كتب

الدبلوماسية أو قواعد المجاملة السياسية وفنّها.. مفاهيم ومسؤوليات

يمكن تعريف الدبلوماسية بأنها مجموعة من القواعد والأعراف والمبادئ الدولية التي تهتم بتنظيم العلاقات القائمة بين الدول والمنظمات الدولية..
الكتاب: مصطلحات في الدبلوماسية والشؤون الدولية
الكاتب: أحمد كركوب
الناشر: دار الكتب الوطنية- بنغازي 2019
عدد الصفحات: 175 صفحة

1

خوّل انفتاحُ العالم للجميع أن يتحوّلوا إلى خبراء ومحلّلين وأن يكون لهم صوت مسموع وإن في دوائر ضيقة، بسبب حرية النشر ويسر التواصل. ولمّا كان الربع الأول من هذا القرن سياسيا بامتياز، لكثرة التّحولات التي غيرت من خارطة العالم، إيديولوجيا واقتصاديا واجتماعيا، وصل الشغف بالشأن السياسي، باعتباره تدبيرا للشأن العام، حدّ الهوس.. وبات الجميع من الخبراء المحلّلين، يقيمون تصريحا لهذا القائد أو يبحثون فيما وراء مواقفه من خبايا، انطلاقا من ربط الموقف بالوضعية السياسية العامّة، أو انطلاقا من الادعاء بالقدرة على قراءة لغة الجسد التي تكشف ما يريد أصحابها إخفاءه. وحين تتعالى الأصوات من كل حدب تضحى جلبة وضجيجا. لذلك كثيرا ما يضيع الجادّ منها في الزحام.

ولا بدّ لمن يريد أن يتأول المواقف السياسية للقادة والزعماء وفهمها الفهم الدّقيق من دراية بأصول العمل الدبلوماسي والعلاقات الدولية، ذلك العلم خاص جدّا، الذي لا يلقى لطالبيه إلّا في دورات التأهيل الدبلوماسي أو يكتسب بالممارسة والخبرة. لذلك، وجدنا من المهم أن نعرض شيئا من مادة كتاب "مصطلحات في الدبلوماسية والشؤون الدولية" للأستاذ والدبلوماسي الليبي أحمد كركوب. فهو أقرب إلى معجم مختصّ يعرض المصطلحات الدبلوماسية باللغة العربية والإنجليزية، ويتبسط في شرح مفاهيمها.

2

يمثّل موظفو وزارات الخارجية والتعاون الدولي ورجالات الدولة الجمهور الأول المستهدف من هذا الكتاب التعليمي، ولكن معرفة مادته تظل ضرورية لرجال القانون وطلبة العلوم السياسية والمشتعلين بالصحافة الدولية والمهتمين بالشأن الدولي عامّة. ووجبت الإشارة إلى أنّه لا يقدّم معارف علمية جديدة تفاجئ القارئ، ولا يتضمّن عمقا نظريا مبهرا. ولكنه بالمقابل يعرض الإجراءات التي يجب القيام بها أو السلوك الملائم الذي يجب اتباعه في سياق العلاقات الدولية الدقيقة الحسّاسة جدا لكل سوء تقدير أو خطأ في فن "الإتيكيت". ونحن إذ نعرض شيئا من محتواه، لا ننقل مادته بكل تفاصيلها، وإنما نحاول أن نستخلص القانون العام الذي يشمل أهم محاور الكتاب وأهم مجالات العمل الدبلوماسي.

3

يمكن تعريف الدبلوماسية بأنها مجموعة من القواعد والأعراف والمبادئ الدولية التي تهتم بتنظيم العلاقات القائمة بين الدول والمنظمات الدولية التي يتوجّب اتباعها في تطبيق أحكام القانون الدولي والتوفيق بين مصالح الدول المتباينة، وإجراء المفاوضات والمؤتمرات الدولية وعقد الاتفاقيات والمعاهدات واستقبال الوفود الدبلوماسية وتنظيم حفلات الاستقبال على شرفهم. وكثيرا ما تتحوّل العبارة إلى صفة تطلق على ما يتصف به الدبلوماسي العريق من مرونة ولباقة وحسن تصرف وتهذيب وحذر وحيطة وبراعة للوصول إلى تحقيق أهدافه دون إثارة حفيظة الآخرين. لذلك يُنتقى الدبلوماسي بناء على صفاته وعلى السياق السياسي الذي سيتعامل معه، ففي بعضها نحتاج إلى السياسي القادر على الحوار وعلى إدارة المفاوضات لانتزاع المكاسب أو تقديم التنازلات بطريقة تحفظ كرامة الدولة، إن كانت في موقف هشّ وفي بعضها الآخر يفضّل السياسي الصلب أو الصّارم صاحب المواقف الحاسمة.

لا بدّ لمن يريد أن يتأول المواقف السياسية للقادة والزعماء وفهمها الفهم الدّقيق من دراية بأصول العمل الدبلوماسي والعلاقات الدولية، ذلك العلم خاص جدّا، الذي لا يلقى لطالبيه إلّا في دورات التأهيل الدبلوماسي أو يكتسب بالممارسة والخبرة.
ولا تخلو هذه الصفة من محمول قدحي في سياقات معينة. فمعاني المكر والخداع والنشاط الخفي والاتصالات السرية والغش والكذب والتجسس والتأمر، وذكر أنصاف الحقائق واللجوء إلى الأساليب الملتوية تظلّ موازية لها.

ولا بدّ من تمييزها عن السياسة درءا للبس. "فالسياسة هي الخطة المقرر اتباعها بين الدولتين، في حين أن الدبلوماسية تعمل على تنفيذها بطرق وأساليب خاصة"، فهما عنصران متكاملان تكامل المحتوى بالشّكل، بحيث لا يستطيع أحدهما الاستغناء عن الآخر.

4

تعدّ الدولة شخصا اعتباريا يتصرّف في إطار القانون الدولي، ومن ثمة يمثلها على المستوى الدولي أشخاص طبيعيون من القائمين على حكمها ضمن بعثات دبلوماسية عابرة أو دائمة ووفق علاقات مضبوطة، فتعرف الدولة التي ترسل بعثاتها لتمثيلها بالدولة الموفدة والدولة التي تستقبل بالدولة المستقبلة. ويخضع الأشخاص المختصون بتمثيل الدولة لبناء تراتبي هرمي. فيكون رئيس الدولة أو الملك في قمته ويمثلها في شؤونها الدولية كافة، مهما كان وضعه الدستوري داخل دولته أو أسلوبه في تولي الحكم. ولكن يمكن لرئيس الحكومة، أو الوزير الأول في بعض الأنظمة، أن يبرم المعاهدات، وإن لم يفوّض في ذلك من قبل أعلى هرم السلطة. ويعرض الكاتب هذا المعطى بإطلاق، ولكن الدساتير تحدّد مجال تدخله تجنبا للتنازع بين السلطات وضمانا لاستقرار الحكم.

وتتفق الدول فيما بينها على درجة التمثيل الدبلوماسي الذي يهدف إلى حماية مصالح الدول لدى نظرائها وضمان مصالح رعاياها، وإجراء المفاوضات التي تقتضيها الظروف وتوثيق العلاقات الدولية والاقتصادية والثقافية بين البلدان. وتراقب هذه البعثات تطور الأحداث في الدول المستقبلة وتقدّم تقارير دورية عنها. ويكون رئيس البعثة سفيرا أو وزيرا مفوضا أو قائما بالأعمال. ويعهد له هو التّواصل مع دولة الاستقبال فيكون ممثلا شخصيا لرئيس دولته، ولا يتمّ اعتماده إلّا بكتاب اعتماد يقدّم إلى رئيس الدولة المستقبلة، وتحدد الدولة الموفدة عدد أعضاء البعثة في ضوء إمكانياتها، وعلى نحو يتناسب مع تقديرها لمدى أهمية علاقاتها مع الدولة المستقبلة. وفي حالات الحرب، يختص قائد القوات المسلحة بتمثيل دولته عند إبرام اتفاقيات الهدنة الشاملة التي تقرّ بقبولها الاستسلام غير المشروط لجميع قواتها المسلحة، أو تعبّر عن قبولها لاستسلام قوات العدو، عندما تكون هي الطرف المسيطر.

5

لا يعتبر الملحقون الفنيون في السفارة أو القناصل ممثلين دبلوماسيين، وإنما يتمتعون أسوة بالممثلين الدبلوماسيين بالامتيازات المنصوص عليها في اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961. ويعدّ دورهم إداريا فيمنحون الجوازات والتأشيرات وغيرهما من الوثائق لطالبيها، ويحمون الرعايا المقيمين أو المسافرين ويرعون مصالح بلدانهم التجارية.

ويعيّن السفراء بناء على طلب [استمزاج] من الدولة الموفدة إلى الدولة المستقبلة، يتضمّن نبذة من تاريخ حياة السفير المرشح. ويظل هذا طلب سريا إلى أن يصل جواب الدولة المستقبلة بالموافقة التي تجعل الشخص المقترح [مقبولا]، وعندها يصدر [مرسوم التعيين]. فيرسل هذا الممثل ومعه [كتاب اعتماد] يشير إلى مزاياه، ويعرب عن الأمل بأن يمنحه رئيس الدولة المعتمد لديه كامل الثقة وحسن الوفادة وتسهيل مهمته.

ولهذا الكتاب مواصفات شكلية مضبوطة. فيكتب بلغة الدولة الموفدة وبترجمة إلى الإنجليزية ما لم يعتمد البلدان اللغة الرّسمية نفسها. وجرت العادة بأن يُرسل جواب الدّولة المستقبلة خلال أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر. وتعدّ عدم الإجابة رفضا للطلب واعتبارا للشخص المقترح [غير مقبول]، الأمر الذي يترتب عليه جفاء بين البلدين.

ولا يمكن دخول مقرّ البعثة الدبلوماسية إلا بإذن من رئيسها. ويتمتّع أفرادها، وفق اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، بحصانة وامتيازات جبائية غايتها تمكين الفريق من أداء مهامه. وبالمقابل لا يمكن للدبلوماسي التنازل عن امتيازاته الدبلوماسية أو حصانته إلا بعد أن تجيزه الدولة الموفدة إجازة صريحة ممثلة في أخصائي في القانون، غير أنّ هذه الحصانة ليست مطلقة. ففيها استثناءات مضبوطة بحكم المادة 31 من الاتفاقية المذكورة أعلاه، كأن ترفع بحق الدبلوماسي دعوى تعود لنشاط مهني أو تجاري خارج نطاق وظائفه الرسمية.

6

على رئيس البعثة الدبلوماسية أن يتقيد بحرفية التعليمات وينفّذ سياسة دولته ويعود إلى وزير الخارجية أو رئيس الدولة في قراراته باستمرار. ويقتضي موقعه الدراية بآداب السلوك أو ما يعرف بـ[الإيتيكيت] واحترامها. والمقصود بآداب السلوك هنا، مجموعة القواعد التي يجب أن يراعيها الفرد رجلا كان أو امرأة في علاقاته مع أعضاء المجتمع المستضيف في مختلف المناسبات، والواجبات التي يجب أن يتقيد بها ويعمل على هديها، والأخطاء التي يجب أن يتجنبها، والمجاملات التي يجب أن يقوم بها، وأصول التهاني والتعازي، فيضمن في جميعها مراعاة الأعراف والتقاليد المحلية، فيتجنب التورط في مواقف تحرج دولته. ومن الوسائل المعتمدة للتخلّص من المآزق [الجواب الغامض] و[التمارض الدبلوماسي].

والجواب الغامض هو جواب مبهم وخارج عن الموضوع، يجيب به الدبلوماسي للتهرب من إعطاء الجواب الصحيح أو المناسب؛ رعاية لسر لا تريد حكومته أن تبوح به أو مراعاة لظروف وتوازنات دولية قائمة أو انتظارا لانتهاء التحقيق في موضوع. وعندما تقتضي الضرورة تأجيل اجتماع مقرّر في انتظار تعليمات حكومته أو وقوع أحداث جديدة، أو تقتضي عدم حضور حفلة لا يريد الحضور فيها لتقديرات سياسية معيّنة يتعلّل بالمرض للاعتذار عن الحضور، وهو الإجراء المقصود بالتمارض الدبلوماسي.

وقد يقدم الدبلوماسيون الذين تم قبولهم لاحقا، على تصرفات مريبة أو عدائية، فتعتبرهم الحكومة المعتمدين لديها، أشخاصا غير مرغوب فيهم وتطلب سحبهم بصورة مكتومة غالبا، فتلجأ حكوماتهم إلى إنقاذ الموقف والمحافظة على كرامة ممثلها، فتمنحه إجازة طويلة أو تستدعيه للتشاور، أو تحيله على التقاعد تبعا للأسباب التي اقتضت سحبه.

7

وتواجه الدولة المستضيفة بدورها إكراهات تجاه البعثات الدبلوماسية العابرة أو الدائمة، ولعلّ قضية [الأسبقية] أهمها. والأسبقية التي تعني حق التقدم بين الشخصيات الدولية الدبلوماسية والحكومية والهيئات الرسمية استنادا إلى القواعد والأعراف الدولية مع مراعاة بعض الاعتبارات المحلية، موضوع شائك وحساس. لذلك يترتب على مدير المراسم ومعاونيه مراعاته بدقة وفق الظرف الخاص بكل مناسبة، وتطبيق النظام الموضوع وفرض التقيد به؛ حرصا على كرامة الجميع. فالخطأ في تطبيقه يمكن أن يتسبّب في أزمة تؤثر على الحفلة أو المناسبة، وعلى مدير المراسم الاهتداء برأي وزير الخارجية أو رئيس الدولة بالذات، والحصول على موافقته الشفهية أو إقرار الترتيب أو المخطط الموضوع في المناسبات الدقيقة.

ومن الأعراف الدبلوماسية أن تحدّد الأسبقية بين الرؤساء والملوك بناء على قدمهم في الحكم. وتحدّد الأسبقية بين السفراء استنادا إلى تاريخ تقديمهم لكتب اعتمادهم إلى رئيس الدولة وساعته. أما الأسبقية بين باقي الممثلين الدبلوماسيين، فتحدد بناء على مراتبهم وقدمهم في مباشرتهم العمل في البعثة. وفي الأنظمة الملكية تحدّد الأسبقية بين أعضاء الأسرة المالكة استنادا إلى درجة قرابتهم من الملك، ثم إلى المراكز التي يحتلونها، ثم يعتمد السن في المستوى الثالث.

8

تعقد الندوات الصحفية بعد الزيارات الرسمية للوفود الدبلوماسية. فيتحدث الجميع عن "اللقاء البناء" و"النقاش المفيد" وغيره من الكلام العامّ. وهي طريقه للضنّ بالمعلومة وتجنّب الاتهام بحرمان الإعلام في تلقي المعلومة في الآن نفسه. ولكنّ المواقف الحقيقية يفصح عنها بلغة أخرى غير لغة التخاطب اليومي هي مراسم الاستقبال وطبيعة "الإيتيكيت"، خاصّة عندما يكون تصرف الدولة المستضيفة مخالفا للأعراف. فاستقبال الضيوف، من قبل من هم أدنى مرتبة في هرم السلطة، إعلان صريح لعدم إيلاء الضيف أو العلاقات ببلاده الاهتمام الخاصّ. وطبيعة المصافحة بين القادة تعتبر محرارا يكشف حرارة العلاقة بين البلدين. فكلما كانت المصافحة أطول عبرت عن تطلع بلد ما لعلاقة مع بلد الرئيس المصافح. ولكن الأمر لا يتجاوز الأعراف. فقد حوّلها ترامب مثلا إلى استعراض فج للقوة لمّا كان يصافح ضيوفه من القادة، عبر الشد بقوة على أيديهم رفعا أو خفضا بقوة مزعجة، موحيا بأمريكا التي تشدّ بقبضتها على العالم بأسره.

أما بوتين، فقد جعل من الجمود طريقته في التعبير عن ازدراء ضيوفه من الأوروبيين على خلفية التوتّر السابق لحربه على أوكرانيا؛ فقد جعل الرئيس الفرنسي ماكرون يجلس إلى ذلك المكتب الطويل ليوحي بالتباعد بين البلدين، ثم تجسّدت عدوانيته أكثر وهو يستقبل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مرفوقا بكلبه المرعب، ولا شكّ أنه يدرك معاناتها من فوبيا الكلاب، ويتعمّد هرسلتها ليوحي بما يمكن أن تفعله روسيا في مواجهة التحالف الأطلسي.