قضايا وآراء

صندوق الطوارئ الطبية وتخلي حكومة مصر عن واجب الإنفاق الصحي

1300x600
"يهدف صندوق الطوارئ الطبية إلى استدامة تمويل الخدمات المقدمة من وزارة الصحة والسكان للمواطنين في مجال الوقاية والعلاج والتأهيل، وإلى القضاء على قوائم الانتظار للمرضى ومنع تراكمها ودعم شراء الأدوية، وتمويل حالات الحوادث الكبرى والطوارئ وحالات العناية المركزة والأطفال المبتسرين والحروق، ويواجه ما يستجد من احتياجات لا تكفي الاعتمادات المالية المتاحة في موازنة الدولة لتغطيتها". عبارات منمقة ذات صياغة مبهرة استهلت بها الحكومة المصرية "مشروع قانون إنشاء صندوق الطوارئ الطبية"، الذي وافق عليه البرلمان كالعادة، ليصبح واقعا يتطلب إلقاء الضوء عليه وعلى تبعاته.

جاءت أهداف صندوق الطوارئ الطبية لتغطي جانبا مهما من قانون التأمين الصحي الشامل الجديد رقم 2 لسنة 2018، الذي بدأ تطبيقه في تموز/ يوليو 2019، وما زال حتى الآن في مرحلته الأولى التي تشمل ست محافظات بنسبة 5 في المائة فقط من إجمالي عدد السكان، على أن يغطي مصر كلها خلال 15 عاما. وقد أقر القانون بمبدأ فصل التمويل عن الخدمة الصحية، على أن يطبق القانون على مجالات الخدمات الصحية التأمينية، ولا يطبق على خدمات الصحة العامة والوقائية والخدمات الإسعافية والطوارئ وخدمات تنظيم الأسرة، وعلى الخدمات الصحية الخاصة بتغطية الكوارث الطبيعية والأوبئة، وما يماثلها من خدمات تلتزم بها سائر أجهزة الدولة مجانا.
صندوق الطوارئ الطبية يعني رفع يد الدولة عن التمويل المجاني لخدمات الطوارئ والإسعاف الطبي والكوارث الطبيعية، كما ورد بقانون التأمين الصحي، وتصبح مصادر التمويل ذاتية من مدخرات المواطنين، أو خصما من أجورهم الشهرية، مع فرض مساهمات إجبارية على عدد من المنتجات

ومن ثَمّ فإن صندوق الطوارئ الطبية يعني رفع يد الدولة عن التمويل المجاني لخدمات الطوارئ والإسعاف الطبي والكوارث الطبيعية، كما ورد بقانون التأمين الصحي. وتصبح مصادر التمويل ذاتية من مدخرات المواطنين، أو خصما من أجورهم الشهرية، مع فرض مساهمات إجبارية على عدد من المنتجات مثل مستحضرات التجميل وغيرها من الصناعات الوطنية.

والمثير للقلق، أن مصادر التمويل قد شملت ضم "صندوق صحة الأسرة"، وهذا يعني فقدان مصدر مهم من التمويل الذاتي لوحدات صحة الأسرة على مدى سنوات طويلة. وهذا الصندوق معروف لدى الأطقم الطبية باسم صندوق تحسين الخدمة في المؤسسات الصحية، ويجمع إيراداته من رسوم الكشف الطبي وخدمات معامل التحاليل وأقسام الأشعة وعيادات الأسنان وغيرها، ليتم الإنفاق منها على صرف حوافز للأطقم الطبية، وتلبية الاحتياجات العاجلة لضمان استمرارية الخدمة الصحية داخل تلك المؤسسات، من خلال التمويل الذاتي من حصيلة تقديم الخدمة للمواطنين. وهذا الصندوق تم إنشاؤه عام 2003 في جميع وحدات الرعاية الصحية الأولية بمصر، وضمه إلى صندوق الطوارئ الطبية يعني حرمان أكثر من خمسة آلاف وحدة رعاية صحية أولية من مصدر مهم للتمويل الذاتي، لصالح عدد قليل من الوحدات تزيد ببطء على مدى 15 عاما؛ هي فترة انتشار قانون التأمين الصحي الجديد.

جاء ضم بند تمويل دعم شراء الدواء إلى صندوق الطوارئ الطبية كنتيجة حتمية لتخفيض مخصصات دعم الدواء في موازنة الصحة بمقدار 500 مليون جنيه سنويا، كما ورد في موازنة الصحة لعام 18/2019، ومن ثَم فقد تخلت الحكومة عن توفير الاعتمادات المالية للأدوية لتصبح رهينة التمويل الذاتي من المواطنين وتبرعات أهل الخير، مما يؤثر سلبا على حقوق المرضى في توفير الأدوية بصورة عامة، منها الألبان الصناعية للأطفال بصورة خاصة.

وكان من الغريب أن تصبح قوائم الانتظار ضمن مستهدفات صندوق الطوارئ الطبية، وذلك لأن مفهوم "قوائم الانتظار" قد تحول إعلاميا من حق المريض في العلاج المجاني، ليصبح هبة ومنحة حكومية يتم استغلالها سياسيا تحت مسمى "المبادرات الرئاسية"، في حين أنها من صميم دور وزارة الصحة في العلاج المجاني للمواطنين.
مفهوم "قوائم الانتظار" قد تحول إعلاميا من حق المريض في العلاج المجاني؛ ليصبح هبة ومنحة حكومية يتم استغلالها سياسيا تحت مسمى "المبادرات الرئاسية"، في حين أنها من صميم دور وزارة الصحة في العلاج المجاني للمواطنين

وكان مصدر التمويل لها هو بند "العلاج على نفقة الدولة"، ولكن القصور الواضح في الجاهزية الصحية في المستشفيات الحكومية ونقص الاعتمادات المالية، أدى إلى تراكم المرضى ليصل العدد إلى 12 ألفا عام 2018، فتقرر وقتها تحويل المخصصات المالية من وزارة الصحة إلى مستشفيات الجيش عالية التجهيز، ليتم فيها إجراء تلك الجراحات التي فشلت مستشفيات الصحة في أدائها. وبعدها انضمت المستشفيات الجامعية إلى الخدمة على حساب وزارة الصحة أيضا.

وتلك المبادرة قدمت حلا للمشكلة وقتها وقد استفاد منها المرضى بالطبع. ولكنْ، لها جانب سلبيّ خطير، هو حرمان المستشفيات الحكومية من التمويل اللازم للتطوير وتسهيل أداء دورها الأساسي في تقديم الرعاية الصحية.

والطريف في تلك "المبادرة الرئاسية"، هو أنها شملت برنامجا للعد الإلكتروني لجميع حالات نفقة الدولة التالية، ودمجها تحت مسمى قوائم الانتظار، لتصل حاليا إلى مئات الآلاف من المرضى، في إحصائيات هزلية بعيدة كل البعد عن مفهوم قوائم الانتظار التي انتهت فعليا عام 2018.

ثم جاءت موافقة البرلمان على القانون الجديد بإنشاء صندوق الطوارئ الطبية ليرفع عن كاهل الدولة مسؤولية تمويل "قوائم الانتظار"، ليصبح التمويل ذاتيا، أو بتعبير أدق يصبح من جيوب المواطنين.

استدامة الخدمة الصحية تعني زيادة الإنفاق الحكومي

من المعروف عالميا أن الإنفاق الحكومي على الصحة هو المؤشر الأساسي الذي يتم به تقييم خدمات الرعاية الصحية في أية دولة، لأن الإنفاق الحكومي ووضع مخصصات مالية واضحة في موازنة الدولة، هو الضمان لاستمرارية الخدمة الصحية للمواطنين وديمومتها. وبناء عليه، فقد قامت منظمة الصحة العالمية بالإعلان عن وضع مصر والعراق ضمن أسوأ عشرين دولة على مستوى العالم في تقديم خدمات الرعاية الصحية، حسب "مؤشر الرفاة العالمي لعام 2019". وكان السبب الأول والأخطر هو ضعف الإنفاق الحكومي على الصحة ضمن عدة مؤشرات أخرى، مثل انتشار مرض السكري، وأمراض الاكتئاب، والتدخين، وانخفاض مؤشر السعادة وغيرها.
قامت منظمة الصحة العالمية بالإعلان عن وضع مصر والعراق ضمن أسوأ عشرين دولة على مستوى العالم في تقديم خدمات الرعاية الصحية، حسب "مؤشر الرفاة العالمي لعام 2019". وكان السبب الأول والأخطر هو ضعف الإنفاق الحكومي على الصحة ضمن عدة مؤشرات أخرى

وكانت منظمة الصحة العالمية قد أعلنت أن موازنة الصحة يجب أن تكون في حدود 9.1 في المائة من الناتج المحلي لأية دولة، حتى يتم ضمان جودة تقديم الرعاية الصحية، وبناء عليه فقد ورد في مادة 18 من دستور 2014 في مصر، أن موازنة الصحة تبدأ وقتها من 3 في المائة، وتزيد سنويا حتى تصل إلى المعدل العالمي. ولكن ما حدث هو العكس تماما؛ فموازنة الصحة في مصر تتراجع سنويا، لتصل في العام المالي الحالي (20/2021) إلى نسبة 1.2 في المائة فقط من الناتج المحلي لمصر، وإن كانت توجد زيادات ظاهرية في أرقام مبالغ المخصصات المالية للصحة. ولكن ما يعنينا هنا هو النسبة المئوية إلى الناتج المحلي، وليس مجرد ذكر أرقام ظاهرية خادعة.

وأخيرا، جاء قانون إنشاء صندوق الطوارئ الطبية، وفيه تقوم الحكومة المصرية بالاعتماد على صندوق الطوارئ الطبية لتغطية بند مهم من قانون التأمين الصحي الجديد. وكانت الحكومة قد أعلنت من قبل عن إصدار قانون إنشاء صندوق مخاطر المهن الطبية بتمويل ذاتي أيضا (من أجور أعضاء الأطقم الطبية)؛ للصرف منه على شهداء وباء كورونا وغيره.

ومن ثم فقد أعلنت الدولة المصرية بكل وضوح عن تخليها التام عن توفير مخصصات مالية لموازنة الصحة، سواء للصرف منها على الخدمات الصحية ورعاية المرضى، أو لتوفير المستحقات المالية للأيتام من أسر شهداء كورونا.