ملفات وتقارير

"أوكازيون تاريخي".. ما سر تتابع صفقات بيع الأراضي المصرية وما حجم التنازلات؟

تتابع الصفقات بعد ركود الطروحات المصرية لنحو 35 من شركاتها العامة والتابعة للجيش طوال العام الماضي- الأناضول
جرى الإعلان عن عدة صفقات بيع أراضي مصرية لمستثمرين عرب وأجانب، خلال الأيام الماضية كما تمت الإشارة إلى صفقات أخرى كبيرة قادمة، وذلك بعد إحجام خليجي مثير عن صفقات الطروحات المصرية لشركاتها العامة العام الماضي، ما يثير التساؤلات عن سر عودة تلك الصفقات وتتابعها، وحجم تنازلات مصر لإتمامها.

وفي "صفقة تاريخية"، وفق تعبير رئيس وزراء مصر مصطفى مدبولي، فقد وقعت مصر والإمارات، الجمعة، عقد بيع واستثمار مدينة رأس الحكمة على ساحل مصر الشمالي الغربي بقيمة استثمار إجمالي يبلغ 150 مليار دولار.

الصفقة تأتي مقابل 35 مليار دولار تسددها أبوظبي للقاهرة خلال شهرين، بدفعة أولى 15 مليار دولار تسدد بعد أسبوع، ودفعة ثانية 20 مليار دولار تسدد بعد شهرين مع إسقاط ودائع قيمتها 11 مليار دولار مستحقة للإمارات، 5 منها بالدفعة الأولى، و6 بالدفعة الثانية.

"رأس الحكمة"، محل الاتفاق، تبعد 350 كيلومترا تقريبا شمال غربي القاهرة، ونحو 200 كيلومتر غربي الإسكندرية، وبين مدينتي الضبعة والعلمين الجديدة، وتمتد داخل البحر المتوسط كمنطقة منتجعات سياحية راقية وشواطئ تشتهر بالرمال البيضاء يقصدها الأثرياء، ولملك مصر السابق فاروق، ورؤسائها اللاحقين جمال عبدالناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك، حضور بها.

وبهذا يكون صندوق الاستثمار السيادي في أبوظبي، (إيه.دي.كيو)، قد استحوذ على مساحة نحو 40,600 فدان (170 مليون متر مربع) بالمدينة، لبناء مناطق استثمارية ومواقع سكنية وتجارية ومشروعات سياحية وترفيهية، قد تدر في النهاية بـ 150 مليار دولار، فيما سيكون للدولة المصرية 35 بالمئة من أرباح المشروع، وللإمارات 65 بالمئة.

لكن، يبدو أن صفقة رأس الحكمة التي قلبت أسواق السندات السيادية المصرية المقومة بالدولار، وتسببت في انهيار السوق السوداء للعملات الصعبة في البلاد، وفي تراجع أسعار الذهب، لن تكون الصفقة الوحيدة القادمة.

ومساء الجمعة، وعبر فضائية "أون" المملوكة لجهات سيادية مصرية، كشف الإعلامي المصري خالد أبو بكر، عن وجود 4 مشروعات جديدة ستعلن عنها الدولة قريبا، وذلك في أعقاب صفقة رأس الحكمة مع الإمارات، بينها مشروع كبير للسعودية على البحر الأحمر.

والسبت، وعقب توقيع اتفاق رأس الحكمة، جدد رجل الأعمال الإماراتي خلف الحبتور رغبته في الاستثمار بفندق "ريغال هايتس" بمدينة العلمين الجديدة في مصر، وفق ما أعلنه موقع "اقتصاد الشرق".

الحبتور زار مصر الصيف الماضي ووسط احتفاء إعلامي كبير طاف منطقة الساحل الشمالي ومدينة العلمين الجديدة، وقال إنه سيستثمر بمبالغ طائلة ولكن حديثه لم يتم ترجمته إلى فعل حقيقي.

لكنه وبعد صفقة رأس الحكمة عاد للحديث مجددا عن الاستثمار في مصر وشراء فندق "ريغال هايتس" الذي تم افتتاحه بحفل أسطوري في آب/ أغسطس 2022 بحضور رئيس الإمارات محمد بن زايد، وملك البحرين حمد بن عيسى، والعاهل الأردني عبدالله الثاني، ورئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي.

إعلان الحبتور، رغبته الاستثمار في مصر مجددا بعد صفقة رأس الحكمة، وبعد دعوته الحكومة المصرية للتراجع عن الأسعار "الخيالية" التي تم طلبها للبيع من قبل، تؤشر جميعها على تقديم القاهرة تنازلات جديدة وضخمة.

وفي بيع لأراضي مصرية أخرى، خصصت مصر الثلاثاء الماضي، قطعة أرض بمنطقة "حدائق الأندلس" بالقاهرة الجديدة على الطريق الأوسطي تبلغ 665 ألف متر لشركة "يو دي سي" الإماراتية للتطوير العقاري، التابعة لمجموعة محمد عمر بن حيدر القابضة الذي يستثمر في مصر للمرة الأولى، لإقامة مشروع عمراني باستثمارات تتجاوز الـ60 مليار جنيه، على أن يتم الدفع بالدولار.

وفي اليوم ذاته تم تخصيص قطعة أرض لمشروع طبي عمراني في مدينة الشروق بـ300 مليون دولار لشركة "إن إتش إم سي مصر" للخدمات الطبية - الذراع المحلية لشركة "إن إتش إم سي" العالمية للرعاية الصحية والتمويل والتكنولوجيا- ومقرها لندن، على أن يتم سداد قيمة الأرض بالدولار.

تتابع تلك الصفقات بعد ركود الطروحات المصرية لنحو 35 من شركاتها العامة والتابعة للجيش طوال العام الماضي بسبب خلافات بين المستثمرين العرب ومصر حول عملية تقييم الأصول التي كانت تريدها القاهرة بالعملة الصعبة بينما تصر على إتمامها الشركات والصناديق الخليجية بالعملة المحلية.

"تهدئة الشارع.. وتنازلات"
ووفق قراءته لتفاصيل الاتفاق المصري الإماراتي ولوضع مصر الاقتصادي ولملف الاستثمارات الخليجية والطروحات المصرية، تحدث السياسي المصري مجدي حمدان موسى، عن سر تتابع الصفقات الآن ودلالات ذلك، مشيرا إلى أن الصورة العامة توحي بأن الحكومة المصرية قدمت تنازلات كبيرة وغير مسبوقة.

وقال القيادي بحزب "المحافظين"، وعضو "الحركة المدنية"، لـ"عربي21": "أرى أن تتابع الصفقات وإعلانها للجمهور والنشر عنها هو لتهدئة الرأي العام، نظرا لتصاعد الأجواء الإقليمية، والمحلية، ومحاولة بقدر الإمكان لوقف ارتفاع الأسعار وخاصة سعر صرف الدولار، وسعر تداول الذهب، بقدر الإمكان".

وأضاف: "لكن القول إن هناك صفقات يجعلنا نذهب إلى نقطة هامة، وهي التساؤل، عن مكنون تلك الصفقات ومدخلاتها وبنودها"، موضحا أن "كل هذه أمور لا نعرف عنها شيئا".

وتابع: "حتى إن صفقة رأس الحكمة التي أُعلن عنها رسميا الجمعة، لا نعرف متى تتم.. قيل إنها في 2025، لكن دون تحديد لتاريخ البدء الفعلي، ولم يحدد مساحة منطقة الخدمات والتي ستقام بها فنادق وغيرها من تفاصيل دقيقة، نعرف أن هناك 35 مليار دولارا بالصفقة 11 مليار منها ودائع يتم خصمها؛ لكن بنود العقد وتفاصيله لا نعرف عنها شيئا".

وأكد أنه "بلاشك فهناك تنازلات"، مشيرا إلى أن "منطقة رأس الحكمة بها 50 كيلومتر من أجمل شواطئ العالم بكر وخام وفيروزية بالطبع هناك تنازل، كما نتكلم عن مساحة 40 ألف فدان، و50 كيلو متر شواطئ، ومدينة متكاملة تقارب أبوظبي أو دبي بمساحتها"، متسائلا: "كيف يكون مقابلها هذا الرقم الهزيل؟".



وفي ظنه يعتقد موسى، أن "الصفقات المتتابعة التي يجري الإعلان عنها تشبه المؤتمر الاقتصادي بمدينة شرم الشيخ آذار/ مارس 2015، الذي قيل إنه سيدخل لمصر 185 مليار دولار، وحتى الآن لم تحصد منه مصر جنيها".

وسخر بقوله: "يريدونني تصديق أن هذه الصفقات ستكون داعمة للمواطن المصري... سأصدق عندما ألمس ذلك في انخفاض الأسعار، ولكنها كما هي لا متغيرات، ولو هبطت والمواطن البسيط شعر بانتعاشة فنحن هنا إذا أمام صفقات، غير ذلك هو كلام مرسل".

وخلص للقول إن "الحكومة تريد تهدئة الأمور، خاصة وأن هناك حالة من الغليان داخل البيئة المصرية، والمواطن البسيط لم يعد يقدر على تدبير قوت يومه في ظل ارتفاع الأسعار".

وحول ما إذا كان تقييم تلك الأراضي الممنوحة بالمشروعات السابقة بالعملة الأجنبية أم بالجنيه المصري، وهي نقطة الخلاف السابق حول طروحات الشركات العامة المصرية مع المستثمرين والصناديق الخليجية، أشار السياسي المصري إلى حديث للمتحدث الرسمي باسم مجلس الوزراء السبت، بفضائية "إم بي سي مصر 2".

ولفت إلى قول محمد الحمصاني، إنه "سيتم خصم الـ11 مليار دولار الودائع الإماراتية لدى البنك المركزي بما يعادل قيمتها بالجنيه المصري"، موضحا أن "معنى ذلك أن الصفقة فيها جزء بالعملة المحلية، ليس الدولار فقط، في سقطة من المتحدث تؤشر أن الصفقة مقيمة بالدولار وبالجنيه".

"كل بيع خلفه كارثة"
وفي حديثه لـ"عربي21"، تساءل الكاتب والباحث المصري مجدي الحداد: "هل بين تلك المشروعات والاستثمارات الضخمة بالفنادق والمساكن الفخمة والمنتجعات السياحية، مشروع واحد لبناء مصنع واحد يدر ربحا، ومن ثم ينفق على دورة إنتاجه، ويسدد قروضه من الأرباح، وتُسهم مخرجاته في زيادة الناتج القومي الحقيقي؟".

وقال إن "الإجابة على هذا السؤال تعطيني مؤشرا حقيقيا على استحالة إصلاح هذا النظام، واستحالة حتى التفاته إلى مطالب الشعب الأساسية، أو حتى متطلبات التنمية الحقيقية".

ويرى أنه "لو تمتع النظام بذرة وطنية، وحرص على مصالح هذا البلد، أو ذرة من الحكمة، لأخذ العبرة من توسعه ببناء عاصمة إدارية بالصحراء، وكذبه على الشعب بشأن عدم تكلفتها ميزانية الدولة جنيها واحدا؛ فإذا به يورط الدولة بقروض لا قبل لها بها، ثم يعود بنفسه ويلقي بعبئها، وبكل بجاحة، على الشعب".

وأكد الحداد، أنه مع تكرار نفس الصفقات وذات المشروعات والسياسات أن "هذا النظام سيظل سادرا في غيه وتفاهاته، ولا أمل في توقفه عن هذا السفه وإهدار المال العام وحتى الخاص".

ويعتقد الكاتب والمحلل السياسي المصري، أن "المشكلة أن هذا النظام ينظر إلى شعبه على أنه كم مهمل بالفعل، ولا يوليه أي اعتبار ولا حتى احترام"، مشيرا إلى أن "حسني مبارك، (1981- 2011) وعلى الرغم من فساده، ساوم بأسقاط ديون مصر مثلا مقابل مساهمة جيش مصر بحرب تحرير الكويت 1990".

وأضاف: "أما السيسي، فطلب مزيدا من القروض لسداد قروض قديمة، كما فعل مع صندوق النقد الدولي، واستجابة الأخير له بعد تمنع، وهي الاستجابة التي ترجع باختصار لانحياز النظام للكيان المحتل فيما يتعلق بحرب غزة، وهو ما يعلق عليه العامة بـ(بيع القضية)".

وتساءل: "على الرغم من هذا التخاذل؛ هل أسقطت أي جهة أو دولة ديونها المستحقة على مصر؟"، مجيبا: "بل الديون كما هي، والقرض تزداد التزاماتها وتفاقماتها يوما بعد يوم، ومع كل قرض جديد حتى ولو كان لسداد قرض قديم، وهو ما يُطلق عليه أيضا (تلبيس الطواقي)".

ولفت الحداد إلى ما وصفه بـ"الكارثة الأخرى التي يرتكبها النظام"، ملمحا إلى أن "كل مشروعاته استثمار عقاري برغم ركود سوق العقارات حتى على المستوى الدولي، ولكنه لا يحترم دراسات الجدوى، وأضاع مليارات الجنيهات سابقا بحفر قناة السويس الجديدة، وتدشين مدينة أثاث بدمياط، والعاصمة الإدارية الجديدة، وغيرها مما أطلق عليه الشعب المشاريع الفنكوشية".

وخلص للقول: "إذا فكل أرض يبيعها لمستثمر يكون ورائها كارثة أخرى دونها حتى أي استثمارات أخرى، ومهما بلغت من الضخامة أو حتى من جدواها، وهي طرد سكانها الأصليين بالقوة المفرطة وهدم مساكنهم بالقوة الغاشمة؛ تماما كما يفعل الاحتلال بمنازل فلسطيني الضفة الغربية، والقدس، وحي الشيخ جراح، وغزة بالطبع، بتهجيرهم قسريا، والاستيلاء على أراضيهم، وإعطائها لمستثمرين عرب".

وأشار إلى جانب آخر يراه خطيرا، ملمحا إلى أنهم "قد يكونوا مجرد واجهة لمستثمرين إسرائيليين"، مبينا أنه "فعل ذلك التهجير بجزيرة الوراق بوسط نهر النيل، وفي رفح المصرية والشيخ زويد بشمال سيناء، ونزلة السمان بالجيزة، وعمارات ألماظة بالقاهرة، وحي الجميل ببورسعيد، والآن رأس الحكمة، المدينة السكنية التي يقطنها مصريون منذ ربما مئات السنين، تماما كالوراق".

ويرى الباحث المصري، أنه "لن تحدث تنمية حقيقية بأي مكان في العالم ما لم يسبقها رضا وتوافق شعبي، لأن الشعب المعني الأخير بتنفيذ تلك المشروعات المعقود عليها آمال التنمية؛ أما وأنك تستبعد الشعب منها، فهذا يجعلنا نتساءل مرة أخرى؛ هل مصر دولة مستقلة حقيقة وذات سيادة أم دولة محتلة؟".

وختم بالقول: "حتى في حالة الدولة المحتلة فإن القانون الدولي يلزم سلطات الاحتلال برعاية مواطني الدول المحتلة، بينما نظام السيسي تخلى كليا عن شعبه، واعتبره وكما أسلفنا وكأنه كم مهمل، وكل سياساته وحتى تصريحاته تشي وتقر بذلك".

"خلفها أمور آخرى"
وعبر مواقع التواصل الاجتماعي أثارت تلك الصفقات وخاصة رأس الحكمة كونها الأكبر في تتابع ضمن "أوكازيون تاريخي" قلق بعض المصريين، ومخاوفهم مما قد يكون خلف تلك الصفقات.

الكاتب الصحفي جمال سلطان، قال عبرموقع "إكس": "الأمر المؤكد أن مشروع رأس الحكمة صفقة سياسية قبل أن تكون صفقة عقارية، وفي الصفقات، سياسية أو اقتصادية، هناك بائع وهناك مشتر، في مشروع رأس الحكمة عرفنا أن الإمارات ظاهريا، وليس بالوكالة، هي من دفع واشترى، فماذا باعت مصر سياسيا لتقبض 35 مليار دولار كمقدم، أو عربون لصفقة أكبر؟".

وأكد أن أرض رأس الحكمة أملاك الشعب، وعندما تقوم حكومة بعمل صفقة على أملاكه، خاصة مع جهة أجنبية، فمن حقه معرفة تفاصيل الصفقة، فهي "مشروع استثماري وليست سرا حربيا، إلا إذا كان في الصفقة أسرارا مشينة يخافون أن يطلع عليها الشعب".

وأعرب السياسي المصري طلعت خليل، عن مخاوفه من تنازلات مصرية أخرى في ملف تلك الصفقات، متسائلا عبر "فيسبوك": "هل يحق لشركة رأس الحكمة تأجير قواعد بحرية وجوية للغير؟"، مطالبا بإظهار عقد رأس الحكمة.

وتساءل رئيس حزب الخضر المصري محمد عوض، عن "التزامات وحقوق كل شريك، وأي نوع من الشراكة، ولأي مدة، ومن هو المكلف بإدارة الشراكة  وضمانات كل طرف، وما حدود حق التنازل عن الحصص، وهل هناك قيود تتعلق بالأمن القومي الاقتصادية والسياسية والبيئية، ومن يمثل الدولة المصرية بهذه الشراكة".