قضايا وآراء

الأسير منصور الشحاتيت في مفرمة السجّان وقناة العربية

1300x600
أزعم بداية أني مؤهل للحديث في هذا الموضوع الذي تلتقي فيه جريمة الاحتلال في العزل وجريمته في الإهمال الطبي المتعمد، ذلك أني دخلت معمعان هذه التجربة 14 سنة، شاهدت وعانيت وكتبت كثيرا عنها، منها مسرحية النفق (نصا وتمثيلا) التي طرحت موضوع العزل وكتاب مدفن الأحياء (نصا وفيلما)، وعاينت معتقلين مرّوا بالعزل طويلا، بل وأشرفت على من عانى نفسيا في فترة من فترات سجنه وتواصلت مع أطباء أشرفوا على العلاج.

فأن تأتي قناة "العربية" فتختزل كمّا هائل من المعطيات حول هذين الموضوعين: الإهمال الطبي المبرمج والعزل، بربط سخيف وهزيل وبائس، وتركيز ذلك بحدث مرّ به المعتقل، ولتصفح بذلك عن كم هائل من تراكم الجريمة المفتوحة لهندسة الموت في عملية صهر وقتل الروح، وعمليات التفريغ الهائلة من المحتوى القيمي والإنساني والوطني والنضالي. هذا يدلّل أن هذه القناة لا تسير بعقل عربي أو حتى إنساني أو عقل ذي علاقة بمهنية إعلامية حرة ونزيهة بأي حال من الأحوال. وقد بات هذا معروفا ولا يحتاج إلى دليل، حيث يُطلق الناس على هذه القناة اسما عكس ما أطلقته هي على نفسها.

ثاني الممارسات الخطيرة والتي تضرب روحنا الإنسانية والنضالية المشتبكة مع المحتل الذي يحاول دائما التنصل والهرب من صورته النازية المتوحشّة ورمي الكرة في ملعب الآخرين، وكذلك دون إدخال الحسابات الإنسانية للمعتقل نفسه وأهله، هي المبادرة بتسجيل فيديو والعبور من خلاله لما تخفيه الصدور.. هذه الصدور العمياء التي لا ترى أن أولوية هذا الأسير أن نذهب سريعا لخطة علاجية تعيده الى وضعه الطبيعي ثم بعد ذلك نصوّر وننشر.. تترك هذه المهمة الإنسانية وتذهب الى حالة الإثارة والتوظيف، وتغذية الأهداف الرخيصة التي تقوم بها هذه القناة وما شاكلها من ذوي الضمائر المغيّبة.

وهنا السؤال البديهي: من أعطاكم هذا الحق؟ هل أخذتم موافقة أهله؟ وهل هو بكامل وعيه (وأنتم تعلمون ذلك علم اليقين) ليعطيكم الحق في التصوير والنشر؟ وهل توثقتم من مصادر معلوماتكم التي ربطت الصورة بما هو مركوز في صدوركم؟ ولماذا تعفون السجّان؟ تعفون من سجن وعزل ومارس الإهمال الطبي المبرمج طيلة هذه الفترة الطويلة؟ ويا فرحة الاحتلال فيكم إذ تعفونه من كلّ جرائمه التي هي ديدنه المعروف والمثبت بشواهد حية كثيرة كضحايا له ولماكينة قهره وعذابه.

في سياق طبيعي وموضوعي ينصبّ الحديث في الموضوع حول جريمتين كل واحدة حجمها كبير وأكبر مما نتصوّر:

جريمة الإهمال الطبي المتعمّد، وجريمة العزل، واللتين يهندسون فيهما الموت أو أن يصبح المعتقل فاقد الأهلية النفسية والعقلية والنضالية ومفرغ من كل قيمه الوطنية والإنسانية والأخلاقية والروحية.. الخ، وهم يسلكون في ذلك وسائل يتفننون في أشكالها وأنواعها:

• مدة العزل لسنوات طويلة بعيدا عن حياة الأسرى التي في حدّ ذاتها عزل جماعي، ولكنهم يسوقونه من العزل الجماعي إلى الانفرادي. أذكر مثلا المعتقل أحمد شكري الذي مكث في العزل 17 سنة، والأسيرة عطاف عليان وإيمان نافع اللتين عزلتا أربع سنوات، وهذا رقم مهول لامرأة معتقلة على قضية سياسية. وقد ذكرت لي عطاف عليان أن لجنة من مصلحة السجون كانت تزورها في عزلها كل ستة شهور مرّة لفحص ما إذا كانت ما زالت بعقلها أم أنها قد جُنّت. أعداد كبيرة مكثوا سنوات طويلة وهي معزولة.

• ظروف المعزول ماكينة من العذاب، إذ أنه يعزل في زنزانة تحيطها زنازين فيها عتاولة الإجرام في مجتمعهم، وهؤلاء يقضون ليلهم في مسبات وصراخ وطرق على الأبواب؛ ما يشكل عذابا جديدا لمعزول على خلفية قضية وطنية وسياسية، عدا عن وضع المكان وبؤسه في مسافة ضيقة مخنوقة في زنزانة انفرادية ليس لها همّ إلا أن تبقيه على قيد الحياة.. لا تهوية ولا غذاء ولا وقت للساحة إلا بطريقة جهنمية تجعله يؤثر البقاء في زنزانته، حيث يتطلب أن يقيّد في يديه وقدميه وأن يكون وقتها غير معروف ومتنقل في ساعات النهار، وأن يخرج إلى ساحة ضيّقة لا يرى فيها السماء إلا مقطّعة بالحديد ولا يلتقي بأحد سوى ظلّه.

• سبب العزل جريمة بحدّ ذاته ودليل إضافي على ساديتهم المطلقة، إذ يدخل العقاب من منطلق تنكّرهم لكل الاتفاقات الدولية بخصوص الأسرى، فلا يكتفون بعقوبة السجن ليضيفوا إليها العزل.

• عدم الاكتراث بما يحدثه العزل من أمراض نفسية وعدم تقديم الرعاية الصحية والعلاج المناسب، بل بالعكس يُسخّرون كلّ أساليب تكثيف الضغط النفسي ليتفاقم المرض ويصل إلى مرحلة صعبة لا تحمد عقباها أبدا.. قد تتابعها العيادة غير المؤهلة بعيدا عن الطبيب المتخصّص، فتسخر من الحالة وتسرّب إشاعات في السجن بأنه يتمارض ليخفّف عنه العقاب.

• وبخصوص هندسة الموت في متابعة الأسرى المرضى، فقد تحدثت عنها كثيرا من خلال شواهد حيّة في كتاب مدفن الاأحياء، ورأيناها في فيلم يحمل نفس العنوان ويعرض قصة من تجري عليهم شركات الأوية تجاربها. والمريض يتلقى حبة الدواء والتي فيها الداء من ذات اليد التي تقمعه وتذيقه سوء العذاب، ورأينا كيف يدخل سليما ويخرج شهيدا بعد أن يمرّ في مسلسل إجرامهم. وقافلة شهداء الأسرى المرضى كثيرة ومستمرّة، وشهادة تلو الشهادة على جريمة المحتل المفتوحة منذ احتلاله هذا الديار إلى يومنا هذا.

فالاحتلال من "ساسه لراسه" هو من يتحمّل المسئولية الكاملة، وكلّ من يغض الطرف عنه فإنه يتنكّر لحقائق أوضح من الشمس رابعة النهار وشواهد شاهدها مئات الألوف من الأحرار الذين دخلوا السجون وعاينوا الأمر بأمّ أعينهم، منذ قام كيان هذا المحتلّ. وهذا أيضا لا يعني أن من في السجون ملائكة لا يخطئون، ولكن لا ينبغي أن نسلّط كلّ الضوء على أخطائنا (حالة حدوثها)، ولا نرى السبب والمسبّب ومن يضعنا في ماكينة عذابه دون أن يرحم منا أحدا.

أخيرا وليس آخرا، أسأل الله له العافية والشفاء التامّ بعد أن خرج من معامل صهرهم وقتلهم لروحه الإنسانية النبيلة.