كتاب عربي 21

المسجد الأقصى: والركب أسفل منكم

1300x600

أصيب ما يزيد عن 300 مرابط صوناً للأقصى، وجُرحوا دفاعاً عن الشيخ جرّاح الذي ذاد قديماً عن القدس، وجاء أوان ردّ الأبناء الدَّين للآباء، فسبقوا مليون شهيد سوري قضوا تحت البراميل وفي المعتقلات، وسبقوا أربعة آلاف شهيد مصري قضوا في رابعة، وسبقوا مائة ألف معتقل مصري، وتسنّموا مشهد الإعلام العالمي، ودفعوا البيت الأبيض إلى الإعلان عن الشعور بالقلق من طرد فلسطينيين من منازلهم. وقد تحوّل الشعور بالقلق إلى وباء مثل وباء كورونا، أصيب به كل رؤساء العالم البواسل.

وصواب الخبر أن الشعور بالقلق ألمَّ بهم من إخفاقهم في تهجير الفلسطينيين من ديارهم.

فما السبب في سبق مصابي القدس على مصابي أخواتها المنكوبة، دمشق والقاهرة وسواهما؟ وهم عند الله سواء، لا يضيع عنده مثقال ذرة من خير أو شر، وسوى ذلك رأينا بيوتاً في الشيخ جراح تسبق نهر النيل الذي يؤسر وراء سدِّ إثيوبيا، وقطرة دم في بيت المقدس أثمن من نهر من الدماء في غيرها، بل إنَّ منازل في القدس سبقت أوطاناً منهوبة مثل سوريا..

السبب الأول: هو أنها بقعة مباركة، وآية من آيات الله، وهي في الترتيب بين المقدسات الإسلامية حائرة بين المرتبة الأولى الذهبية، فهي أولى القبلتين، والمرتبة الثالثة الفضية، فهي ثالث الحرمين. ومن أوليات القدس أنها معراج النبي عليه الصلاة والسلام، فكأنَّ مكة هي مهبط الوحي بالملائكة من السماء، والقدس هي مصعد الأنبياء إلى السماء. فمكة هي محطة "اللاندنيغ" والقدس هي محطة "الديبارتر". ولباب القول: إنّ القدس بأقصاها هي صبغة الإنعاش، وكسوة العمرة الجهادية، ونفحة الإحياء السياسي، ورعشة البعث النفسي عند المسلمين. فكأن صيغة المعادلة بين القبلتين: إن للبيت المكّي ربّاً يحميه، أما حماية بيت المقدس فهي منوطة بأهلها.

وكان من سوء حظ إسرائيل، وهي كيان مسعود وفي عنقه تميمة نووية تقيه شرَّ العين، أنَّ العاشر من أيار/ مايو، وهو اليوم الذي تحتفل به وتتهيأ لاحتلال القدس كلها، وإجلاء أهلها منها بإلحاد بظلم، صادف في ليلة القدر التي تنزل فيها الملائكة والروح، ويصعد فيها البشر والروح أيضاً. ولم يسعفها دهاؤها في الادّعاء بأن المعتكفين يخزنون سلاحاً كيماوياً في الأقصى، ودفعهم غرورهم إلى اقتحام المسجد عتوّاً وطغياناً وكفراً.

والواقع أن المسلمين واليهود في مباراة دينية، وهم يتسابقون إلى الميعاد، لليهود موعد في كتابهم، وللمسلمين موعد في قرآنهم، واليهود يستعجلون الميعاد تغرّهم قوتهم، وقد تكاثرت علامات الميعاد الكبير التي نسميها علامات الساعة. ويمكن أن نستأنس بالآية الكريمة التي جاءت في بدر: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد". فهناك بدر الثانية والثالثة، ولعل بدر الرابعة قادمة.

هناك ثمة ملاحظة أنَّ العدو المحتل عاجز عن التفريط في البطش أسوة بالنظم والمصفوفات العربية، قتلاً وذبحاً على رؤوس الأشهاد، فهو من صنائع الغرب الاستعماري، والقدوة الصالحة للشرق المستبد، وهو للعرض فقط، وممنوع اللمس، ولا يستطيع أن يغالي في القتل والذبح، ويتجنب أن يقدّم عروضاً في القتل، كما يفعل الأسد والسيسي إلا بحدود، فنحن عند الصفر الاستعماري، والمذكوران تحت الصفر بكثير، لذلك رأينا هذه المشاهد:

المرابطون في القدس يبتسمون، وهم يعتقلون، وكأنهم في فيلم سينمائي.

ورأينا طفلة تسأل والدها عن لعبتها وهو يعتقل.

ورأينا مرابطاً ينزل إلى الشرطة المدجّجة بالسلاح لدى الباب كجلمود صخر حطه السيل من عل.

ورأينا صوراً ملحمية في أكناف بيت المقدس لأطفال يعرجون نحو القدس حبواً.

ورأينا أمهات في الستين من العمر يقطعون أكباد الإبل إلى القدس مشياً على الأقدام، بعد أن منعت السيارات.

ورأينا عشرين جندياً إسرائيلياً يجتمعون على سيدة مقدسية هيفاء، لإخراجها من بيتها، وكأننا نرى لوحة الثالث من مايو لغويا باللحم والدم.

ورأينا معتكفين في الأقصى، وقد أعدّوا لمائدة الإفطار وليمة من الحجارة، يدافعون بها عن أنفسهم، فشهدنا عرضاً مسرحياً عجيباً، وشريفاً، وعظيماً، ذكّر بعرض المصريين في ساحة التحرير قبل عشرة سنوات.

ورأينا عشرة جنود، صغار الحجم، مدججين بالسلاح، يحاولون زقَّ مرابط مقدسي طويل عملاق في سيارة الشرطة.

ورأينا مستوطناً يقول لسيدة مقدسية إنه إن لم يسرق بيتها (حتى "ستيل اللاتينية" مأخوذة من يسلُّ العربية)، فسيسرقه غيره، فهو يُسرق منها ومنه. والسيدة المقدسية تردّ عليه بلغة وسيطة بالإنكليزية وتقول: غير مسموح بالسرقة "يا عمي".

ورأينا أو سمعنا عن سيدة مقدسية رفضت بيع بيتها مقابل 200 مليون دولار، فمثل هذا البيت لا يباع بمال الأرض، إذا باعته تخسر بيتها مرتين، مرّة في جنة الأرض، ومرّة في جنة السماء.

ورأينا تحوّل المسجد الأقصى الأسير والمحاصر إلى أعظم لوحة للإعلان والتسويق السياسي، فتسابق مرابطون إلى التذكير بالثورة السورية المنسية برفع علمها، كأنَّ ظهور كلمة أو شعار أو رمز في القدس يجعله صواباً وحقاً، ويمنحه البركة، فكثرت أعلام الثورة السورية، وتسللت إلى ساحة الأقصى صورة لسيدة متلفعة بالكوفية الفلسطينية تقبّل صورة قاسم سليمان على خده، قبلة وجد وهيام، للنكاية.

والسبب الثاني في سبق القدس أخواتها، وقد سبقتهم في الزمن والموعد، هو أنه لا يمكن وصف المباراة بأنها حرب أهلية، كما صُوّرت في سوريا أو في مصر.

والسبب الثالث أن إسرائيل المدللة، هي آخر العنقود الغربي الاستيطاني، وأن القدس عود العنقود الإسلامي والعربي، فصارت القدس أعلى من قمة أفرست، وهي عند المسلمين أعلى، فكأن القدس تقول لأختها الكبرى مكة: "مكة للعبادة والقدس للقيادة".

إنّ شعار "أنقذوا الشيخ جراح" شعار فيه نظر، والصواب أنَّ الشيخ جراح هو الذي ينقذنا، وأنه قد تبيّن لنا أنَّ الأئمة من الأقصى بعد أن كانوا من قريش، وأنَّ الشيخ جراح جعل إعلام عواصم التطبيع العربي يتحدث عن كيفية ولادة أنثى الثعلب ويعيد صناعة الكلمات المتقاطعة بعد أن انقرضت، ونزع قناع البلاغة عن الرئيس التونسي، وأصاب إخوته بالبكم والخرس، وجعلنا نسمع بكاء القطط التي أكلت ألسنة شيوخ السلفية، مثل برهامي والجفري والشيخ حسان، وهي تعاني من وجع عسر الهضم.

twitter.com/OmarImaromar