كتاب عربي 21

الناسخ والمنسوخ في كلام السيسي!

1300x600
هل يمكن عند لحظة معينة أن يقصف الجنرال المصري سد النهضة؟!

هذا سؤال لم يعد لطرحه محل من الإعراب، بعد أن شاهد العالم كله الجنرال وقد تغيرت لغة خطابه لأول مرة، وفي احتفالية قال عنوانها إنها عالمية، حيث هدد من الاقتراب من حصة مصر، وبحسب قوله: "محدش يقدر ياخد نقطة من مياه مصر، واللي عاوز يجرب يجرب"، مهدداً بأن "رد فعلنا في حال المساس بها سيؤثر على المنطقة بالكامل".

وهو تصريح مغاير تماماً لخطابه السابق، وفي كل أمر مرتبط بالسياسة الخارجية، إلا في ما يتعلق بتركيا وقطر فيقول كلاماً فيه بعض الخشونة، لا سيما إذا كان الحديث عن الدولة الخليجية، لأنه يدرك أن أي تجاوز في حق الرئيس التركي قد يواجه بالمعاملة بالمثل، فملاية ستفرش في مواجهة الملاية المفروشة، وقد يجعله عبرة في خطاب عام، كما يفعل مع قادة الأحزاب الذين يقتربون منه!

وقد انسحب الخطاب الليّن في التعامل بموضوع سد النهضة على إعلامه، فلا أظن أن أحداً من أذرعه الإعلامية قد تجاوز في حق القيادة الإثيوبية كما يفعلون مع تركيا وقطر. ومع أن "الردح" معلوم من إعلام الانقلاب العسكري بالضرورة، وحتى عندما تغير خطابه فجأة، لم يجاره الإعلام في ذلك، وهذا يقودنا - والحال كذلك - إلى سؤال عن مدى جدية هذا التحول!

الخط الأحمر:

منذ بداية أزمة سد النهضة، والسيسي يبتعد تماماً عن التعامل بالحسم، فبدا الخطاب الأخير وقد نسخ ما قبله، وأن البلاد دخلت في طور مرحلة جديدة من التعاطي مع الأزمة، وعلى نحو كان له وقعه الخاص على الناس الذين أيدوا هذه الخطوة. والسيسي يقول إن مياه مصر خط أحمر، فلم يعرف المصريون من قبل هذا الخط بهذا اللون إلا في ما يختص بالشأن الليبي، وقد "ابتهج" أنصاره لذلك باعتباره، فقد أوقف أردوغان عند حده، وقد نسوا تماماً أن الجيش التركي هناك، وأن ليبيا كلها ينبغي أن تكون خطاً أحمر، وليس منطقة من مناطقها، ولكن ليس هذا هو الموضوع!

لقد احتشد أنصاره يؤيدون هذا التحول للدفاع عن مياه النيل، وهم أنفسهم من كانوا يأخذون علينا أننا ندعوه لذلك، ويسألون في بلاهة: لماذا يريد الإخوان أن يدفعوا بالقائد الضرورة إلى الحرب، إلا إذا كان بهدف هزيمته وكل خصوم زعيمهم المفدى هم من الإخوان؟ ولا ندري لماذا لم يضعوا احتمال النصر! فاتهم أن الحروب الخارجية هي دائماً الخيار المهم لأي ديكتاتور، لأنه بمجرد خوضها يكتسب شرعية لحكمه. ثم إنه تحت ظلالها يكون شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فتقمع المعارضة وتخرس الألسنة، لا سيما مع شعوب عاطفية. ورأينا في حالة عبد الناصر كيف خرجت الجماهير تطالبه بعدم التنحي، ثم ترقص عندما رضخ لإرادتها وعدل عن قراره وعاد للحكم!

أداء الدهماء:

والتحدي لأننا ندرك أن عبد الفتاح السيسي، مع كل هذا، لن يخوض حرباً خارجية، وقد أعلن بدون طلب من أحد أن أمن الخليج يهمه، وأنه إذا تعرض للخطر فالجيش المصري "مسافة السكة"، فلما وقعت الواقعة بدا غير معني بها، على نحو دفعنا للتأكيد أنه لن يدفع بالجيش المصري إلى ليبيا، حتى وهو يستوفي الشكل لذلك بقرار البرلمان بتفويضه بإرسال قوات من الجيش إلى هناك، بل وأجزم أنه لن ينفذ قراره بتسليح الحلفاء من القبائل الليبية، لأسباب ذكرتها وقتها. فالمتابع له بتأمل يدرك أنه ليس من يغامر، لا سيما إذا كان الأمر مرتبطاً بحروب خارجية.

ولست من الذين يتعاملون مع موقف أنصاره بجدية، فلا يمكن قراءة إرادة الناس من خلال أداء الدهماء الذين يصفقون للقول ونقيضه. ولعل العنوان البارز لحالتهم عندما حدث الانفصال بين مصر وسوريا، ووقف الزعيم الأوحد يخطب في الجماهير وهو يهدد بضرب سوريا، فإذا بحناجرهم تبلغ عنان السماء، وهم يهتفون: اضرب.. اضرب يا جمال.. أدب أدب يا جمال، فلما هدهم التعب من الهتاف، قال الزعيم الملهم إنه رأى أن السلاح العربي لا يوجه إلى الصدر العربي، فإذا بهم، هم هم، من يعاودون الهتاف له، لكنه هذه المرة لجمال عبد الناصر بطل السلام!

وإن كان الخطاب الجديد للسيسي قد رفع عنهم الحرج، فقد ذهبوا يزايدون على الناس ويطلبون منهم تأييدا على بياض لزعيمهم، بعد هذا التهديد والخطاب الشامخ، وباعتبار أن تأييده - والموقف كذلك - من حسن وطنية المرء. وهناك من خصومه من سارعوا قبل أن يزايد عليهم الدهماء، فأعلنوا وقوفهم مع الزعيم وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ولا ننكر أن كثيرين ممن يقفون على الحياد فرحوا بهذا التحول، لإدراك الناس أن أزمة سد النهضة هي مسألة حياة أو موت!

وهذا التأييد الجارف لهذا التحول في الخطاب يرد الاعتبار للرئيس محمد مرسي، فهو من سبق السيسي بالقول إن مياه النيل خط أحمر، وكان أكثر منه حسماً وهو يعلن أنه إذا نقصت قطرة مياه واحدة، فدماؤنا هي البديل، وأعلن أن جميع الخيارات مفتوحة. وللأسف أن هذا الخطاب الشجاع لم يكن دافعا لالتفاف الفرقاء على محبة الوطن، بل منهم من ذهب يسخر منه، وإذا بهيكل يعلن أنه لا خيارات أمامه، فلا يوجد سوى خيار التفاوض. فقد كان وكانوا في مرحلة "كيد النساء"، لا تعنيهم قضية قومية، بل ولا يشغلهم الوطن ذاته!

لن يجارب:

وبعيداً عن "تقليب المواجع"، فإن تنفيذ السيسي تهديداته سيمنحه شرعية لم يكن يحلم بها، وسيمثل نهاية لمعارضيه، فمن يمكنه أن يزايد على زعيم يدافع عن حصة مصر التاريخية من مياه النيل؟ ومن يمكنه أن يستمر في فتح ملفات مثل الديمقراطية، وتداول السلطة، وإرادة صناديق الانتخاب؟ وعندما تبدأ الحروب تحضر العاطفة.

لكني مع هذا على يقين من أنه لن يفعل، لإيماني الذي لا يتزعزع بأن القدر لن يمكنه من تحقيق هذا الانتصار الكبير، فضلا عن طبيعة شخصيته التي تجعله لا يميل إلى المغامرة أبدا، فضلاً عن أن خطابه العام يأتي في سياق مختلف لهذا التصريح الأخير!

وإذا كان النسخ هو لما سبق، ففي حالته فإن المنسوخ هو الجديد من خطابه الذي لا أدعي معرفة الدوافع خلفه، لكنه يأتي في سياق سياسته بالانتصار اللحظي، ما دام عاجزاً عن تحقيق النصر الاستراتيجي، وكل إنجازاته مفعولها لا يتجاوز اللحظة، ومن أول قناة السويس الجديدة، إلى تحقيقها الجودة في الاقتصاد، إلى نجاح المؤتمر الاقتصادي في تحقيق أهدافه، إلى وعوده المتكررة بتحديد مواعيد لجني ثمار التنمية لم يصدق في وعد منها على كثرتها، إلى تخصيص أموال للبنية التحتية.. يتجلى عدم صدقه عند أول تحد كسقوط أمطار أو نحو ذلك، إنه ابن اللحظة!

وربما أراد بإعلان أن مياه النيل خط أحمر تحقيق هذا الانتصار اللحظي، وقد أقام له القوم احتفالاً بهيجاً، حتى ظنوا بصدق عقيدة الحلول والاتحاد، وأن روح الزعيم الخالد حلت في جسده، وتحكمت في لسانه، وسيطرت على حواسه. وعندي على هذا التحول عدة ملاحظات:

أولاً- إن تأثير هذا الخطاب لم يصل لأذرعه الإعلامية، ولم تصدر لهم التعليمات بالتصعيد كما صعد القائد، وتُرك أمر الزفة لهذه التهديدات ضمن الاختصاص الأصيل للذباب الإلكتروني وبعض النشطاء على منصات التواصل الاجتماعي.

ثانياً- إن هذا الخطاب لم يكن ناسخاً لخطابات سابقة فقط، ففي بداية خطابه في هذا اليوم، من هيئة قناة السويس أكد أن المعركة هي التفاوض، مستنداً على أنهم يكسبون كل يوم الرأي العام العالمي بهذا الخيار، وأن العمل العدائي قبيح، وأن الشعوب لا تنسى من يعاديها، بشكل يجعل من الحديث عن التهديد بعمل عسكري مؤثرا على استقرار المنطقة ككل خارج السياق، ولأسباب غير مفهومة!

ثالثاً- إن السيسي عندما يتحدث عن أن حصة مصر لن تنقص، وبالتالي فهو لن يسمح بالمساس بها. هو هنا يبيع لنا الهواء، فهل يعقل بعد دخول السد على الخط بأي سعة وبأي اتفاق على سنوات الملء، ألا تنقص حصة مصر من المياه "قطرة واحدة"؟ وإذا كان هذا ضد طبيعة الأشياء، فقد سبق له أن ذكرنا سابقاً بأن سداً يُبنى، وعلينا ألا ننسى هذا، وأنه لهذا شرع في بناء محطات للتحلية. ثم إنه استبق ذلك بالقيود التي فرضها على زراعة الأرز، فكيف يفعل وهو يدرك أن حصة مصر لن تنقص قطرة مياه واحدة؟!

رابعاً- إن السيسي وهو يبحث عما في جيبه، لم يستخدم سلاحاً في يده يتمثل في إلغاء اتفاقية المبادئ عن طريق البرلمان، والتي مثلت موافقة مصر كتابة على بناء السد، بدون قيد أو شرط، وهو ما دفع جهات خارجية لتقديم المساعدات لبناء السد. وهذا الإلغاء من شأنه أنه سيدفع هذه الجهات إلى التوقف عن التمويل، فلا أحد يمكنه أن يغامر بإنفاق أموال ليس متيقنا من تحصيلها. ثم إن هذا سيمكن مصر من اللجوء للتحكيم الدولي، وما ينتجه هذا من آثار بوقف بناء السد لحين الفصل في الموضوع! فضلا عن أن بنود سد النهضة تحول دون طلب تدخل جهات دولية، إلا بموافقة الأطراف الثلاثة الموقعة على الاتفاق، فلماذا يحرص الجنرال على تكبيل مصر بهذه الاتفاقية؟!

خامساً- إنه مع كل جولة للمفاوضات يتوقع فشلها حتماً، لا يطلب الجنرال وقف البناء إلى حين الاتفاق، وهو وإن كان طلبا يتعارض مع بنود اتفاق المبادئ، فإن مجرد الطلب به مهم، لأن استمرار المفاوضات مع استمرار البناء هو في الحقيقة تمكين لإثيوبيا من كسب الوقت، ويمثل خسارة على الموقفين المصري والسوداني يتعذر تداركها عند انتهاء البناء تماماً، وقد صرحت الخارجية الإثيوبية قبل ثلاثة أيام بأنه تم الانتهاء من بناء 79 في المئة منه.

وبعد..

فقد أعلنت إثيوبيا أنها ستبدأ الملء الثاني في تموز/ يوليو المقبل، ورفضت مصر ذلك، والخطاب المتحول جاء في مواجهة هذا الإعلان.. وكما يقول المثل المصري الدارج: "البحر يكذب الغطاس"!

لن ننتظر كثيراً لنعرف الناسخ من المنسوخ في كلام السيسي.

twitter.com/selimazouz1