كتب

تحديات التمدين في مجتمعات عربية متحولة.. مقاربات اجتماعية وإنسانية

تعيش المدينة العربية اليوم تحولات مورفولوجية واجتماعية عميقة لم تشهدها من قبل..
الكتاب: المدينة العربية: تحديات التمدين في مجتمعات متحولة
مجموعة من المؤلفين
تحرير: مراد دياني
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، الطبعة الأولى، مارس 2020.

"إن تنفس الإنسان هواء المدينة يجعله حرًا" يشير، هذا المثل الألماني القديم، إلى ما يتيحه مجال المدينة من خروج من العشيرة إلى المجتمع، ما يعني بزوغ استقلالية الفرد عن الجماعة. وقد أصبح معظم سكان البلاد العربية يعيشون اليوم في المدن، وهو تغيّر عميق، وجذري، في تحولات المجتمعات العربية المعاصرة نحو التمدين، في مقابل الصورة التاريخية السابقة التي كان الريف الحضري، والبدو يشكلون فيه معظم السكان. في هذا الإطار صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كتاب "المدينة العربية: تحديات التمدين في مجتمعات متحولة".

جاء الكتاب في 480 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا، وتألف من 20 فصلًا، موزعة في خمسة أقسام، ومقدمة كتبها د. مراد دياني، ناقش فيها إشكالات المدينة العربية المعاصرة ومآلاتها.

ضم القسم الأول "التحولات الاجتماعية للمدينة العربية" خمسة فصول، بدأت بدراسة عبد الرحمن رشيق، عن "السياسة العمرانية والعلاقات الاجتماعية في المغرب"، سعى فيها، رشيق، إلى دراسة صيرورة التمدن السريعة، وكيف تكيفت بُنية المدينة المغربية مع التحولات الجديدة التي أدخلتها الإدارة الاستعمارية والتي حملت معها ثقافة وقيمًا جديدة، أثرت، بالضرورة، في السلوك الاجتماعي للأفراد.

تساءل، رشيق، عن طبيعة سياسة المدينة، وعلاقتها بنوعية العلاقات الاجتماعية التي تسود المدن الكبرى، وهل أسفر "الانتقال الديموغرافي" عن تقلص تدريجي لحجم الأسرة؟ وهل كان له تأثير في تقديس الفرد وتكريس الفرداني؟

خصص، هاني خميس عبده، الفصل الثاني، لدراسة "المدن المُسيجة في المجتمع المصري خلال الألفية الجديدة". واعتبر، عبده، أن بروز ظاهرة التجمعات السكنية المتميزة، التي أطلق عليها "المدن المُسيجة" هي ظاهرة عكسية لعملية التقدم البطيء للجماعات الفقيرة، والمهمشة نحو بناء تجمعات سكنية حضرية غير رسمية بصورة عشوائية. وانطلق عبده، في بحثه من سؤال رئيس مؤداه: كيف أصبحت المدن المُسيجة ـ بوصفها من تداعيات النمو الحضري ـ تعبّر عن المكانة الاجتماعية للمقيمين بداخلها؟

أما الفصل الثالث "تجليات التمدّن الاجتماعي لسكان المدينة العربية المنشأة في ظل الكولونيالية الإسرائيلية"، والذي كتبه إبراهيم فريد محاجنة، فقد اتصلت فكرته بأن النكبة الحاصلة في فلسطين طمست المدينة الفلسطينية عمرانيًا، وأسقطتها من الذاكرة الجماعية؛ إذ رأى، الكاتب، أن المؤرخ الصهيوني عمل بوعي، ومنهجية على إنكار "المدنية" في فلسطين التاريخية، في مقابل معاناة الإنتاج الفلسطيني من "فقدان الذكرة" تجاه المدينة.

تتبع، محاجنة، تجليات التمدن الاجتماعي لسكان المدينة العربية، في عهد دولة إسرائيل، من خلال فحص خصائص التكافل الاجتماعي غير الرسمي، ووجد أن هذه المدن "تعاني تمدنًا اجتماعيًا جزئيًا ومشوهًا، لأنه جاء عقب "تمدين قسري" فرضته إسرائيل، فانعكس سلبًا على عملية التحديث الانتقائي". ص  (90)

كتبت الفصل الرابع، "واقع الجوار في المدينة الجزائرية"، نورية سوالمية، والتي حاولت، فهم واقع الجوار في تمثلات الساكنين وممارستهم، واستكشاف النماذج العلائقية بين الجيران في مدينة أرزيو الجزائرية؛ وذلك بالتوغل في خبايا حياة السكان اليومية من خلال تصوراتهم وتمثلاتهم وتصرفاتهم، التي تظهر في جميع أشكال التفاعل.

وضعت، الباحثة، فرضيتين أساسيتين لبحثها، أولاهما أن الاختلاف في النماذج العلائقية بين الجيران داخل الوسط الحضري تكون بحسب تصور الفرد ومساراته الاجتماعية والتاريخية؛ وثانيتهما أن اللاتجانس الاجتماعي الذي تتميز به المدينة يُضعف العلاقات، ويُبرز النفعية والفردانية.

قامت، نورية، باختبار الفرضيات التي وضعتها، من خلال دراسة ميدانية جدية ومشوّقة، خلصت منها إلى تحقق الفرضية الأولى، وتحققت الفرضية الثانية نوعًا ما "إذ إن اللاتجانس الاجتماعي الذي تتميز به المدينة أضعف إلى حد ما علاقات الجوار، لكن لم يخفها تمامًا". ص (113)

درس، خليفة عبد القادر، "إعادة تشكل البنى الاجتماعية في مدن الصحراء الجزائرية" في الفصل الخامس، حيث تتبع الحركة العمرانية، والتعميرية المتسارعة التي عرفتها الصحراء الجزائرية، منذ استقلال الجزائر في عام 1962، وحلل إعادة تشكيلها البنى الاجتماعية، وذلك بهدف فهم التحولات التي شهدتها المجموعات الاجتماعية التي تُسمى البنى "التقليدية" أكانت الواحات الحضرية العريقة أم البدوية، لتتخذ أشكال الحضرية الحديثة ضمن مدن صحراوية في طور تحول عمراني متسارع.

بحث، عبد القادر، عن طبيعة الهوية الحضرية التي تتشكل الآن في مدن الصحراء الجزائرية، كما تساءل عن مدى قابلية البنى الاجتماعية التقليدية ـ القبلية أساسًا ـ للانخراط أو الاندماج، بشكل أو بآخر في بنية مدينية جديدة.

التغييرات المورفولوجية في المدينة العربية المعاصرة

تعيش المدينة العربية اليوم تحولات مورفولوجية واجتماعية عميقة لم تشهدها من قبل، أملتها أوضاع داخلية وأخرى خارجية، وكان لها بالغ الأثر في نموها، وتطور معمارها، وتنوع الفئات الاجتماعية القاطنة بها، هذا كله انعكس على مشهدها وبنيتها. وقد اختص القسم الثاني بدراسة هذه التغيرات.

في الفصل السادس، "المدينة العربية الحديثة: قراءة سوسيو ـ لسانية في أعراض مرض التمدن"، قدم إدريس مقبول، مقاربة مبتكرة لدراسة تغييرات المدينة العربية التي تُفضي إلى ما يسميه "مرض التمدن"، طارحًا أسئلة عن اتصال العمراني بالإنساني في بناء المدينة العربية المعاصرة، وكيف جسد اللساني هندسة العمراني وتداخلاته، إضافة إلى سؤال حول إمكانية استيعاب المدينة العربية الحديثة لتناقضات الإنسان العربي مع المكان والزمان.

التزم، مقبول، بقدر كبير من الجرأة في تجاوزه حدود التخصصات الصارمة، وفي مقاربته المادي وغير المادي من أعراض مرض التمدن، وذلك من أجل بحث العلاقة بين اللساني والاجتماعي. كما سعى، في الوقت ذاته للبحث بين الاجتماعي والعمراني، فضلا عن تتبع جدلية العلاقة بين النفسي والعمراني في المدينة العربية.

تناول، الكبير عطوف، التغيرات المورفولوجية التي شهدتها مدينة الدار البيضاء، منذ بدء عصر الحماية الفرنسية 1912، وإلى عام 2014، وذلك في بحثه "التمدين والهجرة والتحولات الاجتماعية في تاريخ الدار البيضاء".

تعيش المدينة العربية اليوم تحولات مورفولوجية واجتماعية عميقة لم تشهدها من قبل، أملتها أوضاع داخلية وأخرى خارجية، وكان لها بالغ الأثر في نموها، وتطور معمارها، وتنوع الفئات الاجتماعية القاطنة بها، هذا كله انعكس على مشهدها وبنيتها. وقد اختص القسم الثاني بدراسة هذه التغيرات.
سعى، عطوف، إلى إبراز مخلّفات الماضي الاستعماري، وإكراهاته، في تمدين مجال تقليدي إسلامي أصبح شبه صناعي. حيث اعتمد مقاربة ترتكز على مناهج العلوم الإنسانية، والاجتماعية المتطورة، ومن ثمّ تخطى سلبيات المنهج الأوحد، حيث استخدم مقاربات علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والتاريخ الاجتماعي. ونظرًا لطول الحقبة المدروسة فقد عرض، الباحث، محطات بارزة في تاريخ المدينة، بدءًا من فترة الحماية الفرنسية (1912-1956)، ومرورًا بمحطات العنف الحضري التي وسمت المدينة، وصولًا إلى محطة ولاية الدار البيضاء الكبرى وهيكلتها (1981 ـ 2014) ومحاولات ضبط التنظيم الترابي للمدينة.

شهدت المدينة العربية المعاصرة تغيرات مورفولوجية أخرى في أعقاب ثورات الربيع العربي، وهي تغيرات ليست دائمًا إيجابية، في هذا الصدد تناول، مهدي مبروك، في بحثه "نفايات المدينة في سياق انتقال ديمقراطي: استراتيجيات الهوية والمجال (دراسة حالة مدينة جربة)"، الانهيار غير المسبوق لمنظومة البيئة الذي عرفته المدينة التونسية، واختص من بينها موضوع "النفايات"، بوصفها "المؤشر البليغ على حدة الدراما الحضرية" ص (196) وقد خلص، مبروك، إلى أن التصرف في النفايات في مدينة جربة كان شاهدًا على استفراد السلطة المركزية واحتكارها شبه المطلق لوسائل التهيئة الحضرية والتخطيط.

خصص، الحسن المحداد، ولكبير أحجو، ومحمد جداوي، الفصل التاسع، "تحولات المدينة العربية وتحديات المنظومات المائية الحضرية: حالة مدن ساحل المحيط الأطلسي العربي (المغرب ـ موريتانيا)"،  للإحاطة بواقع المدن المغربية، والموريتانية المنتشرة على ساحل المحيط الأطلسي، وذلك في علاقة تفاعلية مع المنظومات المائية الحضرية؛ إذ أن هذا الحيز الجغرافي الذي ظل يشكل مجال شبه فراغ حضري عرف تغيرات مفاجئة جعلته يحتضن غالبية السكان الحضريين، فأضحت مدنه تسجل نسب نمو مرتفعة ومتواصلة.

ركز، الفصل، على ما سجلته هذه المدن من تطورات في ضوء التحولات الجارية، وعلى رصد إشكالية التحكم بالتوازن بين الحاجات المائية الحضرية والموارد المتاحة، وذلك من خلال ضبط سيرورة التمدين والرصيد المائي المتوافر ومنظومات إعداد هذا الرصيد وتدبيره، مع مناقشة التحديات المختلفة التي تطرحها المنظومات المائية الحضرية في المنطقة.

إشكالية التخطيط العمراني والحضري وحوكمة المدن العربية

تحتل حوكمة المدينة أهمية كبيرة في السياسات العمومية للدول، باتت تتطلب إجراء مقاربات أكثر شمولية، بهدف استثمار الفرص والإمكانات التي يتيحها فضاء المدينة، لجعل هذه الأخيرة رافعة تنموية تتفاعل مع محيطها في إطار تكاملي وتشاركي، وفي هذا الإطار جاء القسم الثالث ليناقش إشكاليات التخطيط وحوكمة المدن.

طرح معاوية سعيدوني، في الفصل العاشر، "أزمة التحديث والتخطيط العمراني في الجزائر" عددًا من الأسئلة المتعلقة بعجز إرادة تنظيم المدينة عن تشكيل مدينة متوازنة مورفولوجيًا، ووظيفيًا، واجتماعيًا، وعن الآليات التي أدت إلى نشأة ظاهرة الانفصام وتجذرها في التخطيط. ثم عمل على دراسة إشكاليات التخطيط العمراني المستجدة، وانعكاسها في الواقع المحلي، وما يواجهها من معوقات باعتبارها مفاتيح الحل والتغيير.

قدم، صالح النشاط، فكرة حوكمة المدينة بوصفها جامعة بين آليتين تنظيميتين، وهما التخطيط الاستراتيجي والتنفيذ المندمج، وانطلق النشاط في دراسته "حوكمة المدينة من خلال فاعلية التخطيط الاستراتيجي ونجاعة التنفيذ المدمج" من إشكالية رئيسية هي: إلى أي حد يمكن لحوكمة المدينة أن توفر الفضاء العام لإشراك الفاعلين كافة في التنمية المدينية، والتخطيط للمجال الحضري حتى يصبح قادرًا على تلبية حاجات السكان الحضريين، ومواكبًا للتحولات والتحديات، ومندمجًا في إطار سياسة المدينة.

الإشكالية ذاتها طرحها، أحمد مالكي، في الفصل الثاني عشر "حوكمة المدن وإشكالية التخطيط الحضري: حالة مخططات التهيئة في المغرب"، حيث تطلع المالكي، إلى بلورة إطار تفسيري أكثر شمولية لمكانة الحوكمة في التخطيط للمدينة، بالاستناد إلى حالة عملية تتمثل في مخططات التهيئة في المغرب، باعتبارها وثيقة تعميرية أساسية في تنظيم المدينة.

تحتل حوكمة المدينة أهمية كبيرة في السياسات العمومية للدول، باتت تتطلب إجراء مقاربات أكثر شمولية، بهدف استثمار الفرص والإمكانات التي يتيحها فضاء المدينة، لجعل هذه الأخيرة رافعة تنموية تتفاعل مع محيطها في إطار تكاملي وتشاركي، وفي هذا الإطار جاء القسم الثالث ليناقش إشكاليات التخطيط وحوكمة المدن.
أما الفصل الثالث عشر "حوكمة المدن وإشكالية البطء المؤسسي للمخططات التنظيمية للمدن العربية" فقد كتبه، أحد حضراني، الذي وجد أن التخطيط العمراني والهيكلة الحضرية في مدينة الدار البيضاء لا يشكلان استثناءً للاختلالات التي تطبع باقي المدن. حيث سجل، الحضراني، الاختلالات المستدامة بين البرمجة والتخطيط الحضري والمنجزات، كما حلل إشكالاً آخر يعمق هذه الاختلالات، وهو تعدد المتدخلين في المادة التعميرية ما بين الفاعلين الرسميين من إدارات عمومية وسلطات محلية ووكالات حضرية،.. والفاعلين غير الرسميين، كالمضاربين العقاريين.

التحولات العمرانية للمدينة العربية وآفاق المدينة الإبداعية والمدينة الافتراضية

بدأ هذا القسم، من الكتاب، بدراسة علي عبد الرءوف عن "الفوضى العمرانية الخلاقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ". والتي قدم فيها، عبد الرءوف، تحليلا مبتكرا، وجديرا بالاهتمام للربط بين ما هو حضري، وما هو سياسي، وبين الفوضى العمرانية الخلاقة، والفوضى الخلاقة في ثورة 25 يناير.

اتخذ، عبد الرءوف، حالة مدينة القاهرة موضوعًا للدراسة، وبصورة خاصة ميادينها، وتحديدًا ميدان التحرير، وبعض الجسور المهمة حوله. كما تناول النضال من أجل السيطرة على الحيّز/ الفراغ العام في المدينة، والسعي إلى فهم أهميتها بالنسبة لظهور جمهور جامح. وألقى الضوء على دور هذه الفراغات في تأجيج الثورة واستمراريتها، وأخيرًا بلور أهمية وجود مكان لفراغات ديموقراطية تسمح للجميع بالتفاعل والتداخل والتعبير عن النفس وعن الجماعة.

 يرى، طه لحميداني، في الفصل الخامس عشر، "العمارة الكولونيالية في مدينة الرباط" أن ما خلفته الفترة الاستعمارية من عمارة، في مدينة الرباط، يجعل الإنسان في عبوره للمدينة يعاين زمنين متباعدين: زمن ما قبل الحماية، بسماته العمرانية التقليدية، وزمن الحماية بخصائصه وبُناه المعمارية الحديثة الطراز.

سعى، لحميداني، إلى الإجابة عن إشكاليات تجسيد المدينة الكولونيالية رهانًا سياسيًا لصورة فرنسا في المغرب. وكيف استخدمت مختبرًا لتجريب السياسة المعمارية الكولونيالية وأفكار مهندسيها، إضافة إلى قضايا مدى استجابة المجال الحضري المغربي للتطلعات السياسية لسلطات الحماية، وكيف انعكس الرهان السياسي الفرنسي على المشهد العمراني لمدينة الرباط.

في الفصل السادس عشر "المدن الإبداعية ورأس المال المعرفي: إمارة دبي أنموذجًا"، عرض، علي عبد الرازق، الأنواع المختلفة للمدن الإبداعية، وعلاقتها بالاقتصاد القائم على المعرفة، متخذَا من مدينة دبي دراسة حالة، حيث استعرض، عبد الرازق، بروز رأس المال المعرفي في المدينة، والتنوع الثقافي والاقتصادي في دبي، والاستراتيجيات القائمة على تعزيز قطاع الخدمات والأصول اللامرئية في التعامل مع التحديات والأزمات، وتمثلات "المدينة الذكية".

قدم، نديم المنصوري، طرحا أصيلا ومبتكرا عن "الحياة الرقمية في المدينة الافتراضية" التي تعد نمطًا جديدًا من المدن التي فرضت وجودها في الفضاء السيبراني.

جاءت أهمية هذا البحث في كونه يسعى إلى شرح هذا النمط الجديد من المدن، وعرض أبرز أشكاله، وتعدد إشكالياته. وقد اختتم، المنصوري، بحثه بعدد من الاستنتاجات، ربما كان من أهمها أن المدينة الافتراضية استطاعت تسريع التفاعل البشري، وتكوين علاقات جديدة، كما جعلت الفرد يرتبط ببيئة جديدة لا تحسب الزمان والمكان، وبالتالي ستظهر آثار التحلل الزماني والمكاني اللذين ارتبط بهما الإنسان سابقًا، لينتقل الفرد إلى صيغة جديدة من الوعي والعلاقات المؤلفة من الملفات المرقمنة، والنبضات الإلكترونية. ص (404)

المدينة العربية وإشكاليات التهميش والسكن العشوائي والترييف

ناقش القسم الخامس، من الكتاب، آثار عمليات التمدين السريع، وعلاقتها بالهجرة الداخلية، والسكن العشوائي، وترييف المدينة. وقد جاء القسم في ثلاثة فصول، سعى في أولها "الدينامية المجالية لمدينة فاس وتعدد أشكال الإقصاء والتهميش"، الباحثان بوتشي الخزان، وحسن ضايض، إلى دراسة الإنعكاسات السوسيو- مجالية، والمورفولوجية لدينامية التعمير في مدينة فاس، وكيف ساهمت هذه الدينامية في تسريع وتيرة الإقصاء، والتهميش لفئة اجتماعية واسعة من سكان المدينة.

ارتكز، البحث، على محورين رئيسين في مورفولوجيا مدينة فاس: الأول مراحل وسيرورات التعمير وآثارها السلبية على المشهد الحضري، والثاني المظاهر الكبرى للإقصاء والتهميش في المدينة (السكن الصفيحي، الاكتظاظ، الدور الآيلة للسقوط)، ليخلص، البحث، إلى إبراز الحاجة الماسة إلى منهجية جديدة خلاقة ومبدعة تساهم في تسريع وتيرة النمو، واستشراف مستقبل المدينة.

ناقش، الهادي بو شمّة، في الفصل التاسع عشر "المدينة العربية وأزمة التحضر: مقاربة سيسيو مجالية في علاقة العشوائيات الحضرية بالهجرات القبلية (مدينة تلمسان نموذجًا)" إشكالية مماثلة للفصل السابق، ولكن في مدينة تلمسان الجزائرية، وقد ربط االباحث ظهور العشوائيات الحضرية في الجزائر بأربعة عوامل هي: الاستعمار، ونشوء الصناعات في المدن، وارتفاع معدلات الفقر، والهجرة الريفية.

أما الفصل الأخير "مظاهر البداوة في مدن جنوب المغرب"، والذي كتبه بكار المرتجي، وحيدار حمدان، فقد اندرج في إطار الدراسات التي تهتم بتأثير سلوكيات الإنسان في الحياة الحضرية، والتأثيرات العامة للهجرة القروية على مورفولوجيا المدن وتشكُّلها، مع التركيز على مسألة المدينة في مجتمع البداوة.

من خلال دراسة حالة مدينة طنطان، يبين البحث أن مظاهر نمط العيش السابق (البداوة) لا تزال حاضرة في الأذهان، الأمر الذي يمكن معه التساؤل بشأن تجليات هذه الممارسات، ونظرة ممارسيها، ونظرة باقي سكان المدينة إليها، فضلًا عن مناقشة دور مظاهر الحياة السابقة في بدونة المدينة أو ترييفها.

وبعد، فقد ظل سؤال المدينة العربية والتمدين سؤالًا مهمًا على المستوى الأكاديمي البحثي، وسبق وأن استُثمرت بحوث مهمة في البلدان العربية في درس إشكالات المدينة وتحليلها، بأبعادها المختلفة، وإن تركزت هذه البحوث، بشكل أساسي، ضمن نقاشات داخلية للاختصاص، ولكن الحاجة ازدادت إلى تقاطعات بين الاختصاصات، وإلى ربط أوثق بالسياسات العامة، وهو ما سعى هذا الكتاب لتحقيقه.