آراء ثقافية

حين قالت جيزال حليمي لـ"ديغول": "نادني أستاذة سيّدي الرئيس"

رأى الزغبي أن الكاتبة جيزال الحليمي تعرضت لمظلمة كبيرة من بلدها تونس- كتاب محامية وقحة

صدرت في تونس ترجمتان لكتابين للمحامية والحقوقية جيزال حليمي: "حرية شرسة- حوارات مع آنيك كوجان" ترجمة وليد سليمان، و"محامية وقحة" ترجمة وليد أحمد الفرشيشي. 


ماذا يعني أن تترجم جيزال حليمي إلى اللغة العربية لأول مرة عن دار نشر تونسية، وأن يكون المترجمان تونسيين؟


بل ماذا يعني أن تعيد الاعتبار لأسطورة نضال؟

هي أول من أدخل كلمة محامية في صيغة المؤنث إلى اللغة الفرنسية، كان ذلك خلال مرافعة أمام القضاء العسكري الفرنسي بتونس، وكانت أيضا محامية الحبيب بورقيبة ورمز الدفاع عن الثورة الجزائرية، وكانت محامية السجين الرمز مروان البرغوثي، وكانت مهددة بالاغتيال في كل حين.

ورأى ناشر الكتابين، حبيب الزغبي، أن الكاتبة جيزال الحليمي التونسية تعرضت لمظلمة كبيرة من بلدها تونس حيث إنها ظلت مجهولة لدى الأغلبية، واعتبر هذا الإنجاز تكريما لأيقونة النضالات النسوية.

 

والمحامية جيزال حليمي لعبت دورا كبيرا في الدفاع عن المناضلات في حرب التحرير الجزائرية. وحين وُلدت جيزيل حليمي صيف عام 1927 استاء والدها، ظل ثلاثة أسابيع يرفض الإقرار بالمولودة، هذا المعطى جعلها تكتب في شهادتها: "لقد وُلدت في المكان الخطأ". 

وولدت زيزا جيزيل إليزا الطيب بحلق الوادي (من الضاحية الشمالية للعاصمة التونسية) سنة 1927، وغادرت البلاد مع الاستقلال، حافظت على جنسيّتها التّونسيّة إلى جانب الفرنسيّة. 

وافتها المنيّة في 28 جويلية 2020، تاركة العديد من المؤلّفات، منها: "جميلة بوباشا"، كتبته بمعيّة سيمون دي بوفوار وآخرين (1962)، و"قضيّة النّساء" (1973)، و"لبن شجرة البرتقال" (1988)، و"القضيّة الجديدة للنّساء"(1997)، و"الكاهنة" (2006)، و"لا تستسلمن أبدا" (2009).

وكان والدها يتهكّم عليها قائلا: "هل تظنّين نفسك محامية العالم بأسره؟". كانت كذلك يوم عادت سنة 1949 من باريس وهي تحمل إجازة في الحقوق وشهادتيْ إجازة في الفلسفة وشهادة كفاءة لمهنة المحاماة لتؤدّي اليمين القانونيّة. 

 

وذهبت إلى باريس سنة 1954 لتقديم أول طلب عفو في قصر الإليزيه، لتصبح أوّل امرأة محامية تتقدّم بهذا الطلب في حقّ محكوم عليه بالإعدام لأسباب سياسيّة.

نجحت في مهمّتها، محطمة الأصول المتعارف عليها في الإليزيه، وقفت دون قبّعة أمام الرئيس الفرنسي رونيه كوتين، وواجهت الجنرال شارل ديغول عندما أجابته بلهجة لم يتعودها: "نادني أستاذة، سيّدي الرئيس"، وانتزعت منه عفوا رئاسيا لأحد المحكومين بالإعدام.

وتتعرض جيزال حليمي في كتابها "محامية وقحة" إلى محطات مفصلية من سيرتها الذاتية كحقوقية أساسًا.. الكتاب تضمن "تأمّلات في مفاهيم مثل القانون واستعمالاته، والحقوق المدنية وكيفية تحصيلها.

وتتأمّل حليمي خصوصًا في علاقة المحامي بالقضايا التي يدافع عنها، وهي أمور تشير إلى أنها في غاية الأهمية، لكنها آخر ما يُفكّر فيه المحامون وأساتذة القانون".

 

اقرأ أيضا: تاريخ فلسطين القديم بين العجز والارتهان


وليد الفرشيشي تحدث عن كواليس تعريب هذا الكتاب بكل محبة الدنيا: "كنت قد أنهيت ترجمة رواية "المقامر" لدستيوفسكي، لفائدة دار نشر كويتية عندما هاتفني الناشر العزيز الحبيب الزغبي، وقال لي: "يجب أن ننكب الآن على جيزيل حليمي"، فقلت له: "حسنا! ستكون جاهزة بعد شهرين"، فارتاع وقال لي: "مستحيل، يجب أن تكون جاهزة في ظرف شهر"، فأجبته بدوري: "وهذا أيضا مستحيل، الكتاب ضخم، ويستحيل أن أنتهى منه في مدة شهر".

 

وأضاف الفرشيشي: "كان الحل الوحيد المتوفر أمامي هو أن أقسم الأربع وعشرين ساعة، خصصت ستا للنوم، وساعة للقهوة ومثلها للأكل، ثم قسمت الستة عشرة ساعة المتبقية كالتالي: عشر ساعات يوميا للترجمة، وست للمراجعة والتحرير، والتزمت طيلة شهر بهذا الإيقاع الجهنمي، إلى أن أتممت العمل في حينه".

وتابع: "كنت مرهقا للغاية، وفقدت ضرس عقل ومعها عشر كيلوغرامات في غضون ذلك، فعلت ذلك بكل الحب الممكن، كنت أرى حياة جيزيل وهي تتشكل بين يدي، حياة مثيرة، راكضة، لاهثة، مختلفة، مجنونة.. كنت أضحك معها وأبكي وأغضب وأثور وأهدأ وأثور مجددا، حتى لقد بدا الأمر كأني عشت أكثر من حياة في ذلك الشهر تحديدا".


وإذ أنشر جزءا من كواليس هذا العمل اللاهث المجنون، وهو ما أفعله للمرة الأولى في حياتي، فإني أفعل ذلك لسبب بسيط: المترجم ليس عبّارة أو ناقلة، المترجم هو تلك العين الثالثة التي يحتاجها بلد ما لكي ينهض من سباته". 

وفي "حرية شرسة" حوارات مع آنيك كوجان، ترجمة وليد سليمان، تتحدث آنيك بإعجاب عن قدرة جيزيل حليمي، هذه المناضلة على الاحتمال: "قاومت طيلة الوقت، مقتنعة بأن العدالة كانت قضيّة العمر بالنسبة إليها، وأن مهنتها كمحامية، إلى أن انخرطت فيها بالتزام شبه صوفي، سوف تمكّنها من تغير العالم. وكان ذلك طموحها أن تغير العالم وهي ترافع..

 

ولا شيء أقلّ من ذلك! كان القانون أداتها، والتمرّد علامتها المميّزة، والكلمات، التي تطوّعها ببلاغة، حليفَهَا الرئيسي..

 

كانت تدافع، وتتهم، وتوجّه الضربات، ضد القوانين التي تعتبرها ظالمة وتجاوزها الزمن، والمحاكم العسكرية المتهمة بجعل القانون رهينة، والتراتبية القضائية الذكريّة والذكوريّة، والتابوهات التي تضرّ بالمرأة دائما، إنها متمردة، شغوفة، شرسة لا تكل، هذا ما يسحرني لدى جيزال حليمي". 

وفي حياة جيزيل حليمي مبدعون وضحايا.. ففي عام 1960 لمع اسم جميلة بوباشا، المناضلة الوطنية التي اتهمت بزرع قنبلة لم تنفجر، ولم تخلف ضحايا في مقهى يرتاده فرنسيون في الجزائر العاصمة.

 

لقد تم إيقاف جميلة التي لم تتعد الثانية والعشرين من العمر وتعذيبها.

 

جيزيل حليمي كانت في طليعة المدافعين عنها، بعد أن تأكدت من براءتها، انضم إليها جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار وفرانسواز ساغان وبابلو بيكاسو، "رأت أنه من واجبها إنقاذ جميلة من حكم بالإعدام، والتشهير بما تعرضت له من تعذيب، وملاحقة الجناة".. تحركات جيزيل المكثفة أفضت إلى إلغاء حكم الإعدام، والإفراج عن بوباشا.

 

ولم يكن ذلك سهلا لولا إيمانها ببراءة جميلة والتفاف نخبة نسجت معهم علاقات احترام وانخراط في مفاهيم وقضايا مشتركة، مثل بابلو نيرودا، الذي أهداها قصيدته "المرأة الجميلة ذات العينين الحزينتين"، وجاك مونو وفرنسوا جاكوب، ونعوم تشومسكي، والرئيس الشيلي سلفادور الليندي، وسارتر الذي "أحببته كأبي، كان يأتي للعشاء في بيتي وكان يحب بعض الأكلات التونسية كالطاجين والكسكسي".
 
وفي نهاية الحوار الذي أجرته معها صديقتها الصحافية آنيك كوجان، تعلمنا أنّنا "لا نولد نسويّين، بل نصبح كذلك"، وهذا الشعور له استتباعاته رفضا، واستقلالية، ونضالا، وحراكا: "النضال ديناميكية ولو توقفنا نتدحرج".