كتاب عربي 21

سلام فياض ولعبة انتخابات السلطة الفلسطينية

1300x600
تتكشف مؤخرا الكثير من المناورات على المناصب داخل قيادة حركة "فتح" استعدادا لانتخابات السلطة الفلسطينية المزمع إجراؤها في شهر أيار/ مايو القادم. ولا تنم هذه المناورات عن تنافس بين محافظين يمينيين، وليبراليي الوسط، واشتراكيين راديكاليين، بل هي بالأحرى معركة بين الفصائل والشخصيات اليمينية النيوليبرالية المؤيدة لاتفاقية أوسلو. لكن قيادة محمود عباس الحالية لحركة "فتح" والسلطة الفلسطينية لن تجازف بمصيرها. فقد أصدرت تهديدا مستترا لمروان البرغوثي، الذي يقبع في سجن إسرائيلي منذ عام 2002 لكنه لا يزال نشطا في الحركة من زنزانته، وقبل أيام قامت بطرد ابن شقيقة ياسر عرفات؛ ناصر القدوة من الحركة نتيجة تحديه الانتخابي لعباس.

لكن أولئك العازمين على إنقاذ السلطة الفلسطينية من براثن محمود عباس، سواء من خلال استخدام خصومه داخل "فتح"، أو من خلال شخصيات تكنوقراطية "مستقلة" خارجها، لم يستسلموا. بل لقد أطلقوا العنان للتو لمرشحهم الانتخابي الأخير، ألا وهو رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض، الذي أعلن في مقابلة مع صحيفة القدس الفلسطينية في 9 آذار/ مارس أنه سيعود إلى الضفة الغربية المحتلة لخوض الانتخابات كمرشح مستقل.

وأعلن فياض أن الكتلة النيابية التي ينوي الانضمام إليها ستتألف من "شخصيات مستقلة"، وأنهم سيديرون حملتهم ويشاركون في الانتخابات التشريعية المقبلة "بشفافية وشرف، ومن منطلق تنافسي". وأكد أن الانتخابات يجب أن تؤسس حكومة "وحدة وطنية تضم الجميع، وليس حكومة أغلبية". لكن فياض أعرب عن مخاوفه من إمكانية تحقيق هذه الوحدة الوطنية من خلال الانتخابات، في ظل الانقسامات بين الفصائل الفلسطينية المختلفة، لا سيما فتح وحماس، وفي ظل قمع حركة فتح- السلطة الفلسطينية الحاكمة لحرية التعبير.

يعمل فياض في الوقت الحالي باحثا زائرا في جامعة برينستون الأمريكية، وذلك منذ مغادرته المشهد الفلسطيني في عام 2015. كان فياض قد شغل منصب رئيس وزراء السلطة الفلسطينية بعد أن شنت "فتح" انقلابا للإطاحة بحركة حماس المنتخبة من الحكم في عام 2007، وبقي في منصبه حتى عام 2013. بعد ذلك، انخرط في منظمة غير حكومية "خيرية"، تم حجز أموالها في عام 2015 من قبل محكمة من محاكم السلطة الفلسطينية اتهمت المنظمة باستخدام أموالها لأهداف سياسية وليست خيرية، وهو ما نفاه فياض. تتضمن السيرة الذاتية لفياض العمل في صندوق النقد الدولي منذ عام 1987 حتى 2001. وكان قد تبوأ منصب ممثل مقيم لصندوق النقد الدولي في الضفة الغربية وقطاع غزة من عام 1996 حتى عام 2001. وفي عام 2002، أصبح فياض وزير مالية السلطة الفلسطينية.

أثناء عمله كرئيس للوزراء في عام 2009، تنبأ فياض -الذي لقبه الرئيس الإسرائيلي الراحل شمعون بيريز بـ"بن غوريون الفلسطينيين"- بقيام دولة فلسطينية في غضون عامين، أي في عام 2011. لكن بعد اثني عشر عاما على نبوءته التي لم تتحقق، يبدو أن فياض قد انقلب على سياسته الماضية، وإن كانت تصريحاته الأخيرة قابلة للتصديق، فقد غير مساره بشكل جذري تماما. خلال الفترة الطويلة التي قضاها كرئيس للوزراء، كان فياض قد اعترف بإسرائيل بوصفها "بلدا توراتيا" يهوديا، وأضاف: "فيما يتعلق بالروح الصهيونية، حسنا، إسرائيل بلد توراتي، وهناك الكثير من قمم التلال، والكثير من المساحات الشاغرة، فلماذا لا يقيم [المستوطنون اليهود] هناك، ويدعونا نواصل حياتنا؟". لكنه، بخلاف هذه التصريحات، فقد أصر في مقابلته الأخيرة على أنه يجب على الفلسطينيين اليوم المطالبة بحقوقهم الوطنية في كل "فلسطين التاريخية".

أثناء توليه منصبه، أشرف فياض على قمع جميع أشكال المقاومة الفلسطينية لإسرائيل، والتي سماها "تحريضا"، بما في ذلك حرية التعبير وحرية العمل السياسي. وبينما كان أمن السلطة الفلسطينية الذي دربته الولايات المتحدة يقمع الفلسطينيين، أكد فياض للقراء الإسرائيليين في مقابلة مع صحيفة "هآرتس" أن "التحريض يمكن أن يتخذ عدة أشكال -أمور تقال، وأمور يتم القيام بها، واستفزازات- ولكن هناك طرقا للتعامل مع هذه. ونحن نتعامل معها".

ولم يظهر فياض على أنه ديمقراطي فوق السياسة الحزبية والصراع بين "فتح" و"حماس" فحسب، بل أصر في نفس الوقت على أنه استخدم جهاز الأمن التابع للسلطة الفلسطينية، الذي تم تدريبه بإشراف الجنرال الأمريكي كيث دايتون، فقط لقمع أولئك الذين ينتهكون القانون من كلا الفريقين. وفي مقابلة نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية في ٢٠٠٩، أصر على أنه يعارض انتهاك حقوق الإنسان أو التعذيب أو اعتقال الأشخاص بسبب آرائهم السياسية، على الرغم من السجل الضخم الذي كان قد تم تجميعه على المستوى المحلي والدولي، والذي نشرته جماعات حقوق الإنسان عن الانتهاكات المستمرة على كل هذه الجبهات من قبل قواته وقوات دايتون الأمنية، إلا أنها كانت قد استهدفت في ذلك الوقت أي شخص مرتبط بـ"حماس" خصيصا.

كما تنازل فياض في حينه عن حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه وأراضيه التي طرد منها في عام 1948 من قبل المستعمرين اليهود الأوروبيين، استرضاء للإسرائيليين: "بالطبع، سيكون للفلسطينيين الحق في الإقامة داخل دولة فلسطين" التي كان مزمعا إنشاؤها في أجزاء في الضفة الغربية وقطاع غزة حسب نبوءته.

كما أظهر فياض مرونة شديدة حيال مدينة القدس. ففي مقابلته في مجلة الدراسات الفلسطينية، أعرب فياض عن قلق شديد بشأن الاستيلاء الاستعماري الإسرائيلي المستمر على مدينة القدس لدرجة أنه طالب، عن طيب خاطر، بالتطبيع العربي الكامل مع إسرائيل لوضع حد لذلك: "فعروبة المكان تتعزز عندما يأتي العرب إليه، ولا تتعزز بالمقاطعة بحجة أن هذا فيه تطبيع مع المحتل، وأعتقد أن قيام العرب بزيارة القدس واجب مهم، وأشجع على ذلك كثيرا، ففي هذا تدعيم وتعزيز للبعد العربي في هوية القدس". وبخلاف تصريحاته السابقة بشأن القدس، يصر فياض اليوم، راديكالي الهوى، على أن يطالب الفلسطينيون بالقدس وأن هذا سيكون اختبارا لإدارة بايدن (وفياض أقل تفاؤلا حيالها)، لإلغاء سياسات ترامب.

على عكس هذه المواقف المحابية لإسرائيل، دعا فياض في مقابلته قبل أيام قليلة، إلى التخلي عن حل الدولتين وإلغاء قرار قبول منظمة التحرير الفلسطينية به في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 في الجزائر العاصمة، عندما أعلنت "استقلال" الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967 من جانب واحد. وبدلا من ذلك، يصر بشكل مفاجئ على حق الفلسطينيين في كل "فلسطين التاريخية" التي يجب المطالبة بها دوليا كموقف فلسطيني موحد. ويصر فياض الجديد على أن تتبنى حركة "فتح" الخط الذي لطالما عبّرت عنه "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ألا وهو إجراء انتخابات ليس تحت مظلة اتفاق أوسلو، كما تطالب اللجنة الرباعية التي تم إحياؤها مؤخرا (والتي تضم الولايات المتحدة، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا)، بعد أن بقيت خاملة منذ عام 2016، بل على أساس رفض اتفاقية أوسلو تماما. ويطالب فياض كذلك بالسماح لفلسطينيي القدس الشرقية بالمشاركة في التصويت، كما فعلوا في انتخابات السلطة الفلسطينية السابقة.

وردا على سؤال لجريدة "القدس" حول شائعات ترجح أن خوضه للانتخابات هو استجابة لمبادرة من دولة الإمارات، التي قامت مؤخرا بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، فقد نفى فياض هذه الشائعات بشكل قاطع. كما اشتكى أيضا من غياب الانتخابات على مدى السنوات الـ14 الماضية، لكن الصحيفة لم تستفسر منه كيف خدم لمدة ثماني سنوات كرئيس وزراء غير منتخب لسلطة فلسطينية غير منتخبة في تلك الفترة!

يقول الخبير الفلسطيني المصدّر لاستطلاعات الرأي خليل الشقاقي، وهو "زميل كبير" في مركز كراون بجامعة برانديس اليهودية الأمريكية، إنه "إذا كان فياض هو رقم 2 في قائمة وضعها مروان البرغوثي ويقودها ناصر القدوة، أو جزء من ائتلاف إصلاحي أكبر، فستزداد فرصهم في الحصول على أصوات من حركة "فتح" بشكل كبير. ويمكن لمثل هذا الائتلاف الإصلاحي، إلى جانب قائمة انتخابية يسارية موحدة، أن يؤثر على تشكّل الائتلاف الحكومي الفلسطيني المقبل".

يبدو أن ملاحظة الشقاقي تؤكد أن الاستقلال السياسي المزعوم لفياض قد يكون معتمدا على فصيل" فتح" المناهض لعباس، أو متواطئا معه لتحقيق النصر الانتخابي. لقد عبّر عدد كبير من المفكرين الفلسطينيين المؤيدين لأوسلو والموالين للغرب داخل فلسطين وخارجها عن حماسهم لعودة فياض الميمونة إلى السياسة الفلسطينية، بما في ذلك زميل فلسطيني كبير في منظمة "مشروع الأمن الأمريكي"، وهي منظمة تضم الحزبين الأمريكيين الرئيسين يقودها جنرالات عسكريين أمريكيين سابقين.

هذه ليست المرة الأولى التي يلعب فيها فياض في السيرك الانتخابي الفلسطيني. ففي عام 2006، كان قد خاض جولة أولية عندما ترشح على قائمة "الطريق الثالث" التي شارك في تأسيسها مع الوزيرة السابقة في السلطة الفلسطينية وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، حنان عشراوي. وكانت "الطريق الثالث" أيضا في حينه قائمة "مستقلة" عن الفصائل الفلسطينية الأخرى. وفي تلك الحقبة، اتهمت "فتح" حزب "الطريق الثالث" باستلام تمويل من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وهو ما نفاه فياض وعشراوي. وقد حصلت قائمة "الطريق الثالث" في انتخابات ٢٠٠٦ على 2.41 في المئة من الأصوات. وليس من الواضح حتى الآن نسبة الأصوات التي يأمل فياض في الحصول عليها في انتخابات أيار/ مايو المقبلة.

إن إعادة بعث فياض من التقاعد السياسي لهو حدث مثير للغاية بالفعل. يبدو أن البعض في أروقة السلطات الإسرائيلية والعربية والغربية يبذلون قصارى جهدهم لإصلاح حكم السلطة الفلسطينية وتعاونها الأمني "المقدس" مع الإسرائيليين، بالتزامن مع تعزيز استراتيجيات الاحتلال الإسرائيلي نفسه بهدف إنهاء جميع أشكال المقاومة الفلسطينية بالمرة وإلى الأبد، عبر فرض نسخة بايدن- لايت (أو المخففة) من صفقة قرن ترامب. أما انتخابات السلطة الفلسطينية القادمة، فهي اللعبة التي يتم فيها تفعيل هذه الاستراتيجية الإمبريالية والإسرائيلية، واستراتيجية المتنافسين من المتعاونين مع إسرائيل داخل السلطة الفلسطينية و"فتح" على الحكم.