كتاب عربي 21

سنوات الاستجداء ذهبتْ سُدىً

1300x600
ارتبط نظام تموز/ يوليو 2013 بانعدام شرعية الفعل المنشئ لهذا النظام. وتقتضي طبيعة استقرار نُظُم الحكم اكتسابَ الشرعية الشعبية، لكن النظم الاستبدادية التي تعرف مقدار الرفض الشعبي لها تبحث عن الشرعية خارج حدود الوطن، وهو الفعل الذي يتهمون به المعارضين بالخيانة، مع فارق واضح بين معارضة تفضح الاستبداد ولا تستقوي بالخارج، وبين نظام يدعي الاستقلال وهو غارق في تقديم فروض الولاء للقوى التي تدعم بقاءه على كرسي الحكم.

غرق النظام في الوحل، ولأنه اعتاد عليه لم يسْعَ للخروج منه بل أمعن في القَذَرِ، فسارع إلى طرق كل باب خارجي ليكتسب منه الشرعية، فقام بالتعاون مع جهات لتلميع صورته، وتحالف مع العدو التاريخي لاكتساب دعمه، وقام بصفقات اقتصادية وعسكرية بأرقام خيالية لاكتساب الدعم في مسار القمع والدم. وبالفعل نال الرضا، وأصبح الحاكم معدوم القدرات ضيفا في كل الدول المدعية للتحضر ونشر القيم الديمقراطية.
اليوم أتى سد النهضة ليكشف سوأته أمام المجتمع وتقزّم وضعه الخارجي، وتزييفه لمقامه وإنجازاته أمام الشعب المطحون جراء إخفاقاته المتكررة في إدارة شؤون البلاد

تصور رأس النظام أن الرضا الخارجي عنه مرتبط بذاته، لا بدوره في تحطيم الإسلاميين وقمع المعارضين والحفاظ على أمن دولة الاحتلال الصهيوني، خدعته قدراته في تقييم الأمور، فتصور ما يجافي الواقع. واليوم أتى سد النهضة ليكشف سوأته أمام المجتمع وتقزّم وضعه الخارجي، وتزييفه لمقامه وإنجازاته أمام الشعب المطحون جراء إخفاقاته المتكررة في إدارة شؤون البلاد.

أراد العبقري صاحب "الجمهورية الجديدة" أن يصنع لنفسه التاريخ، فقام بالتوقيع على إعلان المبادئ في آذار/ مارس 2015، وهو الإعلان الذي منح إثيوبيا شرعية بناء السد، دون أي ضمانات لحقوقنا، بل صاغ الاتفاق في بنده الثالث مبدأً فضفاضا، وهو "عدم التسبب في ضرر ذي شأن".

ويا لها من عبقرية أحكمها طبيب الفلاسفة، وحاشيته من الوجهاء والنبهاء، فمن الذي يحدد نوع الضرر وإذا كان "ذا شأن" أم لا؟ كما أن المادة العاشرة من الإعلان أضافت إضافة قوية للغاية لمفاهيم التفاوض والدبلوماسية، فنصّت على أن "تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتهم الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقا لمبدأ حسن النوايا. (و) إذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق، الوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/ رئيس الحكومة". وكأن كتبة المعاهدات من قبل كانوا ينصّون على حل النزاعات بصورة عنيفة وبقيام الحرب!
ما نفهمه أن الاتفاقات تجري أصلا بهذه الطرق، وفي حالة عدم الوصول إلى حل تلجأ الأطراف إلى التحكيم أو إلى أي جهة قضائية، لكن أن يتم النصّ على أنه في حال فشل المفاوضات فلا بد من استمرار المفاوضات أو إدخال وسيط فهذه نباهة لم نعهدها من قبل

ما نفهمه أن الاتفاقات تجري أصلا بهذه الطرق، وفي حالة عدم الوصول إلى حل تلجأ الأطراف إلى التحكيم أو إلى أي جهة قضائية، لكن أن يتم النصّ على أنه في حال فشل المفاوضات فلا بد من استمرار المفاوضات أو إدخال وسيط فهذه نباهة لم نعهدها من قبل.

ثم تفتق الذهن الخامل عن وسيلة جديدة خلال أزمة ستعصف بحياة الملايين، وقد تعصف بالوطن كله، فوقف أمام رئيس الوزراء الإثيوبي في حزيران/ يونيو 2018، وطالبه بأن يردد وراءه قسم عدم الإضرار بمصالح مصر، وعلت وجهه الابتسامة السمجة، وكأنه أحرز نصرا غير مسبوق، واحتفت الجرائد بوسيلة جديدة من الوسائل الدبلوماسية ابتدعها هذا "الثعلب" الذي تربى داخل جهاز عريق، وهو جهاز عريق بالفعل، وفرع داخل مؤسسة وطنية بحق.

لجأت مصر إلى مجلس الأمن مرتين، الأولى في أيار/ مايو 2020، وأحال المجلس الأمر إلى الاتحاد الأفريقي الذي لم ينجح في التوصل إلى حل، ثم كانت الجلسة الأخيرة في الثامن من تموز/ يوليو الجاري، وأبدت الدول تجاهلها الكامل لاحتياجاتنا كمصريين، بل إن روسيا التي قام السيسي بالتعاقد معها لبناء مفاعل نووي بمئات المليارات من الجنيهات، وقعت اتفاقية تعاون عسكري مع إثيوبيا بعد هذه الجلسة.

بالإضافة إلى ذلك فإن الاتحاد الأوروبي أعلن على لسان الممثل السامي للشؤون الخارجية والسياسية للاتحاد؛ أن "أزمة سد النهضة ليست مطروحة على أجندة اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين، وإنما سنناقشها عند الحديث عن إقليم تيجراي الإثيوبي". إذاً حياة المصريين قضية هامشية، رغم قيام النظام الحالي بتقديم القرابين على مذبح الديمقراطية، واستجدائه الدائم للغرب من أجل نَيْل الرضا.
الرئيس يتنزّه على دراجة في مدينة ساحلية في وقت أزمة كبرى، مما أعطى إشارة بالغة السوء عن تقديره للأزمة العاصفة، وربما يعطي إشارة أخرى عن رغبته في العودة إلى ذكريات الطفولة التي يبدو أنها كانت فارغة من متع كثيرة، دون اعتبار للوقت المناسب لاسترجاع الذكريات

هذا التجاهل الأوروبي للملء الثاني للسد ليس مستغربا، فقد سبق لوزير الخارجية المعروف بقاهر "الميكروفون"، أن أعلن في أيار/ مايو الماضي أن الملء الثاني "لن يؤثر على المصالح المائية لمصر"، وهو التصريح الذي التقطته إثيوبيا سريعا لتؤكد على سلامة موقفها، كما أن المصريين الذين تابعوا جلسة مجلس الأمن الأخيرة، وجدوا الرئيس يتنزّه على دراجة في مدينة ساحلية في وقت أزمة كبرى، مما أعطى إشارة بالغة السوء عن تقديره للأزمة العاصفة، وربما يعطي إشارة أخرى عن رغبته في العودة إلى ذكريات الطفولة التي يبدو أنها كانت فارغة من متع كثيرة، دون اعتبار للوقت المناسب لاسترجاع الذكريات. فإذا كانت هذه تصريحات وسلوكيات القيادة المصرية السياسية، فلمَ سيهتم غير المصريين؟ 

إن أزمة السد الإثيوبي تعد واحدة من أخطر ما يتهدد حياة وأقوات المصريين، فمصر تعاني من الفقر المائي رغم مرور النيل فيها، وتتعرض أراضيها للانحسار بفعل التجاهل الحكومي لتطهير قنوات الري، أو بسبب قلة وعي ملاّك الأراضي الزراعية وبنائهم عليها، وما سيسببه السد من أزمات سيفاقم الأوضاع الاقتصادية المتردية. وللأسف أصبح مصيرنا مرهونا بقيادة غير حكيمة وغير أمينة على مقدرات الوطن، وما التنازل عن جزيرتيْ تيران وصنافير منا ببعيد.

twitter.com/sharifayman86