كتاب عربي 21

سؤال مجهول الإجابة: من كان وراء انهيار بن علي ؟

1300x600
تتعرض الشخصية التونسية لحالة من التمزق بسبب التجاذبات المتعددة التي تشق البلاد منذ بداية المرحلة الانتقالية.

ففي الذكرى الثالثة للثورة، تواصل الانقسام الحزبي، ولم تتوفر ظروف الوحدة التي كان يفترض أن تكون حاضرة وتجعل التونسيين ينسون خلافاتهم، ويحتفلون باللحظة التي لم تغير مجرى حياتهم فقط، وإنما فجرت وراءها سلسلة من الثورات أو الانتفاضات المتواصلة.

هناك أسئلة عديدة لا تزال بدون إجابة، ومن بينها سؤال عاد ليفرض نفسه في هذه الذكرى : ماذا حدث يوم الرابع عشر من يناير 2011 ؟ هل كان ثورة أم هبة شعبية ؟ أم انقلابا ؟ أم تدخلا خارجيا ؟. 

قد يكون هذا السؤال غريبا، لكن المؤكد أن التونسيين لا يملكون حتى الآن رواية متفق حولها، ومطابقة للواقع، وموثقة بطريقة غير ممزوجة بالشك وتعدد الروايات أو التوظيف الشخصي أو السياسي.

أي أن الثورة التونسية لا تزال بعد ثلاث سنوات، وبعد كل ما قيل عنها وحولها في العالم، تبحث عن تعريف وهوية. ومن اللافت للنظر أن عدد الكتب التي وثقت لتلك الأحداث بقيت نادرة، وما كتب منها بقي مثيرا للجدل. فالمؤرخون لا يزالون في حالة تردد، وكأن المجال الزمني لم يسمح بعد للمغامرة بالكتابة خوفا من الوقوع في الخطأ.  

حتى التأريخ لها حول صراع قوي، هل يكون يوم 17 ديسمبر 2010 حين لجأ البوعزيزي إلى حرق نفسه ليكون بذلك الشرارة التي فجرت أشياء كثيرة، أم تكون البداية يوم 14 يناير يناير 2011، كما تم التنصيص عليه في مشروع الدستور، وهو ما دفع بأهالي سيدي بوزيد إلى مقاطعة الاحتفالات بالثورة ؟.

إن الذي عمق الحيرة لدى الجميع أن نظام بن علي، وإن تعددت مؤشرات ضعفه ، لكنه لم يصل إلى حد العجز والشلل الذي من شأنه أن يؤدي إلى انهيار سريع. فلو لم يغادر بن علي السلطة لأمكن له أن يستمر في موقعه، بعد اتخاذ سلسلة من الإجراءات التي وعد بها في خطابه الثالث والأخير. الكثيرون اليوم بقولون بأن التجمع الشعبي الذي تم يوم 14 يناير بشارع الحبيب بورقيبة أمام وزارة الداخلية لم يكن كافيا ولا قادرا على إسقاط النظام. ولهذا نعود إلى طرح السؤال المحير: ماذا حدث حتى يضطر بن علي للمغادرة ؟.

تتعدد الروايات لتفسير ذلك، ومن بينها ما ذكرته ليلى بن علي في مذكراتها، أن زوجها أحس بوجود انقلاب ضده، دون أن تقدم معطيات كافية ومقنعة لإثبات هذا الاحتمال. لكن المشكلة تكمن في أن القول بسيناريو الانقلاب يحيلنا مباشرة إلى المؤسسة العسكرية، التي استند عليها الرئيس السابق لمساعدة المؤسسة الأمنية على تطويق الاحتجاجات الشعبية. وفي هذا السياق تتضارب الشهادات والمعطيات، لكنها تتقاطع في نقطة جوهرية حول عدم وجود أي خطة لاستلام السلطة من قبل القيادة العسكرية. وإنما الذي ثبت أن هذه القيادة لم تكن تثق في جهاز الأمن الرئاسي.

ولهذا تكثفت حملات التشكيك ونشر الأخبار غير المؤكدة حول الدور الخطير الذي يمكن أن يقوم به هذا الجهاز. وفي شهادة قدمها المدير السابق للأمن  السابق أحمد شابير اعتبر أن ما حدث ليس انقلابا، وإنما هو " إبعاد " للرئيس السابق، متهما الجنرال عبد الحميد السرياطي المكلف السابق بالأمن الرئاسي وحماية بن علي. مع العلم أن وزير الدفاع السابق قد وجه أصابع الاتهام لهذا الجنرال، وتم إيقافه بعد فترة وجيزة من مغادرة الطائرة الرئاسية في اتجاه الرياض. ولا يزال السرياطي معتقلا بالسجون التونسية إلى حد الآن. 

لكن الغريب، أن أدلة الإدانة ضد الجنرال السرياطي لا تزال ضعيفة جدا، وأن وزير الدفاع الذي أمر باعتقاله وضع بدوره في السجن، حيث تتناقض الروايات حول وضعه الصحي، بعد أن وجهت له تهم عديدة لا علاقة لها بسيناريو الانقلاب. أما الفريق رشيد عمار الذي تحول إلى رمز الثورة بعد أن راج خبر رفضه إطلاق النار على المتظاهرين على إثر أمر صدر من بن علي، فقد ثبت أولا أن هذه الحادثة لم تقع وإنما كانت مجرد ترويج إعلامي، وثانيا فقد جاء على لسان الجنرال قوله بأنه قبل يتقاعد أنه " رفض السلطة عندما كانت على قارعة الطريق ".

أما رئيس فرقة مكافحة الإرهاب سمير الطرهوني، الذي سطع نجمه على إثر قراره منع أفراد أسرة ليلى الطرابلسي من مغادرة البلاد وتسليمهم إلى الجيش بعد مغادرة طائرة بن علي مباشرة ، فلا يزال السؤوال عالقا حول ما إذا كان ذلك جزء من خطة، أم هو اجتهاد شخصي، أم أمر ورد من جهة لا تزال مجهولة بعد أن نفى رئيس المخابرات العسكرية أن يكون ذلك قد تم بقرار فردي.

حتى فرضية التدخل الخارجي لم تثبت حتى الآن، وذلك رغم الحديث عن وجود اختراق تكنولوجي قيل بأنه قد حصل لمنظومة الاتصالات، حيث سجلت أوامر موجهة للوحدات الأمنية تطالبها بإلقاء السلاح  والانسحاب من مواقعها، وعودة الأمنيين إلىمنازلهم، وذلك في لحظات كانت حرجة وخطيرة. لكن المؤكد أن الحكومة الفرنسية قد بقيت مصرة على دعم بن علي إلى آخر لحظة، حيث كانت طائرة مجهزة بأدوات تفريق المتظاهرين جاهزة للإقلاع نحو تونس في صبية يوم رحيل بن علي، وذلك سعيا من حكومة باريس لدعم بن علي وتثبيته في الحكم.

 إن الرواية التي تبدو الأقرب إلى الحقيقة، والتي أدافع عنها تقول بأن الرئيس السابق كان يعتمد على تقسيم الأجهزة حتى لا تتوحد ضده، وأن ذلك قد عمق أزمة الثقة بين مختلف مكوناتها، وعندما انفجرت الاحتجاجات واتسعت رقعتها، وبدا الارتباك السياسي على بن علي لأول مرة في مسيرته كدكتاتور منفرد بالقرار. ومن هناك بدأت تتوالى الأخطاء من قبل مختلف الأجهزة والمسؤولين، وتناقض التعليمات مما أدى على تضارب في المصالح والإرادات، دون أن يكون ذلك وفق مخطط محكم وموحد.

أي أن بن علي كان ضحية خطته الأمنية وأسلوبه في إدارة الحكم، ليجد نفسه وحيدا في اللحظات الحاسمة، حين أجرى اتصالاته الأخيرة ببعض من بقي في الحكم وهو في طائرة الرحلة الأخيرة، لكنه لم يجد أحدا يصدقه القول، حيث تأكد للجميع أنه قد " قضي الأمر الذي كنتم فيه تستفتيان ".