قضايا وآراء

صندوق النقد الدولي من الأرجنتين لمصر

يعاني المواطنون من سياسات صندوق النقد الدولي- عربي21
يشهد السادس عشر من الشهر الجاري اجتماع المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، الذي يبحث فيه طلب مصر للحصول على تسهيل ممدد جديد قيمته ثلاثة مليارات دولار وتصل مدته إلى 46 شهرا، وذلك بعد التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء في الصندوق للحصول على برنامج قرض جديد في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

وهذا الاجتماع يطرح المقدمات حول اتجاه سعر صرف الجنيه المصري الذي يصر الصندوق على تعويمه، ويزداد الأمر خطورة في ظل الفجوة التي تشهد توسعا بين سعر الصرف الرسمي للجنيه والذي بلغ 24.59 وسعره في السوق الموازية الذي وصل ما بين 32 و33 مقابل الدولار، لينخفض سعر صرف الجنيه الرسمي بنحو 24.6 في المئة مقارنة بتشرين الأول/ أكتوبر الماضي و65.2 في المئة عن بداية هذا العام.

إن التجارب وواقع الحال يكشف أن مصر متجهة نحو التعويم لا محالة، وهو كارثة في ظل المعطيات التي يعاني منها الاقتصاد المصري والمواطنون، واتجاه التضخم إلى مزيد من الارتفاع لم يصل إليه منذ خمس سنوات، حيث وصل معدل التضخم السنوي العام في المدن المصرية إلى 18.7 في المئة في تشرين الثاني/ نوفمبر، مقارنة بـ16.2 في المئة في تشرين الأول/ أكتوبر. وجاء الارتفاع مدفوعا بزيادة أسعار المواد الغذائية والمشروبات وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ولكن هذا التضخم مرجعه الأساسي إلى تخفيض البنك المركزي للجنيه المصري في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وخسارة الجنيه نحو 25 في المئة من قيمته مقابل الدولار.
التجارب وواقع الحال يكشف أن مصر متجهة نحو التعويم لا محالة، وهو كارثة في ظل المعطيات التي يعاني منها الاقتصاد المصري والمواطنون، واتجاه التضخم إلى مزيد من الارتفاع لم يصل إليه منذ خمس سنوات

إن نتاج تعويم الجنيه المصري هو مزيد من ارتفاع الأسعار واكتواء الناس بلهيب التضخم، وزيادة الضرائب، وضرب ما تبقى من حماية اجتماعية متهالكة في مقتل، ولن تختلف الصورة عما حدث في الأرجنتين من قبل. فسياسة الصندوق واضحة المعالم فهو لا يعرف للإصلاح الاقتصادي سبيلا، ولكنه أداة دولية من أدوات الهيمنة واستعباد الشعوب وتقوية الاستبداد، فهو يكبل الدول بالديون، ويفتح الباب على مصراعيه لتعويم العملة وخصخصة أصول البلاد وبيعها بأبخس الأثمان وأعلى درجات الفساد، ويجعل غالبية الشعب قابعا تحت حزام الفقر، ومعدلات البطالة تتعالى إلى السماء، ويٌغيِّب الصناعة والزراعة الهادفة للاكتفاء الذاتي.

لقد كان صندوق النقد الدولي خير معين للاستبداد في الأرجنتين التي تمكن فيها الانقلاب العسكري بقيادة "خورخي فيديلا" في عام 1976 من ترسيخ حكم استبدادي وتنفيذ برنامج اقتصادي وفق تعليمات الصندوق، حيث قام "فيديلا" بتحرير الاقتصاد، وخصخصة الكثير من الشركات الحكومية، ورفع معدلات الفائدة بغرض جذب المستثمرين الدوليين، وخفض الأجور، وتجريم الإضراب عن العمل.

وكان من نتاج ذلك خروج احتجاجات شعبية عامة أرغمت "فيديلا" على تقديم استقالته في عام 1983، ولكن بعد تحول الكثير من جنرالات الجيش إلى رجال أعمال من أصحاب الملايين، ومن يومها عاني الاقتصاد الأرجنتيني من الدخول في نفق اتباع سياسات صندوق النقد الدولي واستمر الصندوق يفرض توصياته. وتم إلغاء كافة اللوائح التنظيمية التي تحمي القطاعين التجاري والزراعي، وتمت خصخصة القطاع المصرفي بالكامل تقريبا، وبيع شركات حكومية رئيسية مثل شركة الخطوط الجوية الأرجنتينية وشركة البترول (YPF) إلى مستثمرين أجانب بأبخس الأسعار، فضلا عن زيادة قيمة الضريبة المضافة بنسبة 50 في المئة، وربط سعر صرف البيزو بالدولار الأمريكي، وخفض عجز الموازنة الحكومية مما أدى لتقليص الإنفاق العام من خلال خفض الإنفاق الحكومي على الرعاية الاجتماعية.
المنظور التاريخي يمثل إنذارا مبكرا للحكومة المصرية، فالصندوق لا يبني تنمية ولا يراعي شعبا ولا يأخذ بيد فقير.. إنما هو أداة استحواذ واستعباد وتدمير لمقدرات البلاد

ولم تحل توصيات الصندوق دون ارتفاع ديون البلاد، ففي عام 2000 وصلت إلى 147 مليار دولار، وانخفض الإنتاج بنحو 25 في المئة، وتمت تصفية آلاف المشروعات، وأصبح سدس العاملين يتسكعون في الشوارع والطرقات. كما أجبرت الفوائد العالية البلاد على دفع علاوة مخاطر قدرها 40 في المئة لحاملي سنداتها الدولارية، وتبخرت جل احتياطيات البنك المركزي. وهو ما أدى إلى مغادرة رئيس البلاد "فرناندو دي لاروا" مع وزير اقتصاده القصر الرئاسي على متن طائرة مروحية في كانون الأول/ ديسمبر 2001، بعد أن احتشد الآلاف من المتظاهرين حول القصر احتجاجا على السياسات الاقتصادية.

والعجيب أنه في التاسع والعشرين من تموز/ يوليو 2004، اعترف صندوق النقد الدولي بأن أخطاءه ساعدت في غرق الأرجنتين وإفلاسها، ولكنه في الوقت نفسه أقى اللوم على الحكومة الأرجنتينية بقوله "إن البرنامج الاقتصادي للأرجنتين تمت صياغته من قبل الحكومة بهدف القضاء على عجز الموازنة، كما أنه تم إقراره من قبل البرلمان".

إن هذا المنظور التاريخي يمثل إنذارا مبكرا للحكومة المصرية، فالصندوق لا يبني تنمية ولا يراعي شعبا ولا يأخذ بيد فقير.. إنما هو أداة استحواذ واستعباد وتدمير لمقدرات البلاد من الموارد البشرية والطبيعية.

twitter.com/drdawaba