قضايا وآراء

روسيا وأوكرانيا.. إنها لغة الأعماق

1300x600
تحوي حالة التوتر بين روسيا أوكرانيا الكثير من الاستراتيجيات الكبرى والعميقة، حيث الثورة والثورة المضادة، والدين، والدولة، والثقافة، والأيديولوجية، والديكتاتورية، والمؤامرة، والجغرافيا، والتاريخ، والأمن، والقومية، والمصالح، والنفوذ، والفساد.. الخ، حين أعلنت أوكرانيا استقلالها عن الاتحاد السوفييتي عام 1991م، وقت الأحداث الكبرى في أوروبا الشرقية. لم تستطع روسيا وقتها مواجهة هذا التحول الخطير في إحدى بواباتها الرئيسية الثلاث (وسط آسيا والقوقاز وأوكرانيا)، ولنا أن نعلم أن كييف عاصمة أوكرانيا هي أول موطن للقومية الروسية وليست موسكو، كما أن أوكرانيا هي المهد الأول للمسيحية الأرثوذكسية في القرن العاشر الميلادي، كما أن أوكرانيا كانت بوابة نابليون وهتلر إلى روسيا. أوكرانيا هي أكبر الدول الأوروبية مساحة وسكانا خارج الاتحاد الأوروبي وخارج الناتو (يقرب من 700 ألف كم و52 مليون نسمة).

من 1991م وحتى الآن، تعاقب على حكم أوكرانيا ستة رؤساء وسط حالة من الغليان الداخلي وذاك والصراع التقليدي، بين الجديد الذي لم يتشكل بعد والقديم الذي يتشبث بأطلال حنينه ومصالحه، وحالة من الترقب الخارجي، بين روسيا التي فقدت درة تاج الاتحاد القديم وأوروبا التي تفتح كلتا ذراعيها لـ"حبيب الضرورة"، سواء كانت أوروبا الناتو أم أوروبا الاتحاد والسوق والمصالح وما إلى ذلك وكل ذلك. لكن نقطة ضعف الحالة الأوكرانية الحقيقة والفعلية والتي ستظل بالفعل "مسمار عمنا جحا"؛ هي أن 18 في المئة من الأوكرانيين ينتمون إلى العرق الروسي ويمثلون أغلبية في ثماني مقاطعات من أصل 24 مقاطعة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية صغيرة، وهو ما تستغله روسيا بقوة وأقدمت على خطوتها الأوسع عام 2014م بضم شبه جزيرة القرم بحجة حماية ذوي الأصول الروسية ودعمت الحركة الانفصالية في دونباس شرق البلاد.

وحتى الآن تخضع أجزاء من منطقتي لوجانسك ودونيتسك على طول الحدود الروسية لسيطرة المتمردين الموالين لموسكو. سبع سنوات من التقاتل المحسوب راح ضحيته ما يقرب من 13 ألف شخص وما زال، وحتى بعد الاتفاق على هدنة هشة في مينسك عام 2015م تشرف على "هشاشتها" فرنسا وألمانيا، تقول الولايات المتحدة إن روسيا حشدت في شرق أوكرانيا قوات أكثر مما حشدته عندما ضمت شبه جزيرة القرم، ودعمت انفصاليي دونباس منذ السنوات السبع الماضية.

 يبقى الجار التركي غير بعيد وغير مطمئن، فتركيا عضو الناتو - والمسؤولة أمامه عن تحجيم روسيا شمالا وجنوبا في البحر الأسود وسوريا - تتعاون وتتفاهم مع روسيا في سوريا وليبيا وأرمينيا، ولا ننسى بالطبع الدفاع والطاقة، كما أن لها مسلمين تعود جذورهم العرقيه إليها في القرم وتزيد نسبتهم عن 12 في المئة من سكانها. لكنها واستنادا للقوانين والاتفاقيات الدولية انتقدت ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014م وأيدت وحدة أراضي أوكرانيا التاريخية، كما باعت طائرات البيراقدار المسيرة (التي حسمت كثير من المعارك في ليبيا وسوريا وشمال العراق) لأوكرانيا. روسيا بدورها لم تتأخر في الرد على ذلك فصعّدت بدورها في إدلب، ومنعت سفر السياح الروس إلى تركيا بحجة كورونا.

حكيم الأناضول دعا من إسطنبول السبت الماضي (10 نيسان/ أبريل) وهو يقف إلى جوار الرئيس الأوكراني زيلينسكي (القادم من الأصول اليهودية وعوالم السينما والتمثيل) دعا إلى وقف التوترات المتزايدة في دونباس، وقال لضيفه: إن تركيا مستعدة لتقديم أي دعم ضروري. قبلها بيوم واحد (الجمعة) كان على الهاتف مع صديقه اللدود (بوتين) الذي اتهم أوكرانيا بارتكاب أعمال استفزازية خطيرة في دونباس. تركيا مثل الجار الحائر بين المالك والمستأجر، وموقفها دقيق للغاية وهو ما اختصره حكيم الأناضول بقوله للجميع: نريد من كلا البلدين حل خلافاتهما بأسرع وقت ممكن عبر المفاوضات وبسلام من أجل مستقبل سلمي وآمن لمنطقتنا، ونحن نعمل في هذا الاتجاه.

أوكرانيا تؤكد كل يوم أنها لا تزال تؤيد التوصل إلى حل دبلوماسي للصراع، لكنها صرحت على لسان قائد جيشها بأن الجيش مستعد لتقديم "رد كاف" في حالة التصعيد، وتحدثت بمزيج من التهديد والقلق عن هذا الحشد الضخم بالقرب من حدودها مع روسيا، والعنف اليومي على طول الخط الفاصل بين القوات الأوكرانية والانفصاليين المدعومين من روسيا في دونباس.

روسيا تريد أوكرانيا رمادية، لكن المصالح واستراتيجيات الصراع على تلك المصالح تحكمها قوانين بالغة التعقيد والتركيب والتداخل، والأكثر والأهم أن أغلب هذه القوانين موصول وصلا أليما بحبل التاريخ، وهو في الحالة الأوكرانية قد يكون أشد إيلاما.

التطور والتوتر الأخير في العلاقة الأمريكية الروسية موصول بأكثر من سبب بما يحدث في أوكرانيا، ولا يمكن النظر إلى توقيت وتزامن كل ذلك دون اعتبار الوقت والزمن وما يحمله من جديد. لدينا تغير هام في الإدارة الأمريكية، وهناك الملف المتخم بالتوترات بين أمريكا والصين وما يقابله من تناغم وتفاهم بين الأخيرة وروسيا. هناك أيضا تنامي العلاقات العسكرية بين تركيا وأوكرانيا بشكل مقلق، وهو ما تنظر إليه روسيا على أنه "تركيا الناتو" وليس تركيا الجار والشريك "المتحازع" هنا وهناك على ما يمكن تسويته.. و"متحازع!" حالة بين التحالف والتنازع، مثل حالة سعيد أبو النحس "المتشائل" صاحب الاختفاء والوقائع الغريبة التي حكاها لنا الروائي الفلسطيني الراحل إميل حبيبي (1922- 1996م).

لن تحدث حرب بين روسيا والناتو على شرفة أوكرانيا، كما ولن تقبل روسيا بأن تصبح حديقتها الخلفية مفتوحة على بساتين الناتو. سيزداد التوتر، سيتصاعد قليلا ويتخافض قليلا، ويعيش الجميع على ما يشغلهم ولو قليلا عن كوفيد-19، وتستمر الزيارات والتفاوضات، فلم يحن بعد وقت الاقتراب من الخرائط.

twitter.com/helhamamy