قضايا وآراء

كيف ينكر السيسي بسهولة وعوده الموثقة؟!

يتساءل الكاتب لماذا يصر السيسي على حكم مصر إذا كانت "ولا حاجة"- جيتي
"لم أقل لكم أنا لها وسأخلصكم"، "أنا عمري ما وعدتكم أن الموضوع هيخلص في سنة ولا اتنين ولا عشرة"، "والله العظيم أنا لم أجد بلد، أنا لقيت أي حاجة وقالوا لي خد دي".. جملة من التصريحات الصادمة للمصريين التي أطلقها الجنرال السيسي خلال كلمته في الاحتفال بيوم الشهيد مساء السبت (9 آذار/ مارس) بحضور كبار قادة الجيش والحكومة.

كان التصريح الأكثر جرحا لمشاعر المصريين الوطنية هو الحديث الاستعلائي عن مصر، وادعاؤه أنه لم يسْعَ إلى الحكم، ولم يَعِد بتخليص مصر من أزماتها، ووصفه لمصر بأنها "أي حاجة"، وهي الدولة الضاربة في عمق التاريخ والجغرافيا، والتي كانت دولة مهيبة قبل أن يستولي السيسي على حكمها، ثم نراها الآن وهي "ملطشة" لأرذل خلق الله، فيمنعون دخول المعونات لأهل غزة عبر معبرها الذي تنفرد بالسيادة عليه، بينما يسمحون بإسقاط المعونات من الجو!!

يعرف القاصي والداني أن السيسي هو الذي قاد انقلابا عسكريا على أول حكم مدني بقيادة الرئيس الراحل الدكتور محمد مرسي، وأنه تقدم لترشيح نفسه مرتديا زيه العسكري عقب هذا الانقلاب، وأنه في سبيل ذلك قتل آلاف المصريين، واعتقل عشرات الآلاف، ولم تكن مصر عندما استولى على حكمها "أي حاجة" كما ادعى، بل كانت ملء السمع والبصر، أوقفت حرب غزة في العام 2012 بكلمة من رئيسها، ولم تفرّط في جُزرها ونيلها، ولم تبع أرضها، وكان الدولار يساوي 6 جنيهات فقط، ثم جاء السيسي ليرفعه إلى 50 كسعر رسمي، وتجاوز السبعين في السوق السوداء.

إذا كان السيسي يرى أن مصر كانت "أي حاجة" فلماذا تصدى لحكمها في 2014، ثم حبس منافسيه في 2018 لينفرد بالمنافسة مع أحد داعميه، ثم كرر ذلك في 2024 باستبعاده للمرشح أحمد طنطاوي وتلفيق تهمة له، وإصدار حكم يحرمه من العمل السياسي؟! ثم هو الآن يدفع بعض أذرعه للمطالبة بتعديل جديد في الدستور يسمح له بالترشح بعد العام 2030؟! إذا كان رده أو رد أنصاره أنه تصدى لإنقاذ مصر، فالسؤال أيضا: وهل أنقذها؟ الواقع أنه أغرقها في تلال من المشاكل والأزمات والمديونيات

وإذا كان السيسي يرى أن مصر كانت "أي حاجة" فلماذا تصدى لحكمها في 2014، ثم حبس منافسيه في 2018 لينفرد بالمنافسة مع أحد داعميه، ثم كرر ذلك في 2024 باستبعاده للمرشح أحمد طنطاوي وتلفيق تهمة له، وإصدار حكم يحرمه من العمل السياسي؟! ثم هو الآن يدفع بعض أذرعه للمطالبة بتعديل جديد في الدستور يسمح له بالترشح بعد العام 2030؟! إذا كان رده أو رد أنصاره أنه تصدى لإنقاذ مصر، فالسؤال أيضا: وهل أنقذها؟ الواقع أنه أغرقها في تلال من المشاكل والأزمات والمديونيات التي ستظل طوقا يكبل أعناق الأجيال الحالية والمقبلة.

السيسي الذي يصر على وصف نفسه بأنه صادق وشريف وأمين، تنصّل في كلمته أيضا من العديد من وعوده وتصريحاته الموثقة، ومن ذلك وعوده بتحسين حياة المصريين في سنتين (2014) أو بعد 6 أشهر (2016)، ثم أضاف سنة أخرى في 2017، ثم جاء التعهد القاطع محدد المدة في 2018 بأن المصريين سيرون دولة عظيمة في 30 حزيران/ يونيو 2020، وقد مر على هذا التعهد قرابة السنوات الأربع، فإذ بمصر تهوي إلى قاع سحيق من الأزمات الاقتصادية والمعيشية، وتصبح مدينة بـ165 مليار دولار ديونا خارجية ومثلها ديون داخلية، وتصبح ملزمة بسداد 42 مليار دولار خلال العام 2024 فقط هي أقساط وفوائد ديون خارجية.

وفي الإطار الاقتصادي يتذكر المصريون أيضا تعهد السيسي بعدم تنفيذ طلب صندوق النقد بتعويم الجنيه في 14 حزيران/ يونيو 2023، مرددا: "عندما يتعرض الأمر لأمن مصر القومي، والشعب المصري يضيع فيها لأ، عندما يكون تأثير سعر الصرف على حياة المصريين وممكن يضيعهم إحنا منقعدش في مكاننا".

وقد تراجع عن هذا التعهد وقرر تعويم الجنيه مؤخرا، مبررا تراجعه بدخول 50 مليار دولار إلى مصر مؤخرا (35 مليار من الإمارات قيمة صفقة رأس الحكمة، و8 مليارات قرض من صندوق النقد، و12 مليار دولار من البنك الدولي والاتحاد الأوربي، وهي في معظمها وعود حتى الآن). والحقيقة أن تعويم الجنيه من 30 إلى 50 جنيها للدولار، أي تخفيضه 60 في المئة من قيمته، يعني مباشرة خفض دخول ومدخرات المواطن المصري بنفس النسبة (60 في المئة) دون تعويضه عن ذلك، فمن كان يمتلك مدخرات بقيمة 300 ألف جنيه (كمصاريف عائلية)، وكانت تعادل 10 آلاف دولار، أصبحت الآن تعادل 6 آلاف دولار فقط.

لم تكن تصريحات السيسي الأخيرة سوى جرعة جديدة من الإهانات للمصريين، ولوطنهم، والاستخفاف بعقولهم، في استنساخ عصري للحكم الفرعوني "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي"، "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".. لكن فرعون الذي يقتدي به السيسي غرق في النهاية ولم ينقذه جنوده الذين غرقوا معه

يدعي السيسي أنه لم يغامر بالمصريين، ولم يأخذ هو أو حكومته قرارا "يضيّع" مصر، وأنه ليس مغامرا لهوى أو لفهم خاطئ، أو لتقدير منقوص، وأنه لم يضيع أموال المصريين بفساد أو"دلع"، و"لم يلبّس المصريين في الحيط" حسب تعبيره، فكل شيء تم إنجازه على أرض مصر. والحقيقة أنه يردد فعلا ما يتهمه به المصريون سرا وجهرا، وهي اتهامات حقيقية، لا يصلح لنفيها محض كلمات جوفاء، فالمصريون مقتنعون الآن بأنه أهدر أموالهم وثرواتهم في مشاريع غير ذات جدوى، وغير ذات أولوية (حتى وإن كانت مقامة فعلا على أرض مصر)، فلا العاصمة الإدارية التي أرهقت الدولة بالديون كانت أمرا عاجلا، ولا توسعة قناة السويس التي تكلفت 8 مليارات دولار كانت ضرورية، وقد اعترف السيسي بنفسه أنها كانت لرفع الروح المعنوية للشعب، ولا القطار فائق السرعة أو المونوريل، أو العلمين الجديدة، أو القصور الرئاسية والطائرة الفخمة، والفنادق الكبرى، كانت ذات أولوية في خطط التنمية والإنقاذ، بل هي مشروعات تمت بدون دراسة كافية، لأن السيسي لا يؤمن بدراسات الجدوى، ويريد أن يرى تمام مشروعاته بشكل عاجل حتى لو كلف ذلك أضعافا مضاعفة.

لا يفتأ السيسي يذكر ثورة يناير بكل نقيصة، وإن كان من نقيصة لها فهو فتحها الباب له شخصيا لتبوء منصب وزير الدفاع الذي مكنه لاحقا من الانقلاب عليها وعلى الرئيس المدني الذي أنتجته، وقد عاد في كلمته الأخيرة لاتهام الثورة وحرب الإرهاب وحربي أوكرانيا وغزة بالتسبب في الأزمة الاقتصادية في مصر، متجاهلا أن مشاريعه وديونه وفشل إدارته هي السبب.

لم تكن تصريحات السيسي الأخيرة سوى جرعة جديدة من الإهانات للمصريين، ولوطنهم، والاستخفاف بعقولهم، في استنساخ عصري للحكم الفرعوني "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي"، "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".. لكن فرعون الذي يقتدي به السيسي غرق في النهاية ولم ينقذه جنوده الذين غرقوا معه، وعاشت مصر من بعده، كما ستعيش وتزدهر من بعد السيسي.

twitter.com/kotbelaraby