كتب

من أجل سرديات منهية للقطيعة بين المغرب والجزائر.. قراءة في كتاب

تقدم هذه المذكرات جانبا مشرقا من الأدوار التي كان يقوم به مكتب القاهرة في تنسيق الثورة في منطقة المغرب العربي، وكيف تم التخطيط إلى تسليح كل من الثورة المغربية والجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي..
الكتاب: الباخرة دينا: تسليح المغاربة للثورة الجزائرية: مذكرات المقاوم شوراق حمدون
الكاتب: شوراق حمدون
تقديم حياة أجعير ومراجعة امحمد جبرون
دار النشر دار الإحياء للنشر والتوزيع-طنجة المغرب
الطبعة الأولى 2023


يعود جزء كبير من التوتر الذي تعرفه العلاقات المغربية الجزائرية إلى سوء فهم كبير تمتد جذوره في التاريخ القريب للبلدين، وبالتحديد فترة مقاومة الأمير عبد القادر للاستعمار الفرنسي في الجزائر، إذ تروى في هذا الصدد روايات متعددة، يؤكد أغلبها أن الغرب الجزائري كان جزءا من الدولة المغربية، وأن منطقة تلمسان بأعيانها وعلمائها ورجالها كانوا يدينون بالبيعة إلى سلطان المغرب، وأنه رغم انسحاب المغرب من إقليم وهران وتلمسان سنة 1832، فإن الأمير عبد القادر لم يكن يتردد في إعلان نوع من التبعية إلى السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام الذي تحفظ في البدء على إمارته، ثم رفع عنه التحفظ وتعاون معه.

وقد أقرت كل الوثائق المغربية والجزائرية، بما في ذلك رواية الأمير عبد القادر، بحصول هذا النوع من التعاون بينه وبين السلطان  في المرحلة الأولى، إذ كان كل واحد منهما يحمل تقديرا مختلفا، فالأمير عبد القادر كان يريد بإبداء التبعية للسلطان المغربي تأمين دعمه للمقاومة الجزائرية، لا سيما وأنه يعلم أن سياسة السلطان كانت تقوم على مبدأ الالتزام الظاهري أمام فرنسا بعدم إسناد المقاومة الجزائرية،  مع الاستمرار عمليا في تقديم دعم محدود وغير معلن له، بينما كان تقدير السلطان المغربي أن من شأن دعمه للأمير عبد القادر مقاومة المخططات الفرنسية، التي كانت تتوسع في غرب الجزائر، وعينها على شرق المغرب وشماله. فكانت سياسته تقوم على خياري الدفع بفرنسا للانسحاب التام من الجزائر، أو على الأقل حصرها داخل المراكز الساحلية التي احتلتها.

تؤصل أغلب الكتابات مصدر التوتر في العلاقات بين البلدين إلى المرحلة الثالثة والأخيرة من العلاقة بين السلطان المغربي والأمير عبد القادر، في حين لم تكن المرحلة الثانية، سوى ممهد للثالثة ونتيجة لها، بعد أن اتجه الأمير عبد القادر لاعتبارات التراجع العسكري أمام قوة المستعمر وزحفه إلى الغرب الجزائري، إلى توقيع معاهدة ديمشيل سنة 1934، ثم معاهدة تافنا بعد انهزامه في قسنطينة سنة 1935، إذ رأى السلطان المغربي أن إبرام هاتين المعاهدتين من جانب الأمير عبد القادر يتعارض تماما مع السياسة المغربية، ويضر أيضا بالمصالح الجزائرية مما أدخل العلاقة مرة ثانية إلى دائرة التحفظ ثم معاودة الدعم رغم ذلك.

لا يهمنا كثيرا في هذه التوطئة التوقف عند التفاصيل، فالتوتر الفعلي نشأ في اللحظة التي اضطر فيها الأمير عبد القادر إلى اللجوء إلى شرق المغرب، وبدأ يكتل القبائل المغربية تحت إمرته لمقاومة الاستعمار في الجزائر، إذ رأى السلطان المغربي أن ذلك يمس بشرعيته، ويعطي المبرر للاستعمار الفرنسي لتوسيع نفوذه إلى المغرب، فتمت محاولات إقناعه بالتوقف عن سياسة المقاومة من داخل التراب المغربي، فكان الرد من الأمير عبد القادر بتأليب قبائل الشرق ضد السلطان حسب الرواية المغربية، بينما  كتب الأمير روايته بصيغة التحسر على الموقف المغربي، مفضلا نسبته إلى التآمر على المقاومة الجزائرية والتواطؤ مع الاستعمار ضدها.

وهكذا تحاول كتابات ومواقف السياسيين الجزائريين التأصيل للتوتر والخلاف في العلاقات المغربية الجزائرية بالرجوع إلى هذا التاريخ، وإلى قصة سوء الفهم الكبير الذي حصل بين الأمير عبد القادر وبين السلطان المغربي، وتقفز على كل الوثائق والروايات والرسائل بما في ذلك رسائل الأمير نفسه التي تؤكد حجم الدعم المالي والعسكري واللوجستي الذي قدمه المغرب إلى الجزائر للتخلص من الاستعمار ومواجهته.

وإذا كانت لحظة الخلاف هذه تلتبس فيها جوانب الدعم بعناصر من سوء الفهم، فإن لحظة أخرى تلتها، غاب فيها تماما سوء الفهم، وكان للمغرب دور محوري في تسليح الثورة الجزائرية، ومدها بالسلاح، وتوفير كل السبل والإمكانات لوصوله إلى التراب الجزائري، لمساندة الأشقاء على التحرر من الاستعمار ونيل الاستقلال. فقد وردت وثائق عديدة، وشهادات قدمها حتى قادة من المقاومة الجزائرية تؤكد الدور الذي قدمته الحركة الوطنية المغربية من أجل تمكين الجزائريين من السلاح لإشعال الثورة المغربية والجزائرية في وقت واحد، ووضع الاستعمار الفرنسي أمام تحد يصعب مواجهته.

المغرب قاعدة لتسليح الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي

يكتسي كتاب "باخرة لينا تسليح المغاربة للثورة الجزائرية" أهمية كبيرة، فهو مذكرات مقاوم مغربي (شوراق حمدون)، روى فيها دوره المحوري في تسليح المقاومة الجزائرية، وعلاقاته الواسعة مع قيادات الثورة الجزائرية، والظروف والحيثيات التي جعلته ينخرط في عملية بالغة الحساسية والتعقيد، ترتبط بتسليح الثورة الجزائرية عبر المغرب، واستعمال كل الإمكانات البشرية والمالية واللوجستية المحدودة التي يمتلكها فضلا عن العلاقات السياسية، والتنظيم الحزبي (حزب الإصلاح الوطني بالشمال) من أجل تحقيق هذا الهدف.

وعلى الرغم من أن هذه الشهادة تتحدث عن ثلاث محاولات كبرى للتسليح عبر استقبال ثلاث بواخر كبرى جاءت من مصر محملة بالسلاح نحو المغرب والجزائر، فإن المعطيات الكثيفة التي حكاها عن كيفية التخطيط لوصول الباخرة، والمنطقة التي تم اختيارها للرسو (في مناطق بحرية قريبة من قبيلة كبدانة التي ينحدر منها المقاوم شوراق حمدون)، وحجم العلاقات التي كانت تجمعه بقادة المقاومة الجزائريين، ومستوى الثقة التي كانت تجمعهم به، والجهد الكبير الذي كان يبذله في كل المستويات المالية واللوجستية والأمنية، من أجل إنجاح  هذه العمليات، والطريقة التي كان يلجأ إليها للتهرب من المراقبة الأمنية سواء من قبل الاستعمار الإسباني والفرنسي لا سيما وأن العملية تتعلق بإفراغ باخرة من حجم كبير في ساحل مراقب بشكل كثيف، كل هذه المعطيات، تبين درجة العلاقة الوثيقة التي كانت بين  المغرب والجزائر، والدور الذي كان يقوم به المغاربة من أجل دعم الجزائر كي تنال استقلالها.

ثلاث بواخر لتسليح المقاومة الجزائرية

تقدم هذه المذكرات جانبا مشرقا من الأدوار التي كان يقوم به مكتب القاهرة في تنسيق الثورة في منطقة المغرب العربي، وكيف تم التخطيط إلى تسليح كل من الثورة المغربية والجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، إذ تم اختيار المغرب ليكون قاعدة انطلاق عملية تسليح المقاومة الجزائرية، وذلك بإرسال باخرة "لينا" محملة بكم هائل من السلاح، والتخطيط المسبق لاستقباله في أحد سواحل المنطقة الشرقية بالمغرب، إذ تم التنسيق من قادة الاقومة أن تنطلق الثورات المشتركة لدحر الاستعمار في وقت واحد، وتم اختيار سنتي 1954 و1955 محطات للتنفيذ.

تحكي هذه المذكرات سياق هذه الاتصالات، وكيفية وصول شخصين من المقاومة الجزائرية (محمد بوضياف والعربي المهيدي) إلى المقاوم شوراق حمدون يطلبان منه الدعم من أجل تيسير عملية وصول حصتهم من السلاح الذي سيصل إلى المغرب على متن باخرة "لينا"، ليبدأ على التو مسار من الاتصالات مع محمد بوضياف الزعيم الوطني الجزائري لترتيب عملية الاستقبال والإفراغ والتخزين ثم إرسال السلاح إلى الجزائر.

ربما يكون من مهمة المثقفين والمؤرخين اليوم، أن يجعلوا من هذه المذكرات ومثيلاتها في الطرف الآخر، المتن الأساسي لبناء السردية الصحيحة، سردية الأخوة والتعاون، بدل الاستثمار في سردية التوتر والقطيعة، بالاستناد إلى نقاط جد محدودة من سوء الفهم، والتي كان فيها كل طرف يحمل تقديره الخاص الذي لا يلام عليه، إلا ما كان من تخوين أو قراءة الأحداث من زاوية التآمر.
تستطرد المذكرات طويلا في شرح تفاصيل استقبال الباخرة، والخطة التي تم انتهاجها، والتي كانت تقوم على فكرة الإفراغ والنقل والإرسال في مرحلة واحدة، إذ تم الاتفاق على أن يتم الإعلام بوصول الباخرة بحوالي ثلاثة أسابيع، وذلك حتى يتم ترتيب الاتصال بالجزائريين واستقدام خمسين رجلا من رجال المقاومة من أجل تيسير  نقل السلاح إلى التراب الجزائري، ليقع الارتباك بعد أن تم الإخبار  بقدوم الباخرة قبل أسبوع فقط، مما أربك الخطة، ودفع في اتجاه انتهاج خطة بديلة، تسببت في كثير من العنت والصعوبة، لولا استعانة المقاوم حمدون شوراق برجال قبيلته الذين تحملوا عبء المهام التي كان من المخطط أن يقوم ببعضها الجزائريون.

ومن اللافت للانتباه في هذه المذكرات أن باخرة "لينا" كانت تقل على ظهرها الرئيس الجزائري الأسبق الهواري بومدين، وقد استقبل بحفاوة كفرد من طاقم الباخرة الذين حضروا في سياق تنفيذ خطة مكتب القاهرة لدعم المقاومة في المغرب العربي.

تقدم المذكرات معطيات درامية مهمة عن العطب الذي أصاب باخرة لينا، وتسرب المياه إليها بسبب اصطدامها بصخرة في الساحل، وكيف تعبأ رجال قبيلة كبدانة للقيام بالواجب، وحمل السلاح وتخزينه وإفراغ كل السفينة، وعدم ترك أي أثر للسلاح في الشاطئ، وتحريك البقر والماعز والغنم لمحو آثار أقدام الرجال، مخافة أن يظهر الإسبان على حقيقة السفينة، ليأتي الصباح، ويتم إخبار سلطات الاستعمار بوقوع حادث للباخرة، اضطرها إلى الخروج للشاطئ في هذه المنطقة، فتم تصديق الرواية.

يورد المقاوم حمدون شوراق تفاصيل مهمة عن الأخطاء التي ارتبكت في التخطيط لهذه العملية، وكيف حال ثقل صناديق الأسلحة دون حملها كلها، كما يورد تفاصيل أخرى عن تباطؤ قادة المقاومة الجزائرية في التماس حصتهم من السلاح بسبب الظروف الأمنية، وكيف مكث السلاح مدة طويلة مخزنا في بيوت عناصر من عائلة المؤلف، وكلما تم التخطيط لنقله برا أو بحرا إلا وتدخل قادة من المقاومة الجزائرية (مثل العربي المهيدي) وطلبوا بتأخير المهمة إلى حين تنضج الظروف لذلك.

النقد الذاتي كجزء من عملية التخطيط للقادم

وتحكي المذكرات صورة أخرى من صور دعم المغاربة للثورة الجزائرية، وكيف تم التخطيط لاستقبال باخرة ثانية (فخر البحار)، مع توجيه طاقمها لأخذ كثير من الاحتياطات، كتغيير وجهة الرسو خوفا من تكرار تجربة الاصطدام بالصخر، وتغيير أشكال تعليب الأسلحة حت تبدو أقل ثقلا ويسهل حملها، كما أخذ رجال قبيلة كبدانة احتياطات أخرى، إذ تم الاستغناء عن طلب الرجال الجزائريين، كما تم الاستغناء عن فكرة الإفراغ والتخزين والتوزيع في وقت واحد، وتم بدلا عن ذلك التفكير في خطة تخزين الأسلحة في بيوت أفراد بالقبيلة، ثم البحث عن خيارات آمنة لإيصالها إلى الجزائر، لكن هذه العملية ستفاجأ بظهور إكراهات أخرى، إذ رست الباخرة (فخر البحار) في مكان بعيد جزئيا عن الشاطئ، وتم الاستعانة بزوارق تم استلامها من رجال الصيد البحري، ليفاجأ الجميع بثقل صناديق الأسلحة مرة أخرى، وعدم تحمل سعة الزوارق لها، فاقترح رجال المقاومة المغربية من الباخرة العودة للمياه المغربية على أساس أن تعود الليلة التالية، فرفض الطاقم ذلك، بحجة أنه غير مسموح لهم بذلك، فاعتقد رجال المقاومة المغربية أن الفرصة ضاعت، لكن بعد أيام، سيقود التنسيق بين قادة المقاومة الجزائرية والمغربية إلى وصول خبر سار، فالباخرة المحملة بالسلاح، والتي تم إضاعة فرصة إفراغها، نجت من التفتيش في ميناء برشلونة، وأنها قررت مرة أخرى العودة للمنطقة الشرقية بالمغرب لإفراغ الحمولة لتتم العملية هذه المرة بنجاح.

ويحكي المقاوم شوراق حمدون قصة تلقيه خبرا من محمد بوضياف بقدوم باخرة ثالثة محملة بالسلاح، وأنه سيأتي هو ومحمد بوصوف (أحد قادة المقاومة الجزائرية)، وأنه يطلب منه أن يجعل رجال قبيلته كبدانة رهن الإشارة لإنجاح العملية، وأن رجاله قاموا باللازم، سوى أن محمد بوصوف بدأ يشير عليهم بما ينبغي فعله، مما اضطر محمد بوضياف للتدخل ومخاطبته بصرامة قائلا: "ينبغي أن تجعل نفسك رهن إشارة شوراق حمدون، وألا تتدخل له في خطته، فهؤلاء رجاله، ومنه يأخذون التعليمات وليس منك".

ومن المثير للانتباه في هذه المذكرات أن المؤلف ذكر مكان رسو البواخر الثلاث بالتفصيل، وذكر رجال قبيلته الذين شاركوا في كل مراحل العملية (استقبال الباخرة، ونقل السلاح، وتوزيعه) بالاسم والصفة، وذكر أصحاب الزوارق، ورجالات الصيد البحري الذين قدموا يد الدعم، وأسماء عناصر من عائلته الذين استعان بهم لتخزين السلاح، بل ذكر حتى الجواسيس الذين كانوا يتجسسون على اللاجئين الجزائريين إلى الشرق المغربي، وذكر تفاصيل مهمة عن التنسيق الأمني بين الفرنسيين والإسبان، وأشكال التدخل لتكثيف المراقبة الأمنية، وحالة الرقابة الشديدة التي تتعرض لها السواحل، ليس فقط من قبل الاستعمارين الفرنسي والإسباني ولكن أيضا من قبل الأمريكان الذين كانت لهم قدرات تجسسية هائلة في تلك الفترة.

التاريخ في خدمة أطروحة التعاون والإسناد

تقدم هذه المذكرات وغيرها شهادة حية لأجواء التعاون التي كانت بين رجال المقاومة المغربية والجزائرية، وتذكر بالتفصيل أسماء الشخصيات المقاومة التي كانت طرفا في التنسيق  لنقل السلاح إلى الجزائر، وكلها تشهد بأن المغرب ورجالاته، وضعوا أنفسهم في وضعيات خطيرة، من أجل مساعدة إخوانهم الجزائريين لنيل استقلالهم، فمحمد بوضياف والعربي المهيدي، ومحمد بوصوف، بل وحتى الهواري بومدين عاينوا هذا التاريخ المشرق، لكن، المشكلة أن أهواء السياسيين، لا تريد لهذا التاريخ أن يشكل الذاكرة المشتركة، بل تريد فقط لنقاط من سوء التفاهم أن تصنع نفسية التوتر والانقسام، بما يبرر استمرار القطيعة بين البلدين.

ربما يكون من مهمة المثقفين والمؤرخين اليوم، أن يجعلوا من هذه المذكرات ومثيلاتها في الطرف الآخر، المتن الأساسي لبناء السردية الصحيحة، سردية الأخوة والتعاون، بدل الاستثمار في سردية التوتر والقطيعة، بالاستناد إلى نقاط جد محدودة من سوء الفهم، والتي كان فيها كل طرف يحمل تقديره الخاص الذي لا يلام عليه، إلا ما كان من تخوين أو قراءة الأحداث من زاوية التآمر.