كتاب عربي 21

جنين المقاوِمة أمام سلطة معادية

جيتي
زار رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس (88 عاما) محافظة جنين، للمرة الأولى منذ 11 عاما، وارتبطت الزيارة بالمقاومة التي أبداها أهل مخيم جنين، وانسحاب العدو الصهيوني منها يجر أذيال الخيبة. واحتاجت الزيارة إلى ترتيبات، كما تبعتها تسويات، فما الذي روته المقاومة عنها؟ وما الدور الذي تقوم به السلطة؟

قبل الحديث عن الزيارة، تجدر الإشارة إلى طبيعة مخيم جنين؛ تبلغ مساحة مخيم جنين 420 مترا مربعا فقط، بحسب وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ويبلغ عدد الفلسطينيين المسجلين لديها 23628 فلسطينيا، لا يعيشون كلهم في المخيم، ويُقدَّر عدد السكان بـ18 ألف شخص في هذه المساحة الصغيرة.

تأسس مخيم جنين الحالي عام 1953؛ لإيواء النازحين الفلسطينيين الذين طردهم الغزاة من أرضهم عقب حرب 1948، ويقع في مدينة جنين شمال الضفة الغربية، على الحدود الفاصلة بين الضفة والمحتلين، فوفَّر التَّمَاسُ نقطة ساخنة على الدوام. ربما كان عام 2002 واحدا من أشد الفترات على شعبنا هناك؛ فبحسب الأونروا، "احتل الجيش الإسرائيلي المخيم بعد عشرة أيام من القتال العنيف، ودمّر أكثر من 400 منزل، وألحق أضرارا جسيمة بمئات أخرى، وشرد أكثر من ربع سكان المخيم". وقد أطلق الرئيس الراحل عرفات على المخيم وقتها "جنين غراد"، نسبة إلى معركة ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية.

مطلع هذا الشهر هجم الاحتلال مرة أخرى على المخيم، بذريعة أنه مصدر العمليات الأخيرة ضد كيانهم، واستمر الهجوم يومين فقط بسبب صلابة المقاومين، وتطور معداتهم المقاوِمَة، فانسحب الاحتلال سريعا. وبعد ذلك بأيام، أعلن السيد محمود عباس زيارته للمخيم، واتصل المعنيون بالمقاومين في جنين لتمر الزيارة بسلام، وطلبت المقاومة حقوقها البسيطة مثل عدم إزالة أعلام أو لافتات من المخيم، والإفراج عن أسيرين وإعادة سلاحهما. وقَبِل المعنيون هذه الطلبات، لكنهم أرجأوا خروج الأسيريْن لدى السلطة إلى ما بعد انتهاء الزيارة، وعلى هذه الأُسس تأكَّد حضور السيد عباس إلى المخيم.

قال رأس السلطة: "جئنا لنقول إننا سلطة واحدة، ودولة واحدة، وقانون واحد، وأمن واستقرار واحد، أحب أن أقول للقاصي والداني: كل من يعبث بوحدتنا لن يرى إلا ما لا يعجبه، لن نسمح ولن نقبل إطلاقا، وأقولها بصراحة أكثر، إن اليد التي ستمتد إلى وحدة الشعب وأمانه واستقراره ستقص من جذورها". وبعدها اعتقلت قواته مقاومين، بذريعة "حرق مقر الشرطة الفلسطينية ببلدة جبع خلال اقتحام المخيم".

الاعتقال السياسي في الضفة الغربية ليس جديدا على سلطة التنسيق الأمني، الخانعة للاحتلال والمعادية للمقاومة، فوفقا لمجموعة "محامون من أجل العدالة"، فإنها تابعت ما يزيد عن 300 ملف اعتقال سياسي منذ مطلع العام الحالي، مع إشارتهم، في حديث لموقع الجزيرة نت، إلى أنهم لا يتابعون كافة ملفات الاعتقالات السياسية في الضفة الغربية، بل ما يَرِدُ إليهم فقط، مستشهدين بعام 2022 الذي تابعوا فيه 400 ملف اعتقال من جملة 1270 حالة أُبلغ عنها، وللأسف تاريخ الاعتقالات السياسية في الأراضي التي خضعت أو ما تزال تخضع للسلطة الفلسطينية مليء بالوحشية في التعامل، وما واقعة "نزار بنات" عنا ببعيدة.

عمدت القوات المحتلة في كل زمان ومكان إلى استقطاب متحالفين معها، والغرض وجود إدارة محلية ظاهريَّة أمام الشعب المحتل، تقوم بتنفيذ غايات الاحتلال بأيد وطنية، ما يتسبب، بدرجة ما، في عرقلة مقاومة هذه القرارات الصادرة عن السلطات الوطنية. فمقاومة أبناء البلد لبعضهم أمارة فتنة داخلية، ولا مستفيد منها سوى المحتل، لذا تندر وقائع الاغتيال السياسي أو الاقتتال الداخلي في ظل الاحتلال، مقارنة بوقائع اغتيال أو محاولة اغتيال القيادات التابعة للاحتلال، ومقارنة بوقائع العمليات المقاومة عموما ضد الغزاة الخارجيين.

كان الصهاينة بحاجة إلى أمثال هؤلاء، لكنهم احتاجوا إلى أكثر من أربعة عقود لتتشكَّل سلطة تقوم بأمرين، أحدهما قمع الداخل الفلسطيني، وثانيهما، احتكار القضية الفلسطينية وحصرها في قيادة واحدة، بدلا من أن يتحدث عنها أي زعيم دولي آخر. ومن هنا بدأ تفكيك محاضن القضية الفلسطينية دوليا، بذريعة أن هناك سلطة تتحدث باسم الفلسطينيين، ولا يحق لأحد آخر أن يطالب بحقوقهم، وأصبح المقاومون السابقون، من حركة فتح، قطعة من النار على غيرهم من الحركات المقاوِمة.

ما تتعرض له المقاومة الفلسطينية من سلطة تُسمى وطنية، لا يخدم بقاء أعضائها على مقاعدهم، فهم أدوات يمكن للاحتلال التخلص منها، سواء سهلت عملية التخلص أم عسرت، ويحفظ التاريخ هذه الأسماء والوجوه بقبحها وقبح أدوارها. لكن الله قيَّض للأرض مقاومين على مدى تاريخ الاحتلال، لا يغريهم الذهب، ولا يرهبهم السيف، يجعلون تحرير أرضهم غاية حياتهم.