قضايا وآراء

أمريكا وإيران.. ومسرحية بلا مسرح

1300x600
يوم الخميس الماضي (9 كانون الأول/ ديسمبر) عادت الوفود المتفاوضة إلى التفاوض في فيينا حول الاتفاق النووي المنشود بين إيران و"مجموعة 4+1" (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين). تقول الأنباء إن إيران قدمت ورقتين الأولى تتعلق برفع العقوبات والثانية تتعلق بالتزاماتها النووية الجديدة التي يطلبونها منها، لكن وزارة الخزانة الأمريكية وفي عز هذه الأجواء التفاوضية التفاهمية فرضت حظرا جديدا على أربع مؤسسات وتسعة أفراد إيرانيين، لتؤكد وتمعن في تأكيد سياستها العقابية من جانب، ولتهدئة بال إسرائيل من جانب آخر. مفاوضات 3 كانون الأول/ ديسمبر السابقة انتهت بالفشل، ولم تحقق أي نتائج.

القادم أصعب كما يقول المتابعون! والاتهامات تستعر وتتزايد بعد أن تحمست إسرائيل ذات فجأة، وأخذت في عقد الاجتماعات وتبادل الزيارات والغدوات والروحات التي تعبر عن عميق قلقها من امتلاك إيران سلاح نووي، لأنها في اليوم التالي لامتلاكها هذا السلاح الفتاك المهلك ستبيد إسرائيل من الوجود وتعلن قيام الدولة الفلسطينية مكانها، وهذا بالطبع بعد أن يختفي أثر الإشعاع النووي من تأثيراته الضارة بالكائنات الحية. وهو القلق نفسه الذي تشاركها فيه أمريكا وأوروبا والدول الخليجية، وأنا أيضا.. ولا تعليق.
القادم أصعب كما يقول المتابعون! والاتهامات تستعر وتتزايد بعد أن تحمست إسرائيل ذات فجأة، وأخذت في عقد الاجتماعات وتبادل الزيارات والغدوات والروحات التي تعبر عن عميق قلقها من امتلاك إيران سلاح نووي

* * *

توم وجيري (قط وفأر) في مسلسل كرتوني شهير شهرة هائلة في العالم كله؛ ابتكره الأمريكيان جوزيف باربيرا وويليم هانا سنة 1940م، ومن شهرته كتب وتحدث عنه العلامة الراحل د. عبد الوهاب المسيري كـ"نموذج تفسيري" للتلاعب والتحايل والخداع، وتسويغ كل ذلك في التفكير المبكر للأطفال.

شيء ما قريب من ذلك نراه في مسلسل الاتفاق النووي الإيراني سابقا أو لاحقا. نحن نشاهد مسلسلا إعلاميا ودعائيا في مظهره، وكرتونيا في جوهره، وساذجا في إخراجه. ففي 8 أيار/ مايو 2018 انسحبت أمريكا من الاتفاق النووي، وفي 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 تم تطبيق عقوبات اقتصادية على إيران، وفي 8 نيسان/ أبريل 2019 أدرج الحرس الثوري على قائمة المنظمات الإرهابية، وفي 5 أيار/ مايو 2019 تم إرسال حاملة الطائرات أبراهام لينكولن إلى المنطقة، وسط حديث متباين اللهجات عن الحرب (الموهومة) بين البلدين، وبالتزامن مع تصريحات لهما عن رغبتهما في تجنب حدوثها.

ذهب ترامب وجاء بايدن الذي أخذ في مراجعة كل "سوابق" سابقه، وتحدثت الأنباء عن اتخاذ بايدن 17 قرارا تنفيذيا تلغي تدابير اتخذتها إدارة ترامب في أوقات سابقة (مرسوم الهجرة، اتفاقية باريس للمناخ.. الخ)، أما في ما يتعلق بإيران فلم يقترب من القرار الترامبي الغريب والذي كان مستهجنا من الدنيا كلها، وبالرغم من أن الاتفاق نفسه تم في وقت كان فيه بايدن داخل المطبخ الرئاسي نائبا لأوباما (2009-2017م).

واستمر قرار الانسحاب الأمريكي ساريا، ليس هذا فقط.. بل وسايره الموقف الأوروبي الذي اكتشف فجأة أن الاتفاق يحتاج إلى تعديل! الاتفاق الذي تم في 14 تموز/ يوليو 2015م - بعد خلافات استمرت أكثر من عشر سنوات بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا (5+1) - كان يشمل تحجيم النشاطات النووية الإيرانية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران بشكل تدريجي وقتها، إلا أن الرئيس الأمريكي الجديد الذي لم يكن موافقا - كمواطن أمريكي مخلص - وقت رئاسة أوباما على الاتفاق، انسحب منه بشكل أحادي وفرض عقوبات قاسية ضد إيران.

على الجانب الآخر، توقع كثيرون إعادة العمل بالاتفاق المغدور به بعد مجيء بايدن.. لكن ذلك لم يحدث، وبدأ حديث آخر عن القلق من البرنامج الصاروخي الإيراني، والذي تم فتح ملفاته من خلال وسطاء مشتركين.

* * *
من المستبعد - نظريا على الأقل - أن يكون الطرفان على اتفاق فيما بينهما على هذا السيناريو وهذه المسرحية بشكل مباشر وواضح، لكننا رأينا من قبل ما لم نستطع تحميله على جوانب تفسيرية أخرى مانعة، كما يقول أهل الأصول، بل وألقى على صفحات دماغنا الكثير من علامات الاستفهام

علاقة إيران بالغرب وتحديدا أمريكا تضعك فورا أمام ما يسمونه مسرحية بلا مسرح، كما كان يقول الراحل محمود فوزي، وزير الخارجية المصري الأسبق ثم رئيس الوزراء لاحقا، إلى حد أن يخيل إليك أن هناك مخرجا يقرأ سيناريو مكتوبا، وينفذه كما يقول الكتاب أو كما يقول الورق. لكن السؤال الذي يطل برأسه فورا من هنا: ما الموضوع وما أرضية الموضوع؟ وماذا يوجد خلف الصورة المبسطة للأمور كما تبدو في ظاهرها؟

من المستبعد - نظريا على الأقل - أن يكون الطرفان على اتفاق فيما بينهما على هذا السيناريو وهذه المسرحية بشكل مباشر وواضح، لكننا رأينا من قبل ما لم نستطع تحميله على جوانب تفسيرية أخرى مانعة، كما يقول أهل الأصول، بل وألقى على صفحات دماغنا الكثير من علامات الاستفهام، رأينا اتفاقات وتفاهمات بين الجانبين في أفغانستان (2001م) والعراق (2003م).. بل ورأينا شيئا من ذلك يحدث أيضا في سوريا ولبنان اليمن.

لن تكون هناك حرب في المنطقة، لا بين إسرائيل وإيران ولا بين أمريكا وإيران. هذا هو الشيء الوحيد المؤكد في كل هذه الضوضاء التي نراها ونسمع عنها، فما الذي ستجنيه أمريكا تحديدا من كل ذلك وهي لن تحارب أصلا؟

بغض النظر عن استدرار الأموال الخليجية، وبغض النظر عن الملف المزدحم مع الصين، وبغض النظر عن ظلال كل ذلك على روسيا، دعونا نكن من أبرياء السياسة والاستراتيجية ونسأل ثانية: ما الذي ستجنيه أمريكا من كل ذلك وهي لن تحارب أصلا؟ يقولون إنه في مشاهد معينة لا يجب على الإنسان أن يطرح أسئلة، فقط عليه أن يكتفى بقبول الأمور كما هي، ومن يريد أن يعرف.. سيبقى على ظمئه!!
لن تكون هناك حرب في المنطقة، لا بين إسرائيل وإيران ولا بين أمريكا وإيران. هذا هو الشيء الوحيد المؤكد في كل هذه الضوضاء التي نراها ونسمع عنها، فما الذي ستجنيه أمريكا تحديدا من كل ذلك وهي لن تحارب أصلا؟

* * *

تقول لنا الحكايات القديمة والحديثة إن إيران مستفيدة استفادة كبرى مما يحدث، على مستوى أمنها القومي العميق واستقرار نظام الحكم فيها بإحكام أقوى وأقوى، فليس مثل الحروب أو دق طبولها قدرة في دعم الصفوف الداخلية وتعبئة المجتمع والتفاف الناس حول قيادتها.

الجبهة الداخلية الإيرانية ليست متماسكة بالقدر الذي تظهره الدولة، وفيها الكثير من نقاط الضعف، سواء كان لتعدد القوميات والأعراق (فرس وكرد وطاجيك وبلوش وعرب..) أو استنادا لفلسفته الفكرية أو لطبيعة المصالح التي تخدم (دولة الفقيه العميقة) التي توغلت وانتشرت وهيمنت على كل مقدرات السلطة في إيران.

بعض الخبثاء يقولون إن ما تفعله أمريكا والغرب مع إيران الآن هو نفس ما فعله صدام حسين معها في قادسيته الشهيرة (22 أيلول/ سبتمبر 1980م). قادسية صدام بدأت بمناوشات حدودية بين البلدين لكن صدام حسين تفتحت شهيته لتنفيذ عمليات عسكرية، محاولا استثمار حالة الفوضى في إيران بعد الثورة (هكذا قالوا له..). كان صدام لا زال في السنة الأولى لحكمه، وكي تكون رئيسا مهيبا تدخل التاريخ دخول الفاتحين، لا بد وأن تكون لك حربك الكبرى. وقد رأينا "الزعيم الخالد" في 1956 (حرب السويس)، أيضا ولي العهد السعودي في 2015م (حرب اليمن).
سنرى أنه طول الوقت لم تتحدث أي من الإدارات الأمريكية عن إسقاط النظام، وسنكتشف مثلا أن أمريكا لم تقدم للمعارضة الإيرانية عُشر ما قدمته للمعارضة العراقية وقت صدام وقبل غزوها المنكود

استثمر النظام الإيراني الجديد وقتها الحربَ، والتي استمرت ثماني سنوات (1980-1988م)، لتكريس سلطته المطلقة، واستخدم حالة الطوارئ التي عاشتها إيران طوال هذه السنوات للتخلص من خصومه السياسيين وتكريس قواعده ونشر أفكاره.

حديث المؤامرة ليس صوابا كله، وليس خطأ كله، فليس كل الظن إثم، بعضه فقط.

سنرى أنه طول الوقت لم تتحدث أي من الإدارات الأمريكية عن إسقاط النظام، وسنكتشف مثلا أن أمريكا لم تقدم للمعارضة الإيرانية عُشر ما قدمته للمعارضة العراقية وقت صدام وقبل غزوها المنكود، وهي المعارضة التي جُلبت وسُلّمت الحكم تسليما، وسنتذكر أيضا - بالمرة - جملة قالها (يوما ما) علي شامخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، والذي - بالمناسبة - استيقظ ذات صباح مشرق يوم الأربعاء الماضي ليتناول الشاي والبسكويت مع مستشار الأمن القومي الإماراتي. لكن ما الجملة التي قالها الجنرال السابق؟.. قال: لن تكون هناك حرب بين إيران وأمريكا.. لأنه لا يوجد مبرر للحرب!!

وعلى هذا النحو لا تكون النيات الطيبة ذات أهمية كبيرة.

twitter.com/helhamamy