كتب

كيف اكتسب "ميدان التحرير" قيمة مضافة بثورة يناير؟ قراءة في كتاب

الحركة النضالية المصرية بدأت تعبر عن رفضها ومعارضتها في فضاءات ميدان التحرير منذ عقود طويلة..
الكتاب: "شعب وميدان ومدينة.. العمران والثورة والمجتمع"
المؤلف: علي عبدالرؤوف
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

يقدم المعماري والأكاديمي علي عبدالرؤوف قصة "إنسانية ومكانية ومعمارية" لميدان التحرير، في العاصمة المصرية القاهرة يستشرف منها، بحسب ما يقول، فهما جديدا لمدينة القاهرة، وتفسيرا مغايرا لعلاقة المجتمع أو الشعب المصري بالميدان. تشمل هذه السياقات رصد التحولات الرئيسية في المدينة، خصوصا إبان حقبة الانتقال مما يسمى "القاهرة الأولى"الإسلامية، إلى "القاهرة الثانية" غربية الطابع وأوروبية الملامح، إلى القاهرة الثالثة التي اصطبغت أجزاء منها بالعشوائية التي امتدت إلى جنبات ميدان التحرير.

كما تشمل قراءة مكانية وثقافية وإنسانية لميدان التحرير تشرح التوجهات المعمارية والعمرانية الحاكمة لقاهرة القرن العشرين وبدايات القرن الجديد، وتوثق دور الميدان التصاعدي في حياة الشعب المصري على مدى حقب تاريخية مختلفة. بالإضافة البحث في دور الميدان في ثورة 25 يناير، وقدرته المكانية والفضائية على استيعاب الثوار، ومرونته في التحول من فضاءرسمي بارد، ترصد فيه بوضوح يد الأمن الباطشة المعلنة والسرية، إلى فضاء شعبي تملكه الجماعة الإنسانية.

في التتبع التاريخي لنشأة الفضاءات الحضرية العامة وتطورها، يظهر بوضوح أهمية دور الفضاء العام ومدى تأثيره في تشكيل المجتمعات وإحساسها بالانتماء إلى المكان، بوصفه مسرحا تتعاقب عليه دراما الحياة الاجتماعية لأهل المدينة بأفراحها وأحزانها، وبأبعادها الرسمية وأجوائها الشعبية.

إنها (الفضاءات العامة) بحسب عبدالرؤوف، تمثل الأرضية المشتركة التي يؤمها المجتمع في نشاطه الوظيفي اليومي أو في شعائره الموسمية، وهي التي تعطي الجماعة الإنسانية الفرصة للتعبير عن نفسها، والإفصاح عن هويتها. ويضيف: في المدينة الإسلامية شكلت "الساحة" مركز النشاط واللقاء، ومثلت الفضاء العام في التكوين العمراني للمدن الإسلامية، ذلك أنها ارتبطت بأكثر المباني العامة تأثيرا في نفوس جماعات المسلمين ألا وهو المسجد. وشكلت الساحة مع المسجد والسوق ثلاثية مكررة وناجحة في جميع مدن المجتمعات الإسلامية التقليدية من القاهرة إلى دمشق وبغداد.

من جهة أخرى فإن الميادين في المدن الأوروبية والأمريكية تتميز كذلك بالنشاط التجاري والمباني ذات القيمة المعمارية، وبفضاء الميدان نفسه الذي يمثل مكانا للتلاقي والتفاعل والحوار، وكل هذه الفضاءات العامة تحقق مفاهيم العدالة الاجتماعية والعمرانية والإنسانية، من خلال إتاحة الفرصة لجميع المواطنين كي يجتمعوا في المكان نفسه على قدم المساواة.

ويلفت عبدالرؤوف في سياق آخر إلى أن العلاقة بين العمارة والسياسة علاقة مهمة، حيث تتداخل في صوغها مكونات منهجية ومفهومية مختلفة، ترتبط بالتوجه السياسي العام، وبالرؤية المعمارية والعمرانية، وبسبب هذه العلاقة فإن العمارة يمكن أن تتوافق وتصبح أداة للسيطرة السياسية، أو تتمرد وتصبح أداة للمقاومة الثقافية.

في مصر يصف المؤرخ خالد فهمي المدن بالقبح وفساد الإدارة، لكنها تتميز برأيه بمنطق التخطيط الذي يجعل من تلاقي المواطنين فيها ـ بصفتهم مواطنين متساوين ـ أمرا مستحيلا. والميادين العامة خير شاهد على ذلك، فميدان رمسيس أو ميدان التحريرمثلا، لا توجد فيهما أشجار يستظل بها المارة، ولا مقاعد يجلس عليها الناس للراحة أو القراءة أو التحدث، وتوضهع فيها أسوار قبيحة لا تعزل المارة عن السيارات فحسب، بل تمنع أيضا الناس من التلاقي، والغرض من كل ذلك بحسب فهمي هو منع الناس من التقابل والتحدث، وهو ما تطلق عليه السلطات لفظ "التجمهر" بما يوحي طبعا بالخطر والخروج على القانون.

ملتقى الثوار

تحت عنوان "تاريخ التعبير النضالي في ميدان التحرير" يشرح عبدالرؤوف كيف أُنشيء ميدان التحرير في خضم الثورة العمرانية التي قادها الخديوي إسماعيل، وكيف تعرض لفصول من التحولات العمرانية المرتبطة بحقبتي الاستعمار وما بعد الاستعمار، والتحرر والانفتاح والليبرالية الجيدة، وصولا إلى ثورة 25 يناير، والأعوام التي أعقبتها. ويقول إن الحركة النضالية المصرية بدأت تعبر عن رفضها ومعارضتها في فضاءات ميدان التحرير منذ عقود طويلة، حيث يعود ذلك إلى ما بعد وقت قليل من إنشائه، في أثناء حوادث الثورة العرابية بقيادة أحمد عرابي في عام 1881، التي طالبت بتعديلات دستورية وإصلاحات وقوبلت بعنف بأوامر ملكية، ما دفع الضباط ليتخذوا من الميدان ساحة لنضالهم للإفراج عن زملائهم.

كما شهد الميدان أعظم تظاهراته إبان ثورة 1919بقيادة سعد زغلول، ثم كانت انتفاضة الطلاب في عام 1935 التي جاءت بعد تعطيل الملك فؤاد للدستور. وشهد الميدان أول تظاهرة تطالب بسقوط الملك فاروق عام 1946. وإلى جانب مشاهد النضال شعبي العفوي فق استقبل الميدان أيضا فعاليات احتفالية تحت إشراف النظام ورعايته ومنها "مهرجان التحرير" في يناير 1953، عندما حاول الضباط الأحرار الحصول على مباركة علنية من الشعب لانقلاب الجيش، كما حاولوا إلهاء الشعب عن قرارهم بإلغاء الأحزاب.

ميدان التحرير كان، بصورة دائمة، تجسيدا ماديا للتوجهات السياسية، وقد تميزت حقبة الرئيس حسني مبارك بتكثيف الدولة سياسات التقسيم والتفتيت والتسوير للتعامل مع الميدان ومكوناته. كما جرى اعتماد قانون الطوارىء باستمرار لمنع الشعب من استخدام الميدان أو من إدراكه فضاء عاما يملكه الشعب.
وبعد ذلك منعت الثورة التظاهرات، خصوصا في هذا الميدان الحيوي، بحسب ما يقول، عبدالرؤوف، إلى أن سمح بها مرة أخرى بعد هزيمة 1967، ثم تكرر خروج المتظاهرين إلى الشوارع وإلى الميدان منددين بالأحكام المخففة التي نالها ضباط الجيش المسؤولون عن الهزيمة.الميدان شهد أيضا احتفالات المصريين بنصر أكتوبر 1973، وبعدها بأربعة أعوام شهد تظاهرات ضخمة ضد رفع الأسعار وهي الانتفاضة التي سخر منها الرئيس السادات واصفا إياها بانتفاضة الحرامية.

وعلى الرغم من الدلالات الرمزية التي تحملها تسمية الميدان "التحرير"، وكونه من أقدم ميادين القاهرة الحديثة، فإنه لم يرتبط قط بهذا المعنى التحرري لدى القاهريين حتى قيام ثورة 25 يناير. يرى عبدالرؤوف أن ثورة يناير "منحت فضاء الميدان قيمة مضافة، فهي لم تكن فقط تظاهرات وصمود في الميدان 18 يوما متصلة، بل إنها جعلت من الميدان ملتقى الثوار، حيث تقابل المصريون وتناقشوا وتجادلوا واختلفوا واتفقوا،.. وتكونت بينهم صداقات وعلاقات تعدت حدود الأصل والدين والطبقة الاجتماعية. كان الميدان يعج بأسمى الممارسات الديمقراطية".

خطورة الأنموذج

يلفت عبدالرؤوف إلى أن ميدان التحرير كان، بصورة دائمة، تجسيدا ماديا للتوجهات السياسية، وقد تميزت حقبة الرئيس حسني مبارك بتكثيف الدولة سياسات التقسيم والتفتيت والتسوير للتعامل مع الميدان ومكوناته. كما جرى اعتماد قانون الطوارىء باستمرار لمنع الشعب من استخدام الميدان أو من إدراكه فضاء عاما يملكه الشعب.

كانت هذه الأدوات التي تحقق السيطرة الأمنية، لكنها، في الوقت نفسه، تجهض الدور المجتمعي للفضاء الأكثر نفوذا في تسييج المدينة العاصمة. ويشرح عبدالرؤوف كيف أن الميدان لم يكن استثناء ليفلت من المناخ العشوائي العام، إذ التأمت مجموعة من العوامل السلبية التي قللت من الاعتبارية العمرانية والفضائية للميدان، حيث تفاقمت أزمة المرور في قلب القاهرة، وانتشرت مداخل مترو الأنفاق، حيث أكبر محطات المترو في الميدان، إضافة إلى المواقف العشوائية للميكروباصات وسيارات الأجرة، وتبعا لذلك دمرت بنية شبكة المشاة الذين أصبح تحركهم في الميدان من أي نقطة مجازفة تشكل خطرا على سلامتهم.

وكانت ذروة انهيار الدور الاجتماعي للميدان، بحسب عبدالرؤوف، تكثيف السيطرة الأمنية على جانبه المواجه للمتحف المصري بعد حادث إرهابي في العام 1997، فتحول معظم الجزء الشمالي من الميدان إلى ثكنة أمنية تتناقض تناقضا كاملا مع الانفتاح المطلوب في الفضاءات العامة. وبرغم ذلك فإن طبيعة تركيب ميدان التحرير المكانية، والبنية المادية المشتتة له، جعلتا من إمكان إحكام قبضة قوات الأمن عليه أمرا صعبا، لأن طبيعة الفضاء غير محددة  ومتكونة فعليا من مجموعة من الفضاءات الرئيسية والثانوية، مع تعدد الشوارع التي تؤدي إلى الميدان(20 شارعا).

كل ذلك ساهم في تسهيل حركة المحتجين على حكم مبارك، ومكنهم من عمليات إمداد المتظاهرين بالتموين، وكان هذا من أهم عوامل نجاح الثورة. أمر آخر يشير إليه عبدالرؤوف جعل للتظاهر في الميدان ميزة إضافية،إذ بسبب وجود العديد من المباني الحكومية في محيط الميدان مثل وزارة الداخلية، والمقر القديم لوزارة الخارجية، ومجلسا الشعب والشورى، ومقر مجلس الوزراء، ومجمع الدوائر الحكومية(مجمع التحرير)، كل هذه المباني التي ترمز إلى السلطة وتعبر عن النظام الحاكم كان التظاهر حولها وأمامها تعبيرا واضحا عن القدرة على مواجهة السلطة رمزيا وفعليا.

في الفصل الأخير من كتابه يتوقف عبدالرؤوف بالتحليل عند مجموعة من الأحداث التي عاشها الميدان بعد الثورة على مدار سبعة أعوام، ويتعامل مع فرضية جوهرية قوامها أن التحول التدريجي في الصورة الذهنية والبصرية والوجدانية لميدان التحرير من فضاء مقدس إلى فضاء مدنس، هو مشروع متعمد بهدف إهدار الطاقة الثورية وتشتيتها، وإجهاض دور الفضاء العام في مصر. فعلى ما يبدو أدرك النظام الحاكم والمجلس العسكري خطورة أنموذج الميدان في التحول من فضاء مشتت خاضع للسلطة إلى فضاء يعبر عن قوة الشعب وضعف النظام. وبناء على هذا الفهم انطلقت أفكار تفتيت الميدان، الذي تحول بالتدريج إلى هدف جُند له كل الجهد لتشويهه. جهد تطور من النداء بعدم جدوى الاستمرار في التظاهر والاعتصام في ميدان التحرير، لأن الثورة أصبحت في أيد أمينة، وصولا إلى اتهام من في التحرير بأنهم مأجورون أو مضلَلون.