قضايا وآراء

الأفغاني والنظام العالمي

1300x600
في عددها الثامن، الصادر من پاريس، في يوم الخميس 18 رجب 1301هـ ق، والموافِق 15 أيار/ مايو 1884م(1)؛ تقول "العُروة الوثقى" عن نفسها: "لا يظن أحد من الناس أن جريدتنا هذه بتخصيصها المسلمين بالذكر أحياناً، ومُدافعتها عن حقوقهم؛ تقصِدُ الشقاق بينهم وبين من يُجاورهم في أوطانهم، ويتَّفِقُ معهم في مصالح بلادهم، ويُشاركهم في المنافع من أجيالٍ طويلة؛ فليس هذا من شأننا ولا مما نميل إليه، ولا يُبيحه ديننا ولا تسمح به شريعتنا. ولكنَّ الغرض تحذير الشرقيين عموماً، والمسلمين خصوصاً، من تطاول الأجانب عليهم، والإفساد في بلادهم. وقد نَخُصُّ المسلمين بالخطاب لأنهم العنصر الغالب في الأقطار التي غَدَرَ بها الأجنبيون، وأذلوا أهلها أجمعين، واستأثروا بجميع خيراتها".

في هذه الفقرة النماذجيَّة - وغيرها الكثير - تتجلَّى رؤية السيد جمال الدين للإسلام بوصفه نظاماً عالميّاً لا يرتضي هيمنة سواه، وليس مجرَّد اعتقادٍ قلبي معزول، أو حتى نظام سياسي قُطري محصور؛ كما اختُزِلَ الأمر لاحقاً عندَ من يتَسَمُّون بالإسلاميين -وخصوصاً منذ سبعينيات القرن العشرين - بتأثير تنظيرات رشيد رضا وخلفاءه لـ"الدولة الإسلاميَّة"(2)، بوصفها بديلاً قُطريّاً يُشوِّش على تحطُّم نظام الإسلام العالمي.

ولأن السيد فيلسوف سياسي، يصدُرُ عن وعيٍ كلامي وتاريخي عميق؛ فهو يُدرِك أن دائرة حركة الإسلام ووجوده في المجال العام البراني، أوسع كثيراً من دائرة وجوده في مجال الاعتقاد الجواني. فالإسلام ليس اعتقاداً قلبيّاً فحسب؛ إذ تنبَثِقُ من هذا الاعتقاد تلقائيّاً رؤية كونيَّة حاكِمة، يتشكَّلُ منها نظامٌ عالمي لا يرتضي هيمنة سواه على الواقع. وإذا كانت حركة الإسلام في مجال الاعتقاد محدودة بحدود من أسلم وجهه لله، مُخلصاً له الدين؛ فإن حركته في المجالات السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة - وغيرها من مجالات النشاط البشري - تتَّسعُ باتساع طيف الأقليَّات الدينيَّة والعرقيَّة، التي عاشَت تحت حُكم المسلمين طوال قرون.

وهذا هو مفتاح فهم أسباب شدَّة عناية السيد - رحمه الله - بالدائرة الشرقيَّة، وتوسِعَته إياها عن الدائرة الإسلاميَّة (بالمعنى العقدي)، مُعبِّراً عن تخوُّفِهِ مما كان يجري آنذاك؛ أي انتقال النظام العالمي من كونه نظاماً عالميّاً "مُحابياً" للإسلام، باسطاً لهيمنته؛ إلى نظام الحداثة العالمي شديد العداء للإسلام. وقد تغيَّا السيد بتَوسِعَته دائرة الشرق - وهي بالفعل أوسَع من دائرة الإسلام- ألا يستغِلَّ الغرب هذه الدائرة فتصير هي الأخرى دائرة عداء للإسلام، بعد أن صار الغرب كله تقريباً دائرة عداء شرس للإسلام، خصوصاً مع علو المد الكولونيالي، وتلمُّظ الدول الغربيَّة لنهش "الرجل المريض"، كما كانوا يُسمون الدولة العليَّة.

لقد حكم المسلمون - قروناً قبل الهجمة الكولونياليَّة الغربيَّة - فوق عشرات الأقليَّات الدينيَّة والعِرقيَّة، بغير إشكالات حقيقيَّة. واطَّرَدَ وجدان الوعي بهيمنة النظام العالمي للإسلام، واحتوائه لمن خالفه؛ في مسلك الملوك والحكام المسلمين قبل الحداثة، كما تجلَّى في استعمالهم لوزراء وكتاب وأطباء ومترجمين.. إلخ، من غير المسلمين. بيد أن التغلغُل الثقافي والمعرفي الكولونيالي كان يؤذِن بتغيُّر في الرؤية الكونيَّة للمُسلمين، وهو أشد ما كان السيد يخشاه، ويسعى للحيلولة دونه؛ لهذا تألَّف المسيحي واليهودي والهندوسي والبوذي والمجوسي، بوصفهم أبناءً للشرق، أي أبناءً لحضارة الإسلام التي سادَت الشرق، ولو كانوا على غير دينه. فكانوا جزءاً من شيعة السيد وتلاميذه ومُريديه، كما كانوا طيلة تاريخنا تبعاً لثقافة المسلمين ونظامه العام، وشيعة لحكَّامهم وعلمائهم.

وربما لا يستطيع قارئ اليوم - أسير الحداثة ونُظمها - أن يُدرِك إدراكاً واضحاً ما الذي كان تغيُّر هذه الرؤية الكونيَّة يعنيه بالنسبة للمسلمين. لهذا؛ سنسوق له مثالاً من تاريخ مُسلمي الهند، لعلَّه يعرِف حجم الهوَّة التي صارت تفصِلُ وعي المسلمين بأنفسهم بعد الحداثة، عن وعيهم قبلها، وأثر هذا التغيُّر الجذري في الوعي على تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا.

لقد تغيَّا البريطانيون - منذ اليوم الأول لهم في الهند - تقويض وعي المسلمين التاريخي والمعرفي واللغوي، بالنظم "التقليديَّة" التي حَكَموا بواسطتها - وهم أقليَّة صغيرة - شبه القارة طوال قرون، وذلك بتحطيم مصداقيَّة هذه النُظُم وأنماط تفكيرها، وتهوين دورها، رغم أنها كانت ما تزال فاعِلةً وقت تسلُّل البريطانيين إلى بلادهم؛ إذ أدرَك اللصوص أن التهديد الحقيقي لهيمنتهم هو وعي المسلمين.

وبقطع النظر عن الأدوات التي استُعمِلَت في هذا التقويض، وأفْضَت إلى القطيعة المعرفيَّة والتاريخيَّة؛ فإن الأهم في هذا المقام هو أن استيعاب المسلمين في رؤية كونية جديدة، ونظام عالمي جديد، وتصورات سياسية تنبَني على قواعد مناقضة للإسلام؛ جعلهم يخشون وجودهم كأقلية بدأت تستشعِرُ أنها كذلك! فإن المسلمين لم يستشعروا أنهم "أقليَّة مُستضعفة" إلا بعد تغلغُل مؤثرات الحداثة في وجداناتهم، وتشرُّبهم لجرعة الشرك التي تطويها؛ فقد سبق لهم حكم شبه القارة قروناً وَهُم أقليَّة عدديَّة، ولم يستشعِروا وطأة هذه "العقدة" من قبل أبداً! لكنَّهم صاروا يخشون قلَّة عددهم بعد تشرُّب مؤثرات الحداثة الثقافيَّة، واستبطان تصورات الغرب السياسيَّة، التي تمنح "الأغلبيَّة" هيمنة سياسيَّة وثقافيَّة على المجال العام. ومن ثم، صار الوضع في روعهم كابوسيّاً، وتجسَّد المخرَج الذي تفتَّقَت عنه أذهان هذا الجيل من الحداثيين المسلمين الساعين لـ"الاستقلال"؛ في حلٍّ يدور داخل هذا الإطار الحداثي نفسه، ويتلافى هيمنة أغلبيَّة هندوسيَّة على المجال العام: تقسيم شبه القارة، وإنشاء دولة قوميَّة حديثة "مستقِلَّة" للمسلمين!

فكانت الدولة القوميَّة الحديثة - في مجملها - ثمرة انسلاخ سوسيو- معرفي مهول من التصورات الإسلامية، بقدر ما كانت تبنياً للتصورات الحداثيَّة، وتوظيفاً للإسلام في تسويغ ذلك الشرك القُطري، بعد إذ أفضى هذا التنامي للشعور بالهويَّات الحديثة -المؤدية للدولة القومية الحديثة - إلى اختلاط هذه الهويَّات بصورٍ مختلفةٍ من التديُّن؛ حتى صار هذا "الدين" هويَّة قوميَّة. وهو ما تجلَّى بصورة فاحشة في حركة پاكستان، التي تمخَّضت عن تقسيم شبه القارة الهندية، بغرض تأسيس "دولة قوميَّة" يكون الإسلام هو "قوميتها"؛ فلا يسكُن إقليمها سوى المسلمين! وهو ما تم بمباركة وتشجيع القوى الكولونيالية الطامِعة بطبيعة الحال.

ولعلَّ القارئ متوسُّط الاطلاع يعرِف أن أعظم سلاح استعمله الغرب - واطرد به التحديث - ضد الإمبراطوريَّات الإسلاميَّة الثلاث المهيمنة آنذاك (المغول التيموريين، والأتراك القاجار والعثمانيين) كان هو تحويل وجود الأقليات الدينية والعرقيَّة إلى وجود إشكالي، غير مُنسَجِم مع الحداثة الاختزاليَّة؛ ليُفضي إلى تجزئة تلك الإمبراطوريَّات وتفتيتها. وهو الأثر الذي سعوا لتنميته أولاً في الدولة العليَّة، بوصفها مهندس النظام العالمي للإسلام وراعيه؛ فانتَقَصوا الدولة من أطرافها، وأنهكوها تمهيداً لتقويضها، بعد استنزافها بصراعها مع هذه الأقليَّات التي احترفوا تهييجها. وهذا هو عين ما كان السيد يبغي تلافيه ويسعى إلى تجنُّبه(3).

صحيح أن ظهور "إشكاليات الأقليات" كان رد فعل بنية الإمبراطوريَّة التلقائي على التحديث، الذي دشَّنه السلاطين، مما أفسح المجال لهجمة الأيديولوجيَّات القومية ومنها الطورانيَّة؛ بيد أن ظهور هذه الإشكاليَّة نفسها كان يعني انتقال الإمبراطوريَّة إلى الحداثة السياسيَّة، واستحالة احتفاظها بالنظام العالمي للإسلام (الذي لم تُعرَف في سياقه أزمات الأقليات)، ومن ثم حتميَّة الاطراد لتقويض الإمبراطوريَّة لحساب دول قُطريَّة.

* * *

وبوسعنا الوقوف على استراتيجيَّات ثلاث، سعى السيد - قدس الله روحه - من خلالها إلى الحيلولة دون انزلاق النظام العالمي للإسلام إلى تلك الهاوية، التي كان يُدرِكُ تمام الإدراك أنها قد تودي به:

الاستراتيجية الأولى هي استعماله لصيغة الحشد "الوطنيَّة" بمفاهيم القرن التاسع عشر، التي تعني تآلُف وتكاتُف سكان البلد الواحد - تحت راية الإسلام - في مواجهة محاولات التفتيت الداخليَّة. وهو معنى يختَلِف بالكليَّة عمَّا "اطَّرَدَ" به بعدها فهم القوميين وسلوكهم السياسي في بُلدان المسلمين.

أما الاستراتيجية الثانية فكانت دعوة "الجامعة الإسلاميَّة"، بوصفها مظلَّة جامعة تنتظِمُ تحتها كافَّة الأديان والأعراق، التي عاشت في ظل الإسلام طوال قرون. وبدهي أنها استراتيجيَّة توظِّف المسلمين من سائر مذاهبهم وأعراقهم، كما توظِّف غيرهم ممن جاورهم في بُلدانهم؛ فإن مقصدها هو الحفاظ على النسيج الاجتماعي والسياسي للنظام العالمي للإسلام، احتواءً للنعرات القوميَّة وتلافياً لتأزيم وجود الأقليَّات الدينيَّة. وقد كان عصب هذه الاستراتيجيَّة هو وضع الشرق والغرب دوماً على طرفي نقيض، حفاظاً على ولاء جمهرة الشرقيين لنظام الإسلام وهيمنته.

ثم تمثَّلَت الاستراتيجيَّة الثالثة في محاولة الإفادة من تناقُض المصالح بين الدول الأوروبيَّة، وصولاً إلى بناء تحالُف دولي ضد الإنكليز، وهو ما يتجلَّى من الخارطة التي رسمها(4) لهذه المصالح، وتتبُّعه لإمكانات التعاون بين الشرق وبعض الغربيين -الأقل عداوة - في مواجهة التهديد البريطاني اﻵني.

لكنَّ هذه الهمَّة البصيرة لم تجد من يتبنَّاها أو يوظِّفها بصدق، إذ كان القاجار ومغول الهند قد ركنوا إلى البريطانيين؛ فانهار حكم التيموريين في الهند قبلها بعقود، وصارت فارس منطقة نفوذ بريطاني. وكان عبد الحميد - على ذكائه وحنكته - جباناً يفرق من غضب البريطانيين، مع إدراكه لخطرهم؛ فاكتفى برعاية الدعوة عن بُعد، بغير استعداد حقيقي للاطراد مع ما تستوجبه من عمل، وما تَستتبِعه من مواجهات.

ولم يكن أمام السيد حينئذ سوى توعية العامَّة والعلماء وصغار السياسيين، وتأليبهم على البريطانيين، في محاولة منه للتعامُل مع التهديد المباشر، والأخطر آنذاك، ألا وهو احتلال البريطانيين لمصر؛ الذي سيتكرَّر به وفيه بعض ما شَهِده من قذارات البريطانيين في الهند وأفغانستان. لهذا؛ جاء إلى مصر، ثم أصدر بعد نفيه منها جريدة "العروة الوثقى"، لاستنقاذها؛ إذ تقول الجريدة عن نفسها: "هذه جريدةٌ قامت بالدفاع عن المصريين، والاستنجاد لهم، ولها سعيٌ - بل كلُّ السعي - لخيبة آمال أعدائهم. ولا ترى من مشربها مدح زيد ولا القدح في عمرو؛ فإن المقصد أعلى وأرفع من هذا، وإنما عملها سكب مياه النصح على لهب الضغائن؛ لتتلاقى قلوب الشرقيين عموماً على الصفاء والوداد. تلتَمِسُ من أبناء الأمم الشرقية أن يُلقوا سلاح التنازُع بينهم، ويأخذوا حذرهم وأسلحتهم؛ لدفع الضواري التي فَغَرَت أفواهها لالتهامهم، ومن رأيها أن الانشغال بداخل البيت إنما يكون بعد الأمن من طروقِ الناهِبِ. هذا منهاج العروة الوثقى، عَلِمَهُ كلُّ مطَّلعٍ على ما نُشِرَ فيها من يوم نشأتها إلى الآن"(5).

ورغم أن سخطه العارِم دفعه إلى تأليب العامَّة على حكام فارِس، فإنه ظلَّ يُثبِّتُ مُلكَ العثمانيين حتى آخر رمق؛ لوعيه أن انهيارهم فيه انهيارٌ للنظام العالمي للإسلام. لقد كان السيد يُريد إعادة العثمانيين إلى مصر لمواجهة الثورة المهديَّة، وتثبيت أقدامهم، وتجديد شباب الدولة. بيد أن البريطانيين أدركوا ذلك، وأدركوا أنه يُريد أن يجعل من نجاح العثمانيين في استنقاذ مصر من أيديهم نموذجاً يُحتذى، وفاتحة فصل جديد يستعيد نظام الإسلام؛ فحالوا دون ذلك بكل ما وَسِعتهم الحيلة، حتى صار الرجل وحيداً في ساحة الوغى، وكأن المتنبي قد تمثَّل حاله حين ألقى بيته المشهور:

وَحيدٌ مِنَ الخُلّانِ في كُلِّ بَلدَةٍ    إِذا عَظُمَ المَطـلوبُ قَلَّ المُسـاعِدُ
__________
(1) راجع: العروة الوثقى، جمال الدين الأفغاني (بعناية كاتب هذه السطور)، وهو قيد الطبع لدى تنوير للنشر والإعلام، القاهرة.
(2) للمزيد حول تطور مفهوم "الدولة الإسلامية" ودور رشيد رضا في بلورته؛ راجع: حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي الحديث، الفصل الثالث (نقله إلى العربيَّة وقدَّم له كاتب هذه السطور)، وهو قيد الطبع لدى تنوير للنشر والإعلام، القاهرة.
(3) وذلك - مثلاً - في اقتراح السيد على السلطان عبد الحميد تحويل إيالات الدولة الكبرى إلى خديويات - مثل مصر - لها قدر من الاستقلال الداخلي يسمح بشيء من المرونة تحت وطأة الحداثة، ويمتص الأزمة التي كانت ماثلةً في الأفق؛ راجع: خاطرات الأفغاني، تقرير: محمد باشا المخزومي (تنوير للنشر والإعلام، 2020م).
(4) يُراجع في ذلك العدد الثامن، المشار إليه آنفاً، وخصوصاً الفقرات السابقة على تلك التي استهللنا بها المقال.
(5) العروة الوثقى، العدد التاسع (الخميس 25 رجب 1301هـ ق/ 22 مايو 1884م).

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry