قضايا وآراء

صفقة القرن بين الحقيقة والخيال

تعود صفقة القرن إلى الواجهة مع العدوان على غزة- عربي21
مصطلح "صفقة القرن" هو مصطلح ظل يتردد على ألسنة المسؤولين الدوليين والمحللين السياسيين دون بيان لحقيقته بشفافية وإفصاح، ولكن تم رفع الستار جزئيا عن هذا المصطلح من خلال لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في العاصمة واشنطن في نيسان/ أبريل 2017م، بقوله لترامب: "ستجدني بكل قوة ووضوح داعما لأي مساع لإيجاد حل للقضية الفلسطينية في صفقة القرن، ومتأكد أنك تستطيع أن تحلها"، هذا في الوقت الذي لم يتلفظ فيه ترامب نفسه بهذا المصطلح من قريب أو بعيد، واكتفى بالرد على نظيره المصري قائلا: "سنفعل ذلك سويا، سنحارب الإرهاب سويا وستمتد صداقتنا طويلا".

ولم ينقض العام ٢٠١٧م حتى أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ٦ كانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٧م قرارا بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية إليها لاحقا، ليأتي قرار ترامب بعد وعد بلفور بمائة عام، هذا الوعد المشؤوم الذي صدر في العام ١٩١٧م وبه أعطى من لا يملك أرض فلسطين لمن لا يستحق.

ولم يكتف ترامب بذلك بل استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن للحيلولة دون إدانة قرار ترامب، كما هدد ترامب بقطع المساعدات الأمريكية عن الدول التي تصوت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قراره. بل قام ترامب في 23 آذار/ مارس 2019م بتوقيع إعلان بموجبه تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة الكيان الصهيوني على مرتفعات الجولان السورية المحتلة. ولم يتوقف ترامب عند ذلك الحد،
جاءت أحداث طوفان الأقصى والعدوان الصهيوني لأكثر من مائة يوم على غزة لتكشف مرة أخرى وبقوة عن صفقة القرن، لا سيما في ظل ما يعانيه الاقتصاد المصري من تراكم الديون التي تهدد بالإفلاس، وانتكاسة تهدد بانفجار ليس الوضع الاقتصادي فحسب بل السياسي أيضا
بل إنه كلف صهره ومستشاره الصهيوني "جاريد كوشنر" بالتخطيط والإشراف والتنفيذ لصفقة القرن، لمقايضة السلام بالمال بعيدا عن إعادة الأرض المغتصبة وحقوق اللاجئين المعروفة، وذلك من خلال شقين: أولهما اقتصادي يليه الشق السياسي لتصفية القضية الفلسطينية بمال وضيع، لا يساوي شبرا واحدا من أرض فلسطين، بل ولا قطرة دم لشهيد.

وللأسف فقد اختارت الولايات المتحدة الأمريكية دولة عربية هي البحرين للإعلان فيها عن الشق الاقتصادي لصفقة القرن، من خلال انعقاد ورشة اقتصادية بالمنامة في 25 و26 حزيران/ يونيو 2019م، تحت عنوان: "السلام من أجل الازدهار"، حضرها عدد من صهاينة العجم والعرب باسم تشجيع الاستثمار في الأراضي الفلسطينية، ومنح قادة الحكومات والأعمال والمجتمع المدني فرصة لحشد الدعم لمبادرات اقتصادية، في إطار اتفاق سلام موهوم مقابل مال خبيث مدفوع.

والعجيب أن الجزء الأكبر من تمويل صفقة القرن خُطط له بأن يكون من جيوب دول خليجية، حيث أراد كوشنر، خليفة هرتزل، أن يبيع فلسطين لمغتصبها بأموال عربية قدرها خمسون مليار دولار تستثمر في فلسطين ومصر والأردن، ثم يسمى ذلك بفرصة القرن، وهو ما يعني أن ما يراد له من استقرار الكيان الصهيوني وتمدده، وبيع فلسطين قوامه أموال خليجية، مقابل التنازل عن جزء من سيناء لتوطين أهل فلسطين، وقيام دولة فلسطينية ممزقة الأجزاء منزوعة السيادة وضياع القدس الشريف؛ مسرى النبي الأمين، وحق الفلسطينيين في العودة لديارهم. وهذا نتاج طبيعي للتخاذل العربي الذي حول فلسطين من قضية إسلامية ثم إلى قضية عربية ثم إلى قضية فلسطينية، ثم إلى قضية إسرائيلية يتحكم فيها اللوبي الصهيو-عربي-أمريكي بما يشاء.

ورحم الله السلطان عبد الحميد الثاني الذي عرض عليه زعيم الحركة الصهيونية "ثيودور هرتزل" من المال ما يحل مشكلة الدولة العثمانية الاقتصادية من جذورها ويحقق لها الرخاء، مقابل التنازل عن فلسطين، فقال له قولته المشهورة: "لا أستطيع بيع حتى ولو شبر واحد من هذه الأرض، لأن هذه الأرض ليست ملكا لشخصي بل هي ملك للدولة العثمانية، نحن ما أخذنا هذه الأراضي إلا بسكب الدماء والقوة ولن نسلمها لأحد إلا بسكب الدماء والقوة. والله لئن قطعتم جسدي قطعة قطعة لن أتخلى عن شبرٍ واحد من فلسطين".
رفض النظام المصري أكثر من فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، ومع ذلك فأخشى ما أخشاه أن تكون تلك التصريحات لتخدير الشعب وقبوله بعملية التهجير في ظل وضع مبررات لذلك بأن أرض سيناء كبيرة وغير مستغلة، ولن يضير مصر التخلي عن جزء منها مقابل سداد ديونها جزئيا أو كليا وحل مشكلة سد النهضة، لا سيما وأن المقدمات منذ سنين تبرز هذا التوجه من خلال توريط مصر في الديون، وترحيل أهالي رفح، وإغلاق الأنفاق

وقد جاءت أحداث طوفان الأقصى والعدوان الصهيوني لأكثر من مائة يوم على غزة لتكشف مرة أخرى وبقوة عن صفقة القرن، لا سيما في ظل ما يعانيه الاقتصاد المصري من تراكم الديون التي تهدد بالإفلاس، وانتكاسة تهدد بانفجار ليس الوضع الاقتصادي فحسب بل السياسي أيضا، حيث جاوزت الديون الخارجية وحدها الـ165 مليار دولار بنهاية الربع الأول من العام الحالي، مقارنة بـ43 مليار دولار في عهد الرئيس مرسي.

وقد رفض النظام المصري أكثر من مرة فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، ومع ذلك فأخشى ما أخشاه أن تكون تلك التصريحات لتخدير الشعب وقبوله بعملية التهجير في ظل وضع مبررات لذلك بأن أرض سيناء كبيرة وغير مستغلة، ولن يضير مصر التخلي عن جزء منها مقابل سداد ديونها جزئيا أو كليا وحل مشكلة سد النهضة، لا سيما أن المقدمات منذ سنين تبرز هذا التوجه من خلال توريط مصر في الديون، وترحيل أهالي رفح، وإغلاق الأنفاق. وكذلك ما ورد من تصريحات للسيد مصطفى الفقي المقرب من السلطة -والتي قد تعد بالون اختبار- عن رأيه حال عرض الأمريكان تهجير نحو 100 ألف مواطن من قطاع غزة إلى سيناء، نظير إسقاط بعض الديون عن مصر، وحل قضية سد النهضة، حيث قال: "سيتوقف الأمر على الجانب المصري، إذا كان الأمر داخل أرضي وحدودي، وكان هناك ضمان من الجانب الإثيوبي بشأن سد النهضة يحترم تاريخيا حقوق مصر النيلية، مقابل الحصول على شريط صغير من 15 كم، فمن الممكن النقاش".

ومع كل هذه المخاطر لهذه الصفقة المشؤومة لدق آخر مسمار في نعش أرض بيت المقدس بيد عربية وصهيونية، يبقى الأمل وبتجدد بقوة بتمزيق تلك الصفقة بسواعد المقاومة في غزة، وثبات أهلها شيوخا ونساء وأطفالا وشبابا، ورفضهم التهجير، وارتباطهم بديارهم وأرضهم موتا وحياة.

twitter.com/drdawaba