مقالات مختارة

واشنطن والأفق السياسي لـ «الحرب على داعش»

1300x600
كتب عبد الوهاب بدرخان: تَلقى «الحرب على داعش» إجماعاً دولياً، باستثناء روسيا وايران اللتين تؤيدان «مبدئياً» القضاء على هذا التنظيم الإرهابي وتعارضان، كلٌ لأسبابها، الآلية المتبعة لتحقيقه، لكن عدم تقدّمهما بأي أفكار لتطوير تلك الآلية أفشى استياءهما فقط من استبعادهما، لأسباب مفهومة، عن «التحالف». من بين الحجج الروسية والإيرانية أن هذه الحرب تفتقد الى أفق سياسي لـ «ما بعدها»، ويشاطر العديد من أعضاء «التحالف» هذا المأخذ، بتشكيك علني أو ضمني في نيات الولايات المتحدة. فلا أحد يعتقد أن الأزمة، التي تحوّلت إلى حرب، تتعلّق فقط بتطوّر مفاجئ اسمه «داعش»، بل هي سياسية أساساً. وإذ تريد طهران التأكد من أن نفوذها في سوريا والعراق ولبنان لن يتآكل بفعل الحرب، ولا تريد موسكو خسارة الأوراق التي كسبتها ولعبتها في سوريا، فإن للدول الأخرى على اختلافها مقاربات متنوّعة لما بعد الحرب قد تبلغ حد التناقض في ما بينها، فضلاً عن التناقض مع إيران وروسيا.

ومن الواضح أن الولايات المتحدة وضعت ثقلها لتشكيل «التحالف» لئلا تذهب وحدها إلى الحرب، وبعد أخذ وردٍّ وجدل مستمر يقال الآن إن باراك أوباما لم يعد من دون استراتيجية، كما اعتاد منذ دخوله البيت الأبيض، بدليل أنه حسم أمره وأرسل طائراته لقصف مواقع «داعش» لكنه وضع الكثير من القيود والحدود التي تحصر جهد «التحالف» في إضعاف التنظيم وتدميره، أملاً بإقصاء خطره وسيطرته، إمّا بتلاشيه وانكفائه أو بذوبانه بعد حرمانه من موارد جديدة ومن تدفق المقاتلين إلى صفوفه. وهذا ممكنٌ نظرياً، بل عملياً، إذا التزمت الدول المعنيّة تجفيف المنابع والشرايين، بل إنه لا يتطلّب «سنوات» كما يقال. فكل غارة جوية تعني خسارة لا يمكن لـ«داعش» أن يعوّضها، لا في السلاح ولا في الرجال ولا في المواقع التي يحكم قبضته عليها. ومع اشتداد الحرب وتراكم الخسائر، وهذا متوقع في غضون شهور محدودة إن لم تكن أسابيع، لا بد أن تظهر نقاط الضعف التي يجب أن يوجد على الأرض من يستطيع استغلالها.

هذه حرب يمكن «داعش» أن يخوضها لمواصلة إثبات الذات، لكنه في مختلف السيناريوهات لن يربحها. لذلك وجب التساؤل: نضرب «داعش» ونهزمه، أو في أسوأ الأحوال نضعفه ونقضي على مشروعه.. ثم ماذا؟

لا جواب في واشنطن، أو بالأحرى أكثر من جواب، مع وعود وتعهّدات منثورة هنا وهناك أمام السائلين والراغبين في سماع ما يتمنّونه. ولا عجب، فدائماً كانت الولايات المتحدة قادرة عندما تتوجّب الحرب أو عندما ترغب فيها من أجل مصالحها، لكن نادراً ما كانت قادرة على إدارة ما بعد الحرب أياً تكن الأوضاع التي تصادفها. وفي الحرب الحالية تجد نفسها مدعوّة رغماً عنها الى أحد أمرين: إمّا إعادة الشرق الأوسط إلى توازناته السابقة لما قبل الأزمتين السورية والعراقية، وهو ما لم يعد واقعياً. أو الأخذ بالمتغيّرات التي طرأت على المشهد الشرق أوسطي لبناء توازنات جديدة تعتمد على خريطة النفوذ التي تمكنت القوى الإقليمية من فرضها. لكن هنا أيضاً ترتسم الشكوك في قدرة أميركا على استخدام قوتها ونفوذها لفرض الخيارات الصحيحة، أي المراعية لحقائق البلدان العربية وشعوبها في الإقليم. وإذا كانت إدارة واشنطن للشأن العراقي تحتمل الجدل، كذلك مقاربتها للأزمة السورية أو الليبية في ضوء مبدأ أوباما عدم التدخل في الجانب الداخلي للنزاعات، إلا أن إخفاقها المدوّي في الملف الفلسطيني يعطي نموذجاً قاتماً ومخيفاً لجميع الآملين في مساهمتها بتوفير أفق سياسي لـ «الحرب على داعش».

في أيلول/ سبتمبر 2011، وفي أجواء عربية متحوّلة ومعبّأة بكثير من الآمال، انفردت قلّة ضئيلة من الدول بينها الولايات المتحدة بعدم تأييد طلب الرئيس الفلسطيني الاعتراف ببلده فلسطين دولةً عضواً في المنظمة الدولية. لم يكن هذا الطموح الفلسطيني عملاً عدوانياً أو عنفياً أو إرهابياً، ومع ذلك كان «الفيتو» الأميركي جاهزاً لإحباطه، وبعد سنة كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة هي التي تمنح فلسطين درجة «الدولة غير العضو». دافعت واشنطن عن موقفها بأن أي إجراءٍ على المستوى الدولي لا يغيّر طبيعة الوقائع على الأرض، ففلسطين دولة تحت الاحتلال ولا تستطيع أن تمارس الوظيفة المتوقّعة من أي دولة معترف بها إلا إذا أزيل الاحتلال بالتفاوض والاتفاق بين «طرفي النزاع»، وبالتالي فإن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يعقّد في نظر الأميركيين المفاوضات ويعرقل نشوء هذه الدولة.

 حرصت المواقف السياسية الصادرة عن واشنطن طوال عقود على عدم استخدام المصطلح القانوني، «إنهاء الاحتلال»، مفضلة «إنهاء النزاع» لأنه ينطوي مسبقاً على مفهوم «التسوية» وليس تطبيق القانون الدولي. بعد أكثر من عقدين على التفاوض - برعاية أميركية، وفي ملف يعنيها جداً – ها هي الولايات المتحدة راضخة لمتطرفي الحكومة الإسرائيلية وعاجزة عن تحريك المفاوضات، بل الأسوأ أنها عاجزة تماماً عن إنصاف الشعب الفلسطيني.


(الاتحاد الإماراتية)