كتاب عربي 21

عن مقولة فشل "الإسلام السياسي" وما وراء ترويجها

1300x600

بعد ما جرى في المغرب وتونس؛ وقبلهما مصر، صارت مقولة "فشل الإسلام السياسي" أشبه بنظرية تقترب من الحقيقة في بعض الأوساط.


من المؤكد أن من يتداولونها ليسوا سواءً، فمنهم من يفعلون ذلك بحسن نية، وبعضهم ينتسب أصلا إلى دوائر إسلاميين يفعلون ذلك غالبا في سياق من جلد الذات، بخاصة إثر هزائم كثيرة هنا وهناك بعد نجاح هجمة "الثورة المضادة" على الربيع العربي، لكن أكثرية المروّجين ليسوا كذلك.

 

مصر وتونس والمغرب لم تشهد تجربة إسلامية الهوية، بالمعنى الواقعي للكلمة، فمن لا يملك سلطة على الدولة العميقة، لا يمكن أن يُحسَب حاكما


ما ينبغي أن يُقال ابتداء لأولئك جميعا هو أن حديث الفشل لهذا الطرف الأيديولوجي؛ يستدعي وجود نجاح من أطرف أخرى يمكن القياس عليه، الأمر الذي لا يبدو واقعا في الدولة القُطرية الحالية، أو دولة ما بعد الاستعمار التي لم تحقق التنمية والاستقلال الحقيقي والعدالة والحرية؛ على تفاوت بين حالة وأخرى، وهي دولة تراوح حكمها بين أشكال وراثية تأخذ شرعيتها من الدين أو القبيلة، وبين أخرى جمهورية ذات أيديولوجيات علمانية ويسارية وقومية (صار بعضها وراثيا أيضا)، مع التذكير بأن تحقيق بعضها لقدر من الرفاه كان بسبب ثروات طبيعية، وليس بسبب جهود تنموية.


على أن الأهم من ذلك هو أن حديث الفشل، يستدعي قبل ذلك وبعده وجود تجربة حقيقية لـ"الإسلام السياسي" يمكن الحديث عن فشلها، وهنا لن نعثر عمليا سوى على التجربة السودانية، لأن هذه السطور لا يمكنها وضع التجربة التركية في ذات السياق، وإن اقتربت منه بهذا القدر أو ذاك، تبعا لهوية حزب "العدالة والتنمية" الأصلية، وليس الواقعية المعلنة.


نقول ذلك لأن مصر وتونس والمغرب لم تشهد تجربة إسلامية الهوية، بالمعنى الواقعي للكلمة، فمن لا يملك سلطة على الدولة العميقة، لا يمكن أن يُحسَب حاكما، فضلا عن أن تمارس التآمر عليه، وتسعى لإفشاله بكل ما أوتيت من قوة. ألم ترَ كيف تم إقصاء عبد الإله بن كيران في المغرب، حين حاول توسيع هامش الصلاحيات التي تم مُنحت له؟!

 

وقد كتبنا سابقا عن تهافت نظرية "الفشل" في تبرير حصول حزب "العدالة والتنمية" على ذلك العدد من المقاعد، لأن من يريد معاقبة حزب فاشل لن يختار من فشلوا سابقا، أو من يتبعون المسؤول الأكبر عن الفشل، مع تذكيرنا بالسبب الأصلي لصعود الحزب، أو السماح بصعوده بعد لحظة الربيع العربي التاريخية، ومخاوف النظام من تغيير جذري؛ بوجود قوة إسلامية أكثر قوة من الحزب المذكور؛ أعني "حركة العدل والإحسان".


نشرت كتابا عن سؤال: "لماذا يفشل الإسلاميون سياسيا؟"، ولم يكن الأمر متعلقا؛ كما فهم البعض من العنوان، بسؤال الفشل في الحكم، لأن ذلك لم يحدث، باستثناء الحالة السودانية (سنأتي إليها)، بل بمجمل التعاطي مع الشأن السياسي وتعقيداته، بخاصة خلال عملية الإصلاح والتغيير أو الثورة، ومن ضمن ذلك ضآلة فهمهم لسنن التغيير في روحها القرآنية وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم لماهية الدولة الحديثة وتجارب حركات التغيير الأخرى.

 

الهجمة التي تعرّضت لها قوى ما يسمى "الإسلام السياسي" لا تتعلق بالأيديولوجيا، بل بتصدرها لمشهد الربيع العربي، والمطالبة بالحرية والتعددية، ولو كان مكانها آخرون، لما اختلف الموقف منهم


نفتح قوسا بشأن الحالة السودانية التي سجلت فشلا، لكنه فشل لا يتعلق بالأيديولوجيا، بل بالأشخاص، إذ تحوّل الحكم إلى دكتاتوري (بديكور ديمقراطي)؛ كحال أكثر جمهوريات الوضع العربي، وهو ما يذكّرنا بتحوّل الخلافة الإسلامية بعد معاوية إلى حكم عضوض، كحال المنظومة السائدة في العالم حينها. ونذكّر هنا أن الأب والمنظِّر الأهم لتلك التجربة (حسن الترابي) قد وقف ضدها في فصلها التالي حين فضّل تكريس تجربة تداول حقيقية، رغم أن الأمر ليس سهلا في بلد ذي طابع خاص من حيث تبعية أكثر الناس لجماعات صوفية، تنحاز لشيخها، أيا تكن وجهته، وهو ما دفع البشير إلى إقصائه، بل سجنه.


لا ننسى بالطبع أننا نتحدث عن بلد فقير، وانتهج سياسات لا تنسجم مع المنظومة الدولية السائدة خلال فترة وجوده، وتعرّض بسبب ذلك لمشاكل وعقوبات كثيرة، رغم تراجعاته اللاحقة، بجانب موقف المحيط العربي المناهض له، والذي ظل يصنّفه بذات التصنيف القديم رغم كل شيء. أي أنه، ورغم بقائه ثلاثة عقود، إلا أنه كان طوال الوقت يقاتل من أجل البقاء، وتحوّل تبعا لذلك إلى نمط دكتاتوري فقد ثقة غالبية الناس، وكان ما كان بعد ذلك.

 

ولعلي أذكّر هنا، كي لا يذهب بعضهم إلى مقولة التبرير، بأنني كتبت مرارا وتكرارا ضد ذلك النظام رغم هويته، ورغم أن موقفه من فلسطين كان جيدا جدا، ودفع أثمانا كبيرة مقابل ذلك، وهذا بالطبع لا يتذكره شبيحة بشار، وطبعا بسبب مسألة الهوية ذاتها.


نأتي إلى الهدف الكامن وراء ترويج المقولة التي نتحدث عنها، وهو بكل بساطة لا يتعلق بضرب الإسلاميين وحدهم من قبل أكثرية المروّجين، بل بضرب فكرة الإصلاح والتغيبر، ووصولا إلى دفع الناس نحو قبول الأوضاع الراهنة بكل ما فيها من بؤس. ويعلم الجميع أن الهجمة التي تعرّضت لها قوى ما يسمى "الإسلام السياسي" لا تتعلق بالأيديولوجيا، بل بتصدرها لمشهد الربيع العربي، والمطالبة بالحرية والتعددية، ولو كان مكانها آخرون، لما اختلف الموقف منهم.


المطلوب إذن هو نسف مطالب الربيع العربي برمته، وليس شطب الإسلاميين وحدهم، ولذلك، سيكون على جميع القوى الحيّة، وشرفاء الأمة، أن يتوحّدوا خلف شعار التغيير الذي يسمح للناس بحرية الاختيار، وليكن بعد ذلك ما يكون، فحين يفشل حزب أو تيار، سيأتي آخر، وتتم محاسبته أيضا، وقد يكون البديل من ذات الهوية الأيديولوجية في بعض الأحيان.


المهم هو الوصول إلى مجتمعات متصالحة مع ذاتها في المسائل الأساسية، وعبر دساتير تمثل الأغلبية، وليتنافس الناس بعد ذلك على من هو الأفضل في خدمة مطالب الجماهير التي ستكون وحدها المؤهلة لمحاسبته. أما بقاء الأوضاع الراهنة، فهي وصفة لمزيد من البؤس، كما أصبح واضحا لكي ذي ضمير؛ ليس على صعيد الدولة القُطرية ذاتها وحسب، بل أيضا على صعيد الأمّة جمعاء، في لحظة انتقال عالمية تاريخية، ينبغي للأمّة أن تجد لها فيها مكانا معتبرا.