كتاب عربي 21

فلسطين ليست عربية

1300x600

يسود الأرض المحتلّة هدوء حذر بعد الهدنة المعلنة بين المقاومة الفلسطينية والكيان المحتلّ. كان الانفجار منتظرا بعد تسارع موجات التهجير ومصادرة الأراضي وتهويد القدس والاعتداء على الفلسطينيين وعلى ممتلكاتهم، لكنّ السياق الإقليمي الذي جاء فيه الانفجار لم يكن منتظرا.

تميّز السياق الاقليمي الجديد بتسارع موجة التطبيع بين الأنظمة العربية من جهة وبين نظام دولة الكيان من جهة أخرى، كما اتّسم بمحاولات حثيثة لتمرير صفقة القرن والاعتراف الرسمي العربي بدولة الاحتلال. لكنّ أهم المعطيات الجديدة في ملف القضية العربية الأكبر هو وقوعها في مسار الثورات وتداعياتها وهو ما يمنحها دلالة جديدة لم تكن لتُدركها سابقا. 

فلسطين أولاً

منذ احتلال الأرض وإقامة دولة الكيان في 1948 ظلّت القضية نقطة موحِّدة للشارع العربي ولنخبه على السواء وشكّلت لأكثر من نصف قرن ركيزة أساسية في الخطاب السياسي والجماهيرى. لم تكتسب قضية العرب المركزية هذا الزخم من كونها قضية تحرر وطني بل اكتسبتها من ارتباطها بالمقدسات الإسلامية وكونها تحوي أولى القبلتين ممثلة في المسجد الأقصى المبارك. 

بقيت فلسطينُ الأرضَ المحتلة الوحيدة من بين القطع العربية بعد أن منحت بريطانيا اليهود أرضا لا يملكونها ولا تملكها. استقلت دول عربية كثيرة ـ أو هكذا خُيّل لنا ـ وبقيت فلسطين التي جاءها الغزاة في نفس اللحظة التي تحررت فيها بقية الأقطار مُحتلّة فشكّلت بهذا الوضع استثناء عربيا اكتسب مع الزمن دلالات متباينة كانت شاهدة على تحولات الوعي العربي بخصوص مقولات المقاومة والاحتلال والاستقلال.

 

ليست المظاهرات التي عمّت عواصم الدول الإسلامية بعد الحرب الأخيرة على غزة إلا دليلا حيا على الوعي الإسلامي المتصاعد بتجذر القضية الفلسطينية في كيانه العقائدي وفي مطلبه بتحرير المقدسات.

 



كانت منظمة التحرير وحركة "فتح" في بدايتها نواة ثورية مقاوِمة حققت اختراقات كبيرة في جبهة العدوّ لكنها لم تنجح في إيقاف الاستيطان والتهويد ووضع حدّ لمجازر العصابات الغازية. في مرحلة موالية انتكست حركة التحرير وتمّ اختراقها حتى وصل بها الأمر اليوم إلى أن تحولت ذراعا أمنية خادمة لجيش الاحتلال. إن مشهد قوات السلطة وهم يعتدون على المتظاهرين الفلسطينيين في الضفة نصرة للعدو الصهيوني يُعتبر المؤشر الأبرز على مآلات حركة التحرير بعد ملفات الفساد الثقيلة التي ارتبطت بها.

في هذه المرحلة الدقيقة من عمر القضية الفلسطينية خرجت للعلن حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وقد عرفت أوج عملها مع الشهيدين الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، فغيرت معادلة العلاقة بين الأرض والمحتلّ. كان خيار المقاومة المسلحة نقطة فاصلة في تاريخ المنطقة لا في تاريخ فلسطين فحسب لأنها قطعت نهائيا مع خيار المفاوضات والسلام المكذوب اللذين مثلا غطاء للاستيطان ونهب الأرض. 

فلسطين ليست عربية

لسائل أن يسأل: ماذا حقق العرب للقضية الفلسطينية منذ 1948 وخاصة أنظمة الدول العربية بما فيها جامعة الدول؟ ماذا ربحت القضية منذ أن استأثر بها النظام الرسمي العربي وأدخلها في نفق المفاوضات والتنازلات؟ ماذا قدمت الجيوش العربية للقضية الفلسطينية في الحروب التي خاضتها غير الهزيمة وراء الهزيمة؟ لماذا مُنعت الدول الاسلامية الأخرى من التحدث باسم فلسطين وفيها المسجد الأقصى ومسرى رسول الله الذي يخص المسلمين في كل بقاع الأرض؟

بل إنّ كثيرا من الأصوات اليوم ترى فيها قضية فلسطينية صرفة لا يحق لغير الفلسطيني التحدّث باسمها. فماذا حدث؟ لا شك أن المشروع الاستيطاني في قلب البلاد العربية ليس إلا جزءا من مشروع أكبر يحاول اختراق الأمة ومنعها من النهوض عبر مخططات التفتيت المختلفة. فمن قضية إسلامية إلى قضية عربية ثم قضية شرق أوسطية وصولا إلى قضية تخص دول الطوق لتنتهي قضية فلسطينية فلسطينية.

 

تتجه القضية الفلسطينية إلى المحافظة على طابعها العالمي باعتبارها آخر قضايا التحرر الوطني التي يحاول عبرها شعب شتات الاستيلاء على أرض غيره وتهجيرهم منها بحجج توراتية وخرافات تاريخية لا أساس لها من الصحة.

 



لا يخفى مشروع اختزال القضية الفلسطينية في أصغر مكوناتها الجغرافية والديمغرافية على أحد اليوم، بل إنه تحوّل إلى صراع بين دولة الكيان وقطاع غزة فقط، بل هو صراع بين حركة "حماس" وجيش الاحتلال. إن تصغير دوائر الصراع وجوهر المعركة التي هي في الأصل معركة عقائدية ليس إلا مؤشرا على الاختراق الكبير الذي حققه العدوّ بمساعدة النظام الرسمي العربي.
 
انطلاقا من هذا التشخيص يكون لزاما على الوعي المُقاوِم أن يعيد رسم الدوائر حول القضية الأمّ باعتبارها قضية إسلامية قبل كل شيء. وهو الأمر الذي يحقق لها زخما عالميا ويُخرجها من نفق المزايدات العربية التي تُوّجت بمسار التطبيع وبصفقة القرن. وليست المظاهرات التي عمّت عواصم الدول الإسلامية بعد الحرب الأخيرة على غزة إلا دليلا حيا على الوعي الإسلامي المتصاعد بتجذر القضية الفلسطينية في كيانه العقائدي وفي مطلبه بتحرير المقدسات.
 
على جبهة أخرى تتجه القضية الفلسطينية إلى المحافظة على طابعها العالمي باعتبارها آخر قضايا التحرر الوطني التي يحاول عبرها شعب شتات الاستيلاء على أرض غيره وتهجيرهم منها بحجج توراتية وخرافات تاريخية لا أساس لها من الصحة. فقد شكّل التعاطف الدولي مع حركة المقاومة الفلسطينية إسنادا كبيرا لشعب فلسطين ساهم بشكل فعال في فكّ العزلة التي يحاول الكيان المحتل فرضها عليه.
 
كشفت الحرب الأخيرة على القطاع تواطؤ منصات التواصل الاجتماعي وعلى رأسها موقع فيسبوك مع دولة الكيان عبر التضييق على المحتوى المناصر للقضية الفلسطينية. كما أنّ تعاطف عدد من المشاهير مع معاناة أهل غزة وتنديدهم بتوحش القصف الصهيوني قد تسبب في ضرر بالغ للصورة الوردية وصورة الضحية التي يريد الكيان المحتل ترويجها عالميا وترسيخها دوليا.
 
فلسطين اليوم قضية إسلامية ببعد دولي، فهي تستبطن الصراع العقائدي بين أهل الأرض والمقدسات وبين قطاع الطرق من المستوطنين القادمين من وراء البحار، وهي كذلك قضية عالمية يتحرك لها كل وجدان رافض للظلم مطالب بالحرية لكل شعوب الأرض. هذان البعدان وحدهما كفيلان بتحرير الأرض من الغزاة وتحرير القضية من كل السماسرة والتجار وعلى رأسهم نظام الوكالة الاستعمارية العربي.