كتاب عربي 21

جمهورية كربونات الصوديوم

1300x600
كتبتُ قصصاً مترجمة، ووضعتها على كبار الكتاب في العالم، ونسبت قصصاً لبورخيس وماركيز و"شتاين بك" وهمنغواي بك. وكان الهوى التركي في قصص عزيز نسين قريباً من الهوى السوري، فقد كانت سوريا ولاية من السلطنة العليّة. وعزيز نسين معلم في مضماره، فانتشرتْ كتبه كثيراً في سوريا، حتى أقبلت عليه دور النشر كأنه معارض سوري، فترجم له بغاث المترجمين وصقورهم، ومثل ياسر العظمة كثيرا من قصصه، فهي قصص وقعت في تركيا المتخلفة وليست في سوريا المتحضّرة. وقد نسبتُ له هذه القصة في خدعة سردية خائبة، فالتزوير فيها منكر وظاهر، والقصة تظهر سخرية من تتريك قصة من غير اتقان قصدا، وتبشّر بإرهاصات الثورة أو بضرورة وقوعها، وهي قصة من قصص السيرة الذاتية، وجدتها بين أوراقي الالكترونية.

القصة:

رنّ الهاتف، فأخرجته من جيبي، ونظرت إلى لوحته فوجدت رقماً ذهبيا منكرا، ثم سمعت صوتاً رصاصيا أنكر من الرقم، عرّف بنفسه، إنه أبو علي، وأبلغني بأن فرع السياسية يدعوني إلى زيارته. كان يجهد في التلطف والتنكر والخداع، فصمتُّ غاضباً، واحتقن الدم في قلبي، وسألته عن عنوان الفرع، فالأمن شبكة كثيرة الفروع مثل الشجرة الملعونة في القرآن، وكنت أعرف العنوان لكني تغافلت، فدلّني، فهممت أن أغضب وأقول: ليس عندي أجرة سيارة تاكسي، ثم سكنت وارعويت، فلن يُجدي غضب المرء من دولة قاهرة، وكنت أريد القول: إني أريد أن أوفر أجرة سيارة الأجرة، لكني صمتُّ. أخبرني بالموعد، ومنذ ذلك الهاتف قررت ألاّ أحمل في جيبي الهاتف الخلوي الذي صار مثل العقرب.

وقصدت الفرع في اليوم التالي، وصلت.. أسوار وجدران نُصبت في الشارع العام فقضمتْ نصفه، أمام باب السور عنصر بوجه جامد هو عسكري مجنّد غالباً. بلغت غرفة الاستعلامات، حجز العنصر هويتي، ثم قادني عنصر آخر إلى الداخل مخفوراً وهو يمسكني من يدي. هممت أن أقول له إنني قد جئت إليهم بدمي ودموعي وابتسامتي، فلن أهرب، لكني آثرت السلامة. انتظرت في غرفة مظلمة جرداء سبع ساعات، ثم قيل لي أن أعود غداً، حتى أمضيت أربعة أيام حسوما، وحتى ظنني الجاهل الجار موظفاً في الأمن، وتلك طريقة معروفة لنقع عظام المواطن كما يفعل باعة الفول، ينقعون فولهم قبل يوم في الماء، ويضيفون إليه كربونات الصوديوم.

مثلتُ أخيراً بين يدي بائع الفول، وأنا لا أعرف هل سيغمرني بالحمض، أم يغمسني بالطحينة، أم يرشني بكربونات الصوديوم. اقتادني عنصر من يدي، فأوقفني بين يدي رئيس الفرع، كانت الغرفة مطرَّزة بصورة سيادة الرئيس التركي، وصور أخيه وأبيه، قال لي غاضباً: قدّم نفسك، فقدّمتُ نفسي، مع أنه هو الذي أرسل إلي، وكان ملفي بين يديه، لكن هذه الطريقة المعتادة، فعرفت بنفسي من غير تحية عسكرية، سأل متوعدا: ماذا تقصد بالكلاب في قصتك هذه؟

تجاهلت نباح الكلاب وسألت: أي قصة؟

فنهاني غاضباً عن الخداع والمحايلة، فليس عنده وقت، طائرته ستحلق، وقال: قصتك المنشورة في صحيفة "كريكو". كنت كتبت قصة عن كلاب درّبها سيدها على أمر، واستجدّت أمور، فأراد أن يدرّبها على أمر آخر فلم تستجب له، فأصبح أسيراً لكلابه.

قلت: الكلاب كلاب، ليست سوى كلاب.

قال: أنت تقصد أمراً آخر؟

قلت: لا أعرف، أكتب قصتي، وأترك للقارئ والناقد تفسيرها وبيانها.

قال: أنا مثقف وأفهم رموزك السياسية.

غيرتُ الموضوع وقلت: سيّدي هل أستطيع أن أكتب عن الذئاب؟

قال: أنا لست قرصاً مدمجاً حتى تقول "سي دي"، قل سيّدي، ممنوع الكتابة عن الذئاب والكلاب والثعالب.

قلت: هل يمكن الكتابة عن الحمير؟

قال: ممنوع الكتابة عن الحيوانات كلها.

قلت: سي دي (ثم تذكرت أنه ليس قرصاً مدمجاً، فصححت وقلت سيّدي) كيف تكون الكتابة ممنوعة عن البشر وعن الحيوان؟ أنت تخالف الشعار المكتوب وراء ظهركم والذي يقول: لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير، وقلت في سرّي: الحمير.

قال: إن هذا ليس لأمثالي من الذين لا يقدّرون الحرية.

ونادى العنصر، فجاء، وأمره بأن أكتب تعهداً بما أقررت به، فوقعت معاهدة لوزان في الغرفة المجاورة، ووقعت عليه وانتظرت، ثم أعادوا لي هويتي وحريتي وكرامتي، كما في الأغنية التركية الشهيرة التي تغنيها نجاح سلام التركية ومحمد سلمان التركي، وخرجت.

بعد أيام نُشرت لي قصة رمزية في صحيفة "أم علي وادعبلي" الساخرة، وكنت قد صبأت عن دين الهاتف النقال، وعدت إلى دين الفطرة. جاء علي يلدرم التركي إلى بيتي، ففتحت الباب، قال باحترام مغشوش إن فرع السياسية يريد أن أتشرف بزيارته غداً، فهززت رأسي موافقا ولم أدعه للدخول. قصدت الفرع مرة ثانية في اليوم التالي، وأدّيت مناسك الحج نفسها، ومثلت أخيراً بيد يدي رئيس الفرع الغاضب مثل الديك الرومي فصرخ: ما هذه؟

كان يحمل صحيفة بيده وقذفها في وجهي. ما الذي جعله يغضب، فالصحيفة الساخرة وطنية واسمها وطنيٌ وهو "جق ماق"؟

قلت: سي دي (وتذكرت أنه ليس قرصاً مدمجاً) عفواً سيّدي، هذه قصة مكتوبة عن الحشرات وبطلتها أم أربعة أربعين ضلت طريقها فوقعت في شبكة عنكبوت، فجعلت تأكل سيقانها ساقاً ساقاً، حتى صارت من الزواحف ثم أكلتها وأكلت زوجها وأكلت أولادها وبناتها، فالملك عقيم (والبلاد في أيد أمينة).

قال: لا تكتب بعد الآن عن الحشرات، ولا عن الصراصير ولا الجراد ولا النمل ولا القمل.

وأمر العنصر بأن أكتب تعهداً بما أقررت به، ففعلت ووقعت معاهدة كوتاهيا خشية أن ترفع الصراصير قضية ضدي في محكمة أمن الدولة، وعدت إلى بيتي وأنا أغني: تركيا يا حبيبتي أعدت لي هويتي، أعدت لي حريتي، أعدت لي كرامتي، ترن ترن ترن.

خرجت ولم أتنفس الصعداء، لأن الحياة ضاقت عليَّ كثيراً حتى آلمتني أصابع قدمي، وفكرت في الهروب من البلد، لكن لم يكن عندي جواز سفر، وفكرت في الأولاد وزوجتي التي تعتمد عليَّ في كل شؤون الحياة.. الخبز والغاز وفواتير الهاتف والحب، وكنت أخاف مثل الطفل الذي يخشى الابتعاد عن شارع بيته. وبعد أيام وجدت عنصر الأمن علي يلدرم أمام الباب، لقد أصبحنا أصدقاء، وجاء يزورني، ومعه دعوة لزيارة فرع السياسية، فقلت له إني سأفعل وهممت بأن أخبط الباب بشدة هذه المرة بعد أن مضى، لكن لا يستطيع المرء أن يغضب من دولة، ومثلت أمام رئيس الفرع، فرمى جريدة "علي بابا" ، وهي صحيفة وطنية ساخرة بدليل اسمها الوطني؛ في وجهي وقال: ما هذا؟

قلت: سي دي، عفواً سيّدي (بتشديد الياء فهو ليس قرصاً مدمجاً) هذه ليست عن الحيوانات ولا عن الطيور ولا عن الحشرات، هذه قصة عن صراع بعض المعادن حول بعض الشاردات الحسناوات في جدول ماندليف للعناصر وكيف تتفاعل المعادن مع بعضها وتتصارع. وفي القصة تنتزع ذرة الأوكسجين الحلوة الكترونات الحب من قلب مدارات الحديد الصلب الخارجية، حتى حوّلت ذرة الأكسجين الحديد إلى تراب من الحب والعشق، بوساطة دولية من بعض الأملاح المعدنية، مهدت له، وجمعت له المهر حتى عقد عليها الحديد وبنى بها. إنها قصة عاطفية بين معدنين سي دي، عفواً سيّدي.

قال: أوكسجين!! أنت تريد أن توهن الشعور القومي التركي وأن تضعف نفسية الأمة التركية. لا يمكن لذرة أوكسجين أن تتعرض للحديد الصامد في وجه الأطماع، الحديد هو الحديد.

قلت: أي أمة يا سي دي، عفواً يا سيّدي؟ أنا أتحدث عن المعادن وأحاول توطيد أواصر الوحدة الوطنية والأخوية بينها. وقلت في سرّي: لا فرق بين الذهب والرصاص إلا بالتكافؤ في الفرص.. الذهب يذهب إلى صدور زوجاتكم والرصاص إلى صدورنا.

فأمر العنصر المعدني أن يأخذني من جدول ماندلييف في الطبقة العليا إلى غرفة الفئران، فمكثت أربعة أيام، محجورا علي من الصبح إلى نهاية الدوام الرسمي، لا نور ولا طعام ولا شراب، سوى همس الفئران. أدركت أنهم لا يريدون اعتقالي خوفاً من أن يظهر اسمي في خبر عاجل في الجزيرة التركية وأصير مشهوراً، فهم صناع نجوم السينما والتلفزيون والكتابة وشرف المعارضة. لن يمنحني شرف أن يختال اسمي على سجادة حمراء في أسفل الأخبار.

عدت بعد فترة وسلكت نفس الطريق، ووقفت أمام رئيس الفرع، هذه المرة انتعل شحاطته، ووقف وتوجه إليَّ وأمسك بتلابيبي، ثم لكمني ورفسني بين فخذي، فانكفأت على نفسي من الألم، قلت: سيّدي أنا أعيش من الكتابة، لا بد أن أكتب شيئاً. قال لي: لا تكتب عن الحيوانات ولا الحشرات ولا المعادن. قلت: سيّدي هل تسمحون لي أن أكتب عن الكواكب والنجوم في السماء، قال: ممنوع. خاف أن أبيع كوكب المشتري، أو أن أزحل كوكب زحل فيسقط على كوكب عطارد.

أمرني أن أكتب عن الورد والرياحين والإنجازات والأمن والاستقرار، ثم اقترح أن أكتب إنجازات السيد الرئيس التركي، ثم أشفق علي، فإنجازات الرئيس معروفة كلها، بأن أكتب عن مسلسل باب الحارة التركية، قلت: موافق، قال لي هذه آخر فرصة لك، المرة القادمة سأرسلك في طرد إلى تدمر.

فخرجت وكتبت مقالاً عن أبي عصام التركي، ولم أترك شعرة في شاربه المزّيف إلا ونتفتها، وعن أبي النار التركي، وقلت إنهما كاذبان وتخيلت قصة عن أبي عصام وأخرى عن أبي النار وهما يتآخيان ويقرران إجراء انتخابات كالتي جرت في سقيفة بني ساعدة، حضر فيها الوجهاء، واختاروا فتوّة باب الحارة.

ثم سقطت الرموز كلها وفاضت الحرية إلى حدِّ القتل في الشوارع، عندما هتف فتى لله دره: الشعب التركي ما بينذل. واندلعت الثورة، ونزحت من بركة كربونات الصوديوم، وكففت عن الكتابة باسم مستعار، والكتابة بأقلام الكتّاب العجم، ونبتَ لي ريش، وأنا أحاول تعلم لغة جديدة، وأتلعثم مثل الطفل باللغة الجدية في المنفى، وأهمُّ بالطيران مثل عباس بن فرناس، وإن لم أنجح سأكتب عن الحمير والبغال وصراع المعادن في جدول مندلييف للعناصر.

twitter.com/OmarImaromar