قضايا وآراء

لذة بارت

1300x600
(اللغة ليست زادا من المواد، بقدر ما هي أفق- رولان بارت)

أستطيع القول؛ إن عثوري على رولان بارت في مكتبة شومان عام ٢٠١٨ بالصدفة وأنا أبحث عن كتب تتحدث عن الكتابة؛ كانت ألذ صدفة في حياتي. وجدت أحد كتبه مدسوسة بالخطأ في غير مكانه، فبين كل الكتب التي لم تعجبني، والكلام المكرر الذي لم يلفت انتباهي، وجدت بارت. وهنا عرفت كيف أن اللذة تأتي هكذا، هي حضور من غير سؤال، ووجود يشمل كل شيء دون أن يتموضع فيه شيء محدد. وليس شيء للذة أقتل من سؤال يستفسر عن موضوعها. اللذة ليست موضوعا، إنها هي، وإنها لتتكشف دائما من غير سؤال. وسعادة الملتذ كالنور، تأتي بقدح زناد الروح، فلا يدركها إلا من تحرر من نفسه جسدا ودخل في النص.

الكتابة مغازلة، وعندما يبحث الكاتب عن قارئ ليغازله، يكون فضاء المتعة قد خلق، وهنا يكتشف الكاتب أن الذي يحتاجه ليس الشخص، بل الفضاء ليلعب فيه. حتى أفضل الكتب لتحمل في ذاتها نوعا من المواضع الضعيفة، فنحن لا نقرأ كل شيء بنفس كثافة القراءة؛ لأن ثمة إيقاعا ينشأ؛ إيقاعا لا يحترم النص. وإن تعطشنا إلى المعرفة، يدفعنا إلى أن نقفز عن بعض الفقرات أو نتجاوزها لنصل إلى المواضع اللذيذة المغرية المدغدغة، وإننا لنقفز دون خوف من أحد، والكاتب بينه وبين نفسه يعرف ذلك ضمنا، يعرف أننا سنقفز عن بعض كلامه، وهو يكره بأن يعترف بذلك علنا، لكن المواضع الضعيفة هي التي تهيئنا للغوص في مواطن اللذة، فنحن نقرأ بشبق حتى نصل إليها، ونتمرغ في اللذة ونذوب نشوة قبل أن نرفع رأسنا منها، ثم نعود. إن ما نتذوقه في الكتب ليس مضمونها المباشر، وإنما الخدوش على الغلاف الجميل، نحن نركض ونقفز ونرفع رأسنا ونعود للغوص ثانية. إن إيقاع حرارة النص هو الذي يحدد لذته، وإن نص اللذة هو النص الذي يرضي فيكفي، فيملأ ويهب الغبطة. وكما يقول بارت؛ إن لذة النص، هي تلك اللحظة التي يتبع فيها جسدي أفكاره الخاصة؛ ذلك أن أفكار جسدي ليست كأفكاري.

إنني أهتم باللسان، لأنه يجرحني أو يسحرني، ولعل شبقا طبقيا يكمن في هذا. ولأن اللسان الذي نتكلم به لا ينتمي إلى زمن محدد، فهو بطبيعته يصطدم مع الشك الأيديولوجي، ويجب علي أن أناضل معه وأنا أكتب. تستطيع الكلمة أن تكون شبقة بشرطين متعارضين: على أن يكون كلاهما مفرطا؛ إذا تكررت الكلمة تكرارا مبالغا فيه، أو على العكس من ذلك، إذا كانت مباغتة وغضة بجدتها، فبعض الكلمات تلمع في بعض النصوص كالنجوم. لكن لذة النص ليست أكيدة، فهي لذة هشة، قدم يذوبها المزاج، والعادة والظروف. وإن الكاتب ليغازل القارئ، ويداعبه، ويلعب معه، في فضاء النص، فبعض النصوص مملة، وأخرى فجة وقحة، وأخرى رخوية سمجة، وبعضها ممتعة جاذبية، وأخرى تتفجر شبقا ولذة.

وللقراءة نوعان، قراءة تغلق النص، وتقف به على زمن معين، وأخرى تفتح النص، وتجعله محايثا، وبين هاتين القراءتين تقع الحداثة. فالكلام إطلاق، لا مسح بعده ولا إلغاء. يمكن أن نقول تعديلا، ليكون الإنسان حيا لا بد له أن يهسهس لغة، كما الآلة التي لا بد أن تصدر صوتا، فما يصدر عنك هو الدليل على أنك حي، وما يصدر عنك من اللغة تحديدا.

أنا من أولئك ذوي قرون الاستشعار فائقة الحساسية، أستشعر صدق الكتابة، كما أشعر بغرور الكاتب، حتى ليكاد يذهب بكل إبداع كتبه! فحرارة التجربة لا تتجسد إلا في تجرد الكاتب فيصبح صادقا رغما عن أنفه. قرأت مرة أنه حيانا يكون الفرق بين نص جيد ونص آخر جيد أيضا، هو أن أحدهما لا يبدو متباهيا بكونه جيدا، ولا يقول للقارئ طوال الوقت: انظر كمْ أنا نص جيد ومكتوب بشكل جيد. هذه الشحنة من التباهي التي غالبا ما تكون موجودة في نبرة كاتب النص، هذه الشحنة التي توحي بنوع من الظَفَر أو إعلان الانتصار تمنح النص نفسه نوعا من التبجّح المنفّر، بينما يكتسب النص الجيد الآخر جودته وأهميته من كونه لا يتباهى بذلك، إنه لا يتكلم مع القارئ بصوت عال، ولا يختال أمامه، بل يكتفي بأنه جيد، وعذب، وغارق في مياه جودته.

لكن ماذا يوجد في القراءة من رغبة؟ إن الرغبة لا يمكن لها أن تتسمى، ولا تستطيع أن تقول نفسها. ومع ذلك، فثمة شبق خاص بالقراءة. بعض الاهتمامات تطالب بوحدة لا تغتصب: كالقراءة وحلم اليقظة والدموع، واللذة، في غرفة يسمح لنا أن نقفلها بالمفتاح.

وهكذا، فإن بارت يعتبر أن القراءة الراغبة تظهر بصفتين أساسيتين؛ فالقارئ الذي يقرأ حين ينغلق على نفسه لكي يقرأ، ويجعل من القراءة حالة معزولة تماما وسرية يلغي العالم فيها كلية، فإنه يتماهى مع ذاتين إنسانيتين أخريين، تكتسب حالهما أيضا انعزالا عنيفا: الذات العاشقة، والذات الصوفية. فالعاشق والصوفي ينسحب من الواقع، ويزيل ولايته عن العالم الخارجي. وهذا يؤكد أن حل اقتصاد اللذة عنده يقوم على الاعتناء بعلاقة تناظرية مع الكتاب، وذلك بالانزواء فردا وحيدا معه، ملتصقا بهو الأنف فوقه، كما يلتصق الطفل بأمه، وكما يتعلق العاشق بوجه المحبوب. أما الصفة الأخرى التي تتكون منها الذات الراغبة، فهي اضطرابات الجسد الحاضرة والمختلطة في القراءة، الافتتان، والتلذذ والألم. وإن القراءة تنتج جسدا مشوشا، لهذا لا تعد القراءة من الخيال.

وهناك لذائذ مختلفة للقراءة، وحسب علاقة القارئ بالنص تكون. فحسب الطريقة الأولى، تكون للقارئ علاقة تقديسية مع النص المقروء، فهو يلتذ بالكلمات، وبتنسيق الكلمات. أما العلاقة الثانية، فهي الافتتان الذي يستغرق فيه القارئ ويضيع نفسه، كقراءة الشعر، ولا يحتاج في هذه القراءة ثقافة لغوية عظيمة لكي يتذوق هذه اللذة، فحتى الطفل الصغير في لحظة الثغثغة يعرف شبق الكلمة، ويعرف الممارسة الشفوية والصوتية الممنوحة للغريزة الجنسية. وهنا القارئ يكون مشدودا إلى الأمام بعكس النوع الأول، فهناك قوة تشده وتكون دائما متنكرة، ونظامها يعتمد على الترقب، وكشف ما هو مخبوء. والكتاب يلغي نفسه بنفسه شيئا فشيئا، والمتعة تقوم على الاستهلاك.

وأخيرا، نصل إلى المتعة التي تسمى: مغامرة القراءة، تلك القراءة التي تقود إلى الرغبة في الكتابة، وهذا يدل بشكل واضح إلى أن هناك متعة للكتابة. وهذا لا يعني أننا نرغب في أن نكتب بالضرورة كما يكتب المؤلف الذي تعجبنا قراءة كتاباته، ذلك أن ما نرغب فيه هو الرغبة التي أرادها المؤلف من القارئ عندما كتب. وإننا نرغب في الـ"أحبوني" التي هي في كل كتابة؛ لأن أي قراءة مجردة لا تستدعي كتابة أخرى، إنما هي شيء غير مفهوم. وإن القراءة ضمن مفهوم مغامرة القراءة تعتبر فعلا إنتاجيا، وهي ليست تصورا داخليا ولا وهما، ولكنها عمل. فالمنتج الذي هو مستهلك في المقام الأول قد عاد إلى الإنتاج، وإلى الوعد، وإلى الرغبة في الإنتاج. وهكذا تبدأ سلسلة الرغبات بالدوران. فكل قراءة تتوخى من الكتابة أن تلد إلى مالا نهاية. لكن، الحقيقة أنه ما إن ننتهي من الكلام حتى تبدأ دوخة الصورة: أن نمجد ما قلناه أو نندم عليه. كما أننا نمجد الطريقة التي قلناها فيها أو نندم على الطريقة ذاتها، وإننا لنتخيل ونقلب الصورة. وما كان ذلك كذلك إلا لأن الكلام خاضع للوضام (remenance) وإأه يمكن الإحساس به.

صحيح أن الكتابة لا تُشم، إنها من حيث هي منتج، تقع ليس على شكل دخان يتلوى، ولكن على شكل حجر يختفي. وإنها لتذهب مرتحلة بعيدا عن الجسد، ومع ذلك فهي ليست قطعة منفصلة عنه، إنها محفوظة نرجسيا كما هو الكلام محفوظ. وإن اختفاءها لا يبعث على الخيبة. إنها تمر، وتعبر، وهذا كل شيء. فزمن الكلام يزيد من فعل الكلام. أما الكتابة فليس لها ماض، فإذا كان المجتمع يرغمكم على سياسة ما كتبتم، فإنكم لن تستطيعوا أن تقوموا بذلك إلا بملل عظيم، ملل الماضي المغلوط كما يقول بارت. ولهذا، فإن الخطاب الذي نعلق به على كتابة غيرنا، يترك انطباعا أقل حدة من ذلك الذي نعلق به على الكلام؛ أما الأول، فإني أستطيع أن أهتم به موضوعيا، لأني لم أعد فيه. وأما الثاني، وإن كان إطرائيا، فإني لا أستطيع إلا أن أخلص نفسي منه. والسبب لأنه لا يفعل شيئا سوى تضييق المأزق الذي يكون فيه الخيال.

وإذا كان كذلك، يتساءل بارت: فكيف يشغلني هذا النص إذن بعد أن أكون قد انتهيت منه، وصححته وتركته، فهو يبقى أو يعود إلي في حالة من الشك، والخوف لكي أقول كل شيء؟ ألم يكن المكتوب قد كتب وتحرر بوساطة الكتابة؟ ومع ذلك، فإني أرى بكل تأكيد، أني لا أستطيع أن أحسنه، لأني قد بلغت الشكل الدقيق لما أريد أن أقول. فالمسألة لم تعد مسألة أسلوب. وإني لأستنتج أن ما يزعجني إنما هو وضعه والحال النهائية له، وما يسوؤني فيه تحديدا، هو أنني أستطيع معالجة الكلام، بيد أنني لا أستطيع في الكتابة أن أتخلص منه تماما. ولكي يكتب المرء في موضوع الكلام، مهما كانت مسافة الكتابة، فهو مضطر إلى أن يرجع إلى أوهام من الذكريات، ومن المشاعر حول الموضوع الذي أكونه عندما أتكلم، والذي كنته عندما تكلمت. ولا يزال يوجد في هذه الكتابة بالذات مرجع، وهو الذي نستطيع شمه بالأنف.

ربما لهذا وصف سيزار بافيس؛ إن كتابة شيء ما يتركك مثل بندقية أطلقت النار ولا تزال تهتز وتدخن، كأنك أفرغت نفسك من ذاتك تماما، إذن لم تفرغ ما تعرفه عن ذاتك فقط، بل أيضا ما ترتاب فيه وما تظنه، هكذا مثل ارتجافاتك، وأشباحك، وحياتك الطائشة وقد فعلت هذا متحملا التعب والتوتر، وبحذر مستمر، وارتعاشات، واكتشافات مفاجئة وحالات فشل، فعلت هذا بطريقة ما، جعلت كل الحياة تتركز في تلك النقطة المحددة التي قدمتها، والتنبيه إلى أن كل ذلك يبدو كما لو كان غير موجود، إذا لم يحتف به ويعطيه حرارة سمة إنسانية، أو كلمة، أو حضور، وموت من البرد والحديث في الصحراء، فتظل وحيدا ليلا ونهارا مثل الميت.