قضايا وآراء

الرعاية الصحية في مصر وسد الفجوة في رأس المال البشري

1300x600

ذكرت مؤسسة كوليرز إنترناشيونال العالمية للخدمات في تقريرها منتصف شهر أيلول/ سبتمبر 2021 الجاري؛ أن مصر تلزمها استثمارات كبيرة في قطاع الرعاية الصحية لسد الفجوة في الطلب. ووفقا للتقرير، يواجه القطاع العديد من التحديات، مثل ارتفاع تكاليف رأس المال وهجرة العقول للأطباء والموظفين الطبيين المؤهلين إلى خارج مصر. وأظهر أنه من بين المتطلبات الرئيسية لتوفير خدمات الرعاية الصحية الجيدة، والتي يتم تجاهلها في كثير من الأحيان، توفر رأس المال البشري. وأوضح التقرير أنه بحلول عام 2030، سيكون هناك طلب إضافي على آلاف الأطباء والصيادلة والتمريض.

ويتألف رأس المال البشري من المعارف والقدرات والمهارات الصحية التي يستثمر فيها الناس وتتراكم لدى الأشخاص على مدار حياتهم، بما يمكِّنهم من استغلال إمكاناتهم كأفراد منتجين في المجتمع. ويساعد الاستثمار في البشر، من خلال توفير الغذاء المتوازن والرعاية الصحية والتعليم الجيد والوظائف والمهارات، على تنمية رأس المال البشري، وهو مكون أساسي في استراتيجية التنمية المستدامة، كما ورد في وثيقة مؤتمر "ريو 92" وما تلاها من وثائق عالمية.

وعند النظر لإعداد الكوادر الصحية يتضح مدى صعوبة الإعداد والتشغيل والاستثمار في هذا القطاع، فالمسألة ليست فقط بالنقص العددي أو الكمي لرأس المال البشري، بل أيضا النوعية من حيث الدراسة والتدريب والمهارات والكفاءة والقدرة على مواجهة الأزمات والكوارث، بالإضافة إلى أهمية توفير بيئة صالحة لتقديم الخدمة الصحية بجودة عالية، ولتحقيق تعافي مؤشر قوة العمل من حيث التوظيف الجيد وتوفير الإمكانيات الضرورية، ومنح العاملين المزايا والأجور المناسبة في إطار من العلاقات الإنسانية والدعم النفسي والتحفيز المعنوي.

وعلى النقيض من كل هذا، فإن مصر تشهد إهدارا شبه ممنهج لرأس المال البشري من الأطقم الطبية؛ يبدو واضحا في انتشار التعسف الإداري، وفساد بيئة العمل، والتراجع الواضح في إعداد وتنمية وتوظيف المهارات ودعم القدرات، لجميع أفراد الأطقم الطبية على حد سواء..

مصر طاردة للأطباء:

أولا، هجرة الأطباء للخارج، وكانت تلك الظاهرة قد تم الإعلان عنها رسميا من وزيرة الصحة المصرية في شهر أيلول/ سبتمبر عام 2018، حيث صرحت بأن ستين في المئة من الأطباء يعملون في الخارج. وكان من الغريب أن الإجراءات التي تم عرضها لحل المشكلة؛ ومنها تحويل مهني للصيادلة ليمارسوا مهنة الطب، ومنع تصاريح السفر للأطباء، وزيادة أعداد خريجي كليات الطب.. بعدها مباشرة بدأت موجات متسارعة من استقالات الأطباء بلغت مداها باستقالة سبعة آلاف طبيب في عام 2020 وحده.

وثانيا، عزوف الأطباء عن شغل الكثير من التخصصات الهامة، مثل التخدير وطب الطوارئ والعناية المركزة.

وثالثا، الإهمال الحكومي الواضح في حقوق الرعاية الطبية والدعم النفسي لأفراد الطاقم الطبي والذي تفاقم خلال جائحة كورونا، والتخلي التام عن منح الشهداء منهم حقوقهم المشروعة في القانون رقم 16 لسنة 2018 الخاص بشهداء العمليات من أفراد الجيش والشرطة، وإصدار قانون معيب يشمل الدعم المالي لهم من خلال التبرعات والمساهمات الذاتية.

الصيادلة في الشارع بدون عمل:

"خليهم في الشارع".. عبارة صادمة أطلقتها وزيرة الصحة في وجه أعضاء لجنة الصحة خلال ردها على استجواب بالبرلمان عام 2019 بخصوص تكليف خريجي كليات الصيدلة. وكان تبرير الوزيرة لذلك هو أن أعداد الخريجين تبلغ 15 ألفا سنويا، في حين أن الاحتياج الفعلي بالمؤسسات الصحية لا يتجاوز ثلاثة آلاف فقط، وما زال العدد يتزايد تراكميا كل سنة دون توظيف أو أية استفادة حقيقية من تلك الطاقات والكفاءات والقدرات المهدرة، ودون وجود استراتيجية تعليمية تحقق التوازن بين أعداد الخريجين واحتياجات سوق العمل.

أعضاء هيئات التمريض بين نقص العدد وانعدام الكفاءة:

يعمل أعضاء الهيئة التمريضية في بيئة سيئة تسودها الفوضى وضياع الحقوق، فاقدة للتنظيم والتشريع والرقابة والجودة، وأبسط الحقوق الإنسانية الطبيعية داخل مقر العمل. وجاء النقص العددي الذي يصل إلى أكثر من ثلاثين في المئة من الاحتياجات ليربك المهنة ويرهق أصحابها، فيقعون فريسة للفشل الإداري والتنظيمي. فبالإضافة إلى تدني الأجور، تأتي مشكلة عدم وجود تدريب ممنهج، والذي يمثل عصب التطور العلمي وأساس وجوده الخدمة العلاجية على المستوى الإنساني والطبي. وبعد التخرج تنقطع تماماً صلة الطلاب من الكليات والمعاهد والمدارس بالتدريب، فيتوقف التطور العلمي عند حد التخرج، وتلك مشكلة كبرى تُفقد هذا المكون من رأس المال البشري أهم مقومات الفعالية والنجاح.

هل تستجيب مصر للتوصيات العالمية لدعم الفريق الطبي؟

ومؤسسة كوليرز انترناشيونال مركزها الرئيس في كندا ولها مكتب إقليمي في دبي، وتملك مصداقية تستدعي الاهتمام من الحكومات، ولكن يبدو أن الحكومة المصرية لا تعبأ كثيرا بمثل تلك الدراسات والتقارير العالمية؛ فمنذ أيام اهتز المجتمع الطبي لقرار غريب من وزارة الصحة بإلغاء تكليف خريجي المعاهد الفنية الصحية، وهم القوة الفاعلة في تقديم الخدمة الطبية، تبعته جدليات حول تكليف خريجي كليات الصيدلة، وذلك بالتوازي مع التردي الشديد في منح الأطباء حقهم في فرص التسجيل للدراسات العليا التخصصية حسب رغباتهم وقدراتهم، وذلك كله في إطار صادم من تدني قيمة الإنفاق الحكومي على الصحة بحيث لا يتجاوز اثنين في المئة فقط من إجمالي الناتج المحلي، بالمخالفة الصريحة لتوصيات منظمة الصحة العالمية بضرورة أن يتراوح بين 7 إلى 15 في المئة لضمان تحقيق القدر المناسب من جودة الرعاية الصحية.

وجدير بالذكر أن سد الفجوة التشغيلية في الرعاية الصحية بمصر لا يستدعي زيادة أعداد الخريجين من أعضاء الأطقم الطبية؛ بقدر الاحتياج إلى وجود رؤية استراتيجية حقيقية لتوفير بيئة العمل الصالحة ماديا وإداريا ومعنويا، بما يقلل من هجرة الأطباء، وإتاحة فرص العمل للصيادلة، والتراجع فورا عن قرار وقف تكليف خريجي معاهد التمريض، لأن تنمية رأس المال البشري يعتبر من أهم ركائز التنمية المستدامة.