قضايا وآراء

إلى غزة التراب والأمل

1300x600
يحدث أحيانا أن يطغى الظلم على الحق، وأن تسكت على جرح غائر في الصدر، وأن تنوح الأيامى والثكالى وليس من شيء يطفئ هذا القهر!

يحدث أحيانا أن يصل الوجع حد العظم، وأن لا تجد من يردم الهوّة الكبيرة في داخلك، ويحدث أن تتنازل من أجل لقمة طعام تسد بها آخر رمق بالحياة، وأن تضحي من أجل أولادك لتهب لهم ما حرمته الأيام، وأن تقسو على نفسك وتحملها ما تعجز الجبال عن حمله؛ من أجل أن تخفي ملامح الخسارات التي تكبدتها في حياتك.

ويحدث أن يكون كل ما حولك خرابا في خراب، وموتا يلدُ موتا آخر.. يحدث أن يموت الناس ويذبحوا كالأغنام ويُحرقوا، ويحدث أن يُصِرّ آخرون على مقاومة تكاد تكون غريزية في داخلهم.

ويحدث أن تصير الأنانية سيدة المكان، فتتوقف قليلا تركز في عمق الأشياء، وتنظر في المسالك الصعبة، وتحاول لملمة شعثك، والسيطرة على العبثية في داخلك؛ علّك تحدد وجهتك في هذا الطوفان!

تمعن النظر في نهاية غيرك فتتكون لديك حالة غريبة؛ فالناس أموات، ويريدون أن يثبتوا لأنفسهم أنهم ما زالوا أحياء. تنغلق أبواب، وتفتح غيرها وكلما انغلقت الدنيا، وضاقت في أعيننا تفتح فجوات أخرى، فنترك أعيننا تجول من خلالها في هذا الزمان الصعب.

وسط هذا الموت.. ما زال الناس يتحسسون قلوبهم ويعملون جاهدين لجعل الحياة ممكنة.

عن أهل غزة أتحدث.. عن أهل الصمود رغم القهر، من لا يقبلون أن ينتهي هذا الوطن بهذه الفظاعة، تسقط الصواريخ عليهم كشتاءٍ ينهمر قبل أوانه، دنياهم شاخت قبل أن تكبر، وأصبحت وجوه معظمهم مكسوة بالحديد تواجه متغيرات الزمن، تحاول الوقوف رغم المحن.

في وطن ضيع كل علاماته في الطريق، ويحاول أن يحافظ على الحد الأدنى من الكرامة مهما كان، في ظل حلولِ استراتيجية الموت القاسي، وبروز معاهدات السلام التي تريد أن تقضي على كل مدلولات الدولة، وتفصل على مقاسها ما يعجبهم وما يريدون.

يحدث أن تعيش في الزمن الصعب، وتخرج منه بانكسارات أقل وبرأس مرفوعة ولو قليلا تواجه بها عثرات الزمن، وتحافظ بها على ما تبقى من أرضك ووطنك، فما أجمله من وطن، حتى في لحظات الموت والفقر والدمار، يبقى هامة لا تنكسر، ما أجمل رائحة ترابه، وعبق مدنه القديمة.

الكثير من أهل غزة استشهدوا، لقد لمسنا صورهم في الإطارات القديمة، حين أصبحت عيونهم رمادية، وبقايا الدم المتجمد على وجوههم يحدثنا بهول المأساة!

فالموت يتربص في كل الزوايا، ولا نملك قدرة أخرى لمقاومته إلا الحياة، والإصرار عليها. ماذا يبقى للإنسان عندما يخسر أولاده وأحبابه وبيته، ومحضن حبه وحنانه؟ لقد سرقوا الأشواق الضائعة، ويحاولون أن يبددوا الذاكرة فينا، ولكن عبثا!

فنحن نعيش على لحن الوطن، وتوقيت الوطن، وألم الوطن الذي ينادي ويستغيث، فصوته يحفر قلوبنا كلما سمعناه. هم لم يصنعوا لنا ذاكرة فحسب، بل عبؤوها بالتفاصيل، التي مهما حاولنا نسيانها، تظهر لنا من جديد في أول شهيد تلتقطه عيوننا، وأول أم تصرخ بحسبي الله ونعم الوكيل، من عمق قلبها حيث لا أعمق.

ذات غربة، وذات حزن، وذات ألم، وذات منفى أيضا، ووطن في القلب وعذاب الذكرى، تشب في داخلنا شعلة لا تنطفئ.. في وطن نحمل فيه همّ الخلود بعد الموت، وطن نعرفه وننتمي له، حتى لو كنا شجرة صغيرة في الأطراف إلا أن جذورنا فيه تمتد.

وطني يا أنا.. يوما ما سأكون بين يديك، وأعلو فوق روابيك، وأغني لحن الحرية، ونغم الحياة.