآن هو تمهيد لعمل دولي هناك سيوجه الفائزان للمشاركة فيه لاحقا فالجائزة إذن تصنع مبشريها لتطلقهم في مهامهم الجديدة ضمن أجندا لم تنكشف بعد.وعاد النقابيون التونسيون ومن زكاهم بخيبة غير قابلة للقياس.

النقابة التونسية ليست صانعة سلام عالمي ولا حتى سلام  محلي  وتاريخ النقابة مشحون بالعداء للكيان الصهيوني منذ نشأته في كنف حركة تحرر عالمي في الأربعينيات إذ وضع النضال الاجتماعي ضمن النضال الاجتماعي الذي تعمل عليه النقابات عادة (وهو تاريخ وخطاب تمجده النقابة في الداخل وتصنع منه شرعيتها).

وحتى عندما يهادن نقابيو الصف الأول السلطة السياسية ذات العلاقة المشبوهة بالكيان (دولة بن علي وقبله دولة بورقيبة) فان منخرطي النقابة و قواعدها تتغذى سياسيا من الموقف النضالي ضد الكيان وهو أمر مكشوف لجواسيس الجائزة ولا يمكن خداعهم بدور مرحلي زعمت فيه القيادة النقابية قيادة الثورة التونسية  التي رفعت فيها شعارات  من قبيل (الشعب يريد تحرير فلسطين).

يعرف النقابيون إن الجائزة تحتكم إلى أجندة سياسية  تقوم على مسلمة ثابتة هي أمن إسرائيل.

ولذلك فإن ترشحه ينم عن جهل سياسي مدقع بالمعطيات التاريخية للجائزة وأجندتها أو تجاهل لهذه المعطيات في نوع من التغابي الأحمق  الذي نال خيبة يستحقها أو دعوة إلى  استخدام في دور دولي يمهد هذا السلام.

كأنما تقول القيادة النقابية ومن يزكيها "زيدونا شرعية ومكانة بهذه الجائزة في الداخل لنؤدي الدور الذي تريدون في الداخل والخارج"  إنها نوع من عرض الخدمة على من يريدها أو هو الارتزاق في سوق السياسة الدولية خاصة لجهة العداء المستحكم بين القيادة النقابية وأنصارها وبين التيار الديني في تونس والذي اسقط الاتحاد حكومته بعد الثورة وهو التيار الموصوف بالاخوانية أي بالحمساوية والذي لا يخفى حماسه في مناصرة حماس بغزة خاصة في معركة صيف 2014 والتي خرست فيها المنظمة النقابية خرسا تاما رغم ضغط القواعد النقابية لاستعادة تضامن المنظمة مع النضال الفلسطيني.

لقد كشف الصمت نوايا الترشيح وأعلن الاستعداد للاستخدام السياسي محليا ودوليا في اتجاه سلام الجائزة فضلا عن مساندة القيادة النقابية للانقلاب على الديمقراطية في مصر وانحياز العسكر إلى الكيان في صيف 2014.

لقد انتهت النقابة إلى خيبة كبيرة ما كانت في حاجة إليها وذهبت الجائزة إلى من رآه أهل الجائزة مستحقا أو قابلا للاستخدام في أجندة لا يمكن أن تقوم بها منظمة ذات إشعاع محلي يتبين سريعا انه أجندة حزبية ضيقة الأفق وغير بناءة  خاصة لجهة إعاقة الديمقراطية المحلية في أول تجاربها في العالم العربي.

ربما كان رهان الجائزة على الديمقراطية المحلية  أكثر من رهانها على التظاهر بالوداعة السياسية في ظرفية تحول وربما تمنح الجائزة فجأة إلى عدو المنظمة الذي يقدم أطروحة سياسية واعدة لمزج صيغة معتدلة من الإسلام السياسي مع الديمقراطية الغربية وهو أفق تفكير يعد بالكثير خاصة لجهة تقديم بديل للحروب الدينية المرهقة للميزانيات الغربية والتي تزيد في كلفة الطاقة على الاقتصاد الدولي.

الجائزة التي لم تمنح لدرويش  جائزة غير محايدة

دون رثاء للذات ولا تباك فان خلاصة القول في الجائزة هي إنها لم ترتق في وعيها وفي أدبها وفي إنسانيتها لأنها لم تمنح لشاعر مقاوم قضى دهره يؤلف هوية وطنه ضمن المكان والزمان والإنسان ومات بعد إن جدد الشعر والرموز وتحول إلى مغناة إنسانية لذلك نقول دون تعزية مادامت إسرائيل في أجندة الجائزة فإنها ستظل جائزة سياسية غير محايدة ولا ترفع من قيمة أحد عند أحد إلا إذا كانت لديه استعدادات لتقديم خدمة الدعاية المجانية لسلطة الآخرين عليه أي استبطان هزيمته الذاتية وتلذذها بمازوشية مفعمة بالخنوع.

إنها المسافة الأخلاقية الفاصلة بين محمود درويش وحسين العباسي.