كتاب عربي 21

هيكل .."ومن نعمره ننكسه في الخلق"!

1300x600
صبياً قرأت كتاب "البوابة السوداء" للكاتب الراحل أحمد رائف، الذي روى فيه قصة الإخوان المسلمين مع الاعتقالات في سجون عبد الناصر، ولأن القارئ كان رقيق العاطفة، وإن بدا صاحب وجه متجهم، يوحي بأن صاحبه "قاتل محترف"، فقد تأثر بهذا كثيراً، وأستطيع القول إنني قرأت الكتاب قبل أن أتعرف
على عبد الناصر، فكان بمثابة حائط صد منعني من حب الرجل، مع أنه كان عظيم المجد، كما أنه عظيم الأخطاء!

وربما كان هذا المؤلف الضخم، هو الذي جعل الفتى يقف مبكراً على قيمة الحرية، وليس هذا موضوعنا!

أحمد رائف أتبع هذا الكتاب بكتاب آخر عن قصة الإخوان أيضا مع التعذيب في العهد الناصري حمل عنوان "سراديب الشيطان"، قرأته شاباً، فشحنني ضد عبد الناصر، وكان سبباً في تعاطفي مع الإخوان، وعندما تبخر هذا التعاطف، وانتقدت الإخوان في كتاباتي للصحف السيارة، وفي كتاب "الإخوان المسلمون.. الوجه والقناع" لم أفقد إيماني بقضية الحرية، واعتقادي أن غياب الديمقراطية رأس كل خطيئة في بلادنا، وهذا ليس موضوعنا أيضاً!

موضوعنا، أنه في أحد الكتابين: "البوابة السوداء"، أو"سراديب الشيطان"، بذل أحمد رائف جهداً خارقاً للتأكيد على أن عبد الناصر كان يعلم بأمر التعذيب في سجونه، وربما كان هذا رداً على تعليقات
على ما نشر عن التعذيب، وهي كتابات بعضها للإخوان وبعضها للشيوعيين، الذين "نالهم من الحب جانب" في سجون العصر الناصري، وربما جاء في الرد أن عبد الناصر لم يكن يعلم بأمر التعذيب وأن ما جرى كان يحدث من وراء ظهره، ولم يصل إليه خبره!

أحمد رائف قال إن هيكل كان يعلم بالتعذيب، وبالضرورة أنه أبلغ عبد الناصر، فقد جاء إلى السجن لكي يأخذ صديقا له أو قريبا كان معتقلاً، وقد أخذه في سيارته وسط أصوات السياط، وصراخ المعتقلين، وذكر هيكل أنه أول من وصف من كانوا يعتقلون الناس في زمن عبد الناصر، بأنهم "زوار الفجر"، وقال إنه قال هذا للذين طرقوا بابه فجراً لاعتقاله ضمن قرارات التحفظ التي أصدرها السادات في آخر أيامه!

"دار الشروق" أصدرت قبل سنوات، كل مقالات الأستاذ هيكل، في "سي دي" ولم أعثر على ما قاله. وقديماً قال أحد الكتاب إن هيكل استخدم سلاح الأرشيف لمواجهة خصومه، في حين تعذر أن يوجد من بينهم من يستخدم سلاح الأرشيف في مواجهته. وفي هذا الأرشيف عثرت على مقال يؤكد فيه هيكل أن رجال عبد الناصر كانوا يقومون بتحضير الأرواح، ويؤمنون بهذه الخرافة في تسيير أمور البلاد وقد كتبه مجاملة للسادات، وانحيازاً له في حربه على هؤلاء، والتي أطلق عليها الرئيس الراحل ثورة مايو في بداية حكمه.

ما علينا؛ فلم يكن هيكل يعني أحمد رائف، فهدفه كان عبد الناصر، لكن أي خصم لهيكل يمكن أن يقرأ ما كتبه رائف لا بد أن يعتبر أن هناك جهدا بذل لكي يقف القارئ على أن هيكل لم يكترث بآهات المعذبين تحت السياط، وربما وجد من يدافع عنه بأنه لم يكن بمقدوره أن يقف في وجه هذا العدوان على كرامة الناس، الذي بدا أنه أكبر من سلطاته، وإلى حد اعتقال سكرتيرته الخاصة، وفي هذا تجاوز في حقه. صحيح أنه بعلاقاته بعبد الناصر تمكن من الإفراج عنها، لكن هذا لم يمنع من أنها اعتقلت، وأن مراكز القوى في عهد عبد الناصر كانوا عابرين للشخصيات ذات النفوذ، وليس بمقدور هذه الشخصيات أن تقف في وجه مراكز القوى التي كان بيدها عقدة الأمر. وصاحب قرار الاعتقال والتعذيب أكبر من هيكل، إن كان هيكل من الرافضين لذلك، ولا أظن أنه في تاريخه رفض له!

لكن يشاء ربك، أن يقف العالم كله على أن هيكل جزء من انقلاب استهدف السطو المسلح على الإرادة الشعبية في مصر التي أنتجت أول رئيس مدني منتخب، فلم يعد  سراً أن الانقلاب الذي شهدته مصر يوم 3 يوليو كان بتخطيط من الأستاذ هيكل، وهو الذي قتل فيه ما يقرب من ثلاثة آلاف مصري، واعتقل أكثر من عشر آلاف هم في أوضاع بائسة، على نحو يجعلهم يغبطون الموتى. ولا أقول إن المجازر التي ارتكبت ضد الإنسانية كانت بتخطيط منه، لإنهاء الصمود، بعد أن رسم السيناريو الأول على أساس استدعاء سيناريو 1954 وإنه بمجرد اعتقال قيادات الإخوان، فسيأتون محلقين ومقصرين يطلبون تحسين شروط الاعتقال وينتهي الأمر. لكن عندما لم يتحقق هذا كان الاقتراح هو مزيد من الدم لإخافة الناس.

فما أقوله، أنه منحاز لهذا الانقلاب الذي أراق كل هذه الدماء، وكأنها لعنة السماء، فعندما يغادر هذه الدنيا بعد الدعاء له بطول العمر، سيترك ذكرى هي الدليل الحي على سوء الخاتمة!

إنها أزمة من يعيش أكثر مما ينبغي، (ومن نعمره ننكسه في الخلق).