قضايا وآراء

الاتفاق النووي ومصيره البائس

1300x600
مضى شهران على تولي الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن السلطة من دون انفراجة في أزمة الاتفاق النووي مع طهران، وهي أزمة أشعلها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بانسحابه منه عام 2018، لكن مغادرته بوصفه العدو اللدود للاتفاق وفوز بايدن الداعم له، لم تطفئ شرارة الأزمة، والوضع بات يتجه نحو مزيد من التعقيد خلافا للتوقعات؛ إذ تطرح طهران وواشنطن شروطا على الآخر، وسط استمرار سياسة الضغوط القصوى الأمريكية وسياسة تقليص التعهدات الإيرانية.

نتيجة هذا الوضع، ثمة تساؤلات ملحة تطرح نفسها اليوم عن مستقبل أزمة الاتفاق النووي التي تمثل عنوانا واحدا بين مجموعة أزمات بين إيران والغرب، وتحديدا مع الولايات المتحدة الأمريكية، فتراكمت على مدى العقود الأربعة الأخيرة، بعد التحول الذي طرأ على العلاقات بينهما منذ العام 1979، مما أدخلهما في صراع مستمر حتى يومنا هذا.

على مدى العقود التي انقضت من عمر الصراع، أدار الطرفان معاركهما وفق معادلة لا حرب ولا سلام، وصل فيها الأمر أحيانا حافة الحرب واشتعال مواجهة عسكرية بينهما، فما حدث في الثمانينيات من حرب الناقلات مثال على ذلك، إلى أن قررت طهران وواشنطن الانخراط في الدبلوماسية المباشرة عام 2013 في إطار المباحثات لحلحلة الملف النووي، في محاولة غربية لتجزئة الملفات والأزمات المعقدة، الناتجة عن الخلاف على خلفية رفض إيران مناقشة بقية الملفات العالقة مثل برنامجها الصاروخي وسياساتها الإقليمية؛ فكانت النتيجة التوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015 بين إيران والمجموعة 5+1، الذي أنهى أزمة الملف النووي الإيراني ومثل اختراقا كبيرا في الصراع، ليأمل الغرب وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة أن يفتح هذا الاتفاق الآفاق لعقد اتفاقيات ثانية وثالثة وفق مبدأ تجزئة الملفات والأزمات، إلى أن تصل إلى مرحلة تحل جميعها.

لكن هذه التجربة أثبتت فشلها، وليس ذلك بسبب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، فمنذ اللحظة الأولى من بدء تنفيذ الاتفاق في كانون الثاني/ يناير 2016 وبعد أشهر من التوصل إليه، بدأت الخلافات على خلفية بقاء بعض العقوبات قائمة على أرض الواقع، رغم رفعها على الورق، حيث رفضت البنوك الغربية التعامل مع نظيراتها الإيرانية، ورفض نظام "سويفت" المالي العالمي التعاون مع إيران، فضلا عن فرض إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، عقوبات على طهران وفق تفسيرات إدارته بأنها لا تضر بالاتفاق النووي، وغير مرتبطة بالعقوبات المتعلقة بالملف النووي، التي رفعت بموجب الاتفاق، لكن طهران اعتبرتها انتهاكا له.

ثم جاء الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي عام 2018 ليدخل الاتفاق في غيبوبة وشبه انهيار، لكونه قد هدم أحد ركنيه؛ وهو رفع العقوبات حيث تمت إعادة فرضها بشكل أوسع من قبل، فإيران اليوم تواجه 1800 عقوبة؛ 800 منها كانت مرفوعة بموجب الاتفاق النووي و800 أخرى جديدة، وهي عقوبات خانقة لم تتعرض لها أي دولة في العالم. وبعد عام من صبرها الاستراتيجي، بدأ الركن الآخر للاتفاق النووي يتصدع على خلفية اتخاذ طهران قرارات بخفض تعهداتها النووية، وهو اليوم بدأ ينهار بعد خطوات إيران النووية اللافتة خلال الشهور الأخيرة، كرفع درجة نقاء تخصيب اليورانيوم إلى 20 في المائة، وتعليق البروتوكول الإضافي المكمل لاتفاق الضمانات، الذي تعهدت به إيران "طوعا" في الاتفاق النووي، وخضع برنامجها النووي لرقابة مشددة.

واليوم، وفيما أحيا فوز بايدن في الانتخابات الأمريكية الآمال بإحياء الاتفاق النووي، إلا أن مؤشرات قوية تقودنا إلى أن فرص ذلك شبه معدومة إن لم تكن معدومة بالكامل؛ فالتصريحات التي تصدر عن أركان الإدارة الأمريكية الجديدة والدول الأوروبية الثلاث الشريكة في الاتفاق النووي (فرنسا وبريطانيا وألمانيا)، تؤكد فشل تجربة الحل المرحلي للملفات مع طهران وتجزئتها، حيث تطالب هذه الأطراف علنا بضرورة التوصل إلى اتفاق شامل عبر ضم جميع الملفات، أي النووي والصاروخي والإقليمي، كلها في رزمة واحدة، وهو ذات الاتفاق الذي نشده دونالد ترامب، وقد غادر السلطة ولم يحقق مبتغاه.

من ثم، فإن القول بأن ما يحدث حاليا هو نتيجة سياسات فردية اتخذها الملياردر الجمهوري ليس في محله، فسلوك خلفه بايدن رغم حديثه عن الدبلوماسية والمفاوضات مع إيران واختلاف مفرداته عن سلفه؛ يؤكد أن ما فعله ترامب كان قرار الدولة الأمريكية العميقة بامتياز.

لا ترى الإدارة الأمريكية اليوم ولا حتى الأطراف الأوروبية أن الاتفاق النووي كاف لمعالجة الملف النووي الإيراني، ولذلك تطالب بتمديد القيود الواردة فيه بشأن البرنامج النووي الإيراني. وعليه، فاتفاق 2015 لم يعد قائما بالأساس، والحديث اليوم عن إحيائه فيه نوع من التضليل؛ لأن العودة إلى هذا الاتفاق بمضمونه وشكله اللذين تم الاتفاق عليهما، بات شبه مستحيل، وإنما شيئا فشيئا يستخدم الغرب الاتفاق كجسر لجر إيران إلى مفاوضات شاملة تعيد النظر في الاتفاق النووي لتوسيعه بما يشمل جميع الملفات.

وأمام هذا الواقع المعقد، عرف صانع القرار الإيراني حقيقة التوجه الغربي (الأمريكي والأوروبي)، ولذلك صعد خلال الشهرين الأخيرين بعد فوز بايدن خطواته النووية والوصول بها إلى إجراءات أكثر حساسية؛ لإرغام الطرف الآخر على التراجع في مسألة العقوبات أولا، ومن ثم لفرض أجندته على المفاوضات المحتملة، بحيث لا تخرج عن سياق الملف النووي.