قضايا وآراء

محددات خمسة للعمل الحقوقي العربي

1300x600
تواجه المنطقة العربية أزمات سياسية وإقتصادية واجتماعية حادة، كما يعيش العالم العربي أزمة حقوق إنسان غير مسبوقة، خاصة بعد ثورات الربيع العربي غير المكتملة التي بدأت مع بداية العقد الماضي. وقد ازدادت حدة هذه الأزمات بعد جائحة كورونا، وأخذت هذه الأزمات أشكالا متعددة؛ من قمع للحريات واعتقال تعسفي وإخفاء قسري وقتل خارج إطار القضاء وتدهور مريع في المستوى السياسي والاقتصادي والصحي. كما اندلعت حروب وأعمال عنف مسلحة كثيرة وحصدت عشرات آلاف الضحايا والمعتقلين.

إزاء هذا الوضع المتردي والظروف البائسة، فإن المنظمات الحقوقية العربية تتحمل مسؤولية كبيرة في الدفاع عن بقايا حقوق الإنسان. ولكي تتحقق هذه الغاية السامية والمهمة الشاقة والصعبة، ولكي يكون هناك بارقة أمل، فإن ثمة محددات خمسة استخلصتها من تجربتي الحقوقية على مدار اكثر من عشرين عاما، أراها ضرورية ومفيدة للنشطاء وللمنظمات الحقوقية، وهي:

أولا: ليس هناك أناس حياديون لكن هناك سلوكيات حيادية:

لا يمكن أن نمنع الإنسان من آرائه ومواقفه السياسية أو الدينية، فالحق في المشاركة السياسية أو المعتقدات من الحقوق الإساسية. في نفس الوقت لا يمكن أن نخلط بين العمل السياسي والعمل الحقوقي، ولكل ميدان ظروفه وأدوات عمله الخاصة.

لكن هل يمكن لمن يؤمن بمعتقدات أو آراء سياسية أن يعمل في المجال الحقوقي؟ من حيث المبدأ نعم، لكن عليه أن ينضبط بضوابط العمل الحقوقي.

إن العمل الحقوقي له حدود وضوابط؛ منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي. بمعنى أن الذي ينخرط في العمل الحقوقي يجد نفسه مجبرا على أن يكون حياديا في عمله، في تصريحاته وفي مواقفه. كما أن العمل المؤسسي والظروف الموضوعية التي تحيط بالعمل الحقوقي تضع حدا لكل من يتجاوز حدود العمل الحقوقي. إن الناشط السياسي الذي ينتمي لحزب سياسي له مواقف واضحة ومعلنة، كما أنه يمارس أنشطة وأعمالا هي بالتأكيد قد لا تنال إعجاب أو رضى الخصوم السياسيين.

وفي كل مجتمع هناك أحزاب سياسية تتنافس فيما بينها، وتتعامل مع بعضها البعض وفق قواعد قد لا يكون التنافس الشريف موجودا ضمنها. في المقابل فإن العمل الحقوقي والمنظمات الحقوقية تحمل رسالة إنسانية متجردة من الأهواء والعواطف، رسالة تنشد الكرامة الإنسانية وتسعى لإعمال الحقوق وتواجه في سبيل ذلك تحديات جمة.

وضمن الأجواء السياسية المتفاعلة فإن ممارسة العمل الحقوقي مهمة صعبة بل ومعقدة، لكنها ممكنة لو التزم العاملون في الحقل الحقوقي بالضوابط والشروط.

ليس هناك أناس حياديون، بل هناك سلوكيات حيادية. قد يمارس العامل في المجال الحقوقي حقه السياسي من خلال المشاركة في الانتخابات، فيختار هذا أو ذاك، لكنه لا يمكن أن يعبر عن موقفه السياسي علناً ويقوم بأنشطة سياسية. كما لا يمكن للمنظمة التي يعمل بها أن تقوم بأنشطة سياسية كذلك.

ومن خلال خبرة أكثر من عشرين عاما في العمل الحقوقي، أنصح أؤلئك المنخرطين بشكل تام في العمل الحقوقي، والرموز الحقوقيين (مدراء المنظمات، منسقو العلاقات العامة والإعلام، الباحثون الحقوقيون)، أن يبتعدوا عن الأجواء السياسية والمشاركة السياسية. إن نشاطا سياسيا واحدا قد يضرب مصداقية المنظمة الحقوقية ويجعلها محط شك وريبة.

أما مشاركة العاملين من المستوى الثالث، من موظفي السكرتاريا والأعمال المكتبية المختلفة في الأنشطة السياسية، قد لا يكون له تأثير كبير على مصداقية المنظمة الحقوقية، ومع ذلك ينصح بالامتناع عن هذه الأنشطة.

ثانيا: المهنية والتخصص الدقيق:

العمل الحقوقي مهنة لها أصولها وقواعدها كأي مهنة أخرى، لها مصطلحاتها وأدواتها الخاصة بها. وثمة فرق بين العمل القانوني والعمل الحقوقي. فالعمل القانوني يتطلب دراسة علم القانون بشكل تفصيلي كتحصيل أكاديمي، وينتهي المطاف بطالب القانون إلى أن يكون محاميا أو قاضيا أو أكاديميا قانونيا أو ما شابه، في حين أن العمل الحقوقي هو علم أكاديمي وتدريبي معقول، تضاف إليه مهارات تراكمية وخبرات عملية ميدانية يكتسبها من الميدان ومن متابعة يومية. ولو كان الناشط الحقوقي يمتلك تكوينا ثقافيا قانونيا متينا فإن ذلك سوف يشكل إضافة نوعية.

ويمكن أن يكون الناشط الحقوقي طبيبا أو مهندسا أو صحفيا أو ممرضا أو عاملا، وما إلى ذلك.

أما الثقافة الحقوقية المطلوبة فهي تبدأ من التعرف على الأصول التاريخية لحقوق الإنسان ومصادرها الأساسية، والقدرة على تصنيف الحقوق والتعرف على أجيالها الأربعة، والقدرة استخدام هذه التصنيفات بشكل مناسب. كما يتطلب الأمر معرفة آليات الرصد والتوثيق وكتابة التقارير، وكذلك بناء العلاقات العامة من منظور حقوقي واجتماعي، وبناء التحالفات الحقوقية المحلية والإقليمية والدولية. كما يتطلب معرفة منظمة الأمم المتحدة وأجسامها المختلفة، وكذلك التعرف بشكل دقيق على مجلس حقوق الإنسان وآليات الحماية التعاقدية وغير التعاقدية، وكذلك على المحاكم الدولية، سواء تلك التي ينشئها مجلس الأمن بموجب الفصل السابع أو محكمة الجنايات الدولية، وكذلك القضاء ذي الولاية العالمية، كما يتطلب معرفة آليات جلب التمويل. كما تتطلب الثقافة الحقوقية الاطلاع بشكل واسع على كيفية القيام بحملات حقوقية، وغير ذلك من المعارف المطلوبة.

هذه المعارف لا يمكن أن تكتسب خلال فترة وجيزة، فهي معارف تراكمية يكتسبها الناشط خلال تجارب متعددة. وكلما تعمقت هذه المعارف كلما اكتسب العمل الحقوقي مهنية ودقة.

وعندما نقول إن العمل الحقوقي يتطلب المهنية والتخصص الدقيق، فنحن نقصد أن يكون هامش الاجتهاد ضيقا جدا. وكأي علم من العلوم وأي مهنة من المهن، يقوم العمل الحقوقي على قواعد وعلوم.

إن الاجتهاد لا يكون بوجود النصوص والقواعد الراسخة المتبعة في العمل الحقوقي، وقد يشكل الاجتهاد الخاطئ فرصة ذهبية للهجوم على المنظمة الحقوقية واتهاهمها بعدم المهنية والحيادية، وهذا أمر مضر جدا بالضحية أو الضحايا.

ثالثا: التدرج في الخطوات:

يعتمد العمل الحقوقي على خطوات تدريجية. فالمنظمات الحقوقية تنشد الوصول إلى احترام حقوق الإنسان، وهي مهمة شاقة وصعبة خاصة في دول العالم الثالث. وعليه، فإن التدرج في الخطوات لا يختلف من حيث الجوهر عن ضرورة امتلاك النشطاء ميزة الصبر والنفس الطويل.

التدرج في الخطوات ليس ضعفا، بل هو دراسة الواقع بشكل واف واتخاذ الخطوات اللازمة بناء على هذه الدراسة.

أولى خطوات العمل الحقوقي تبدأ بامتلاك المعرفة الحقوقية الكافية بالمشكلة نفسها، ثم تأتي مهمة الرصد لواقعة الانتهاك ومن ثم توثيقها بشكل علمي. وبعد امتلاك الصورة الكاملة تدرس الخطوات التالية، وليست هناك خطة تحرك واحدة وثابتة.

التواصل الفعال مع الجهات التي قامت بعملية الانتهاك (جهات رسمية، قطاع خاص، شركات، أحزاب، وحتى أفراد) مسألة هامة. ويهدف التواصل هذا إلى معرفة ما جرى بشكل رسمي، وثني الجهات هذه عن الانتهاك ومعاقبة الأشخاص الذين انتهكوا. ولو تحققت هذه الغاية فمهمة الحقوقي هنا تنتهي نسبيا.

ليس من الحكمة أن يبدأ النشاط الحقوقي باعتصام أو احتجاج أو عصيان، وليس من الحكمة أيضا إصدار البيانات بشكل متعجل. الهدف الأسمى هو الدفاع عن حقوق الإنسان، والحكمة تقتضي في ذلك اتباع أفضل السبل وأنجعها.

رابعا: الميدانية والعملانية

المنظمات الحقوقية ليست مراكز تفكير (Think-tank) هي منظمات قريبة جدا من الجمهور، مطلعة على همومه ومشاكله. المنظمات الحقوقية تتمتع بالمصداقية، وهي تكتسب ثقة الجمهور، وتتمتع بالدينامكية وتتحرك بشكل تلقائي وسريع وتستجيب لنداء الناس، أي هي ليست كمؤسسة رسمية في دولة شديدة التعقيد الإداري.

هي ميدانية لأنها تقوم بالرصد والتوثيق، وهذا يتطلب النزول إلى الأرض ودراسة الواقع ميدانيا، وهي عملية لأنها تقوم بأنشطة عملية داعمة لحقوق الإنسان.

ليس من مواصفات منظمات حقوق الإنسان إصدار المواقف والبيانات من خلال الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي. منظمات حقوق الإنسان تعتمد على فريق عمل ميداني مهني وذي خبرة جيدة، وليس على شخص يجلس خلف مكتب أو شاشة هاتف ذكي يصدر المواقف والبيانات يمينا وشمالا دون أن تتوفر له التوثيقات اللازمة.

خامسا: تدبير التمويل غير المشروط

من أكبر التحديات التي تواجه منظمة حقوق الإنسان هو تحدي التمويل. إن من المثالية الزائدة القول إن المنظمة الحقوقية يمكن أن تعمل من دون تمويل، فالأنشطة والبرامج تتطلب تمويلا، ورواتب العاملين المتفرغين في المنظمة الحقوقية تتطلب تمويلا، والإيجارات والمصاريف الإدارية تتطلب تمويلا.

وفي الغالب تتلقى منظمات حقوق الإنسان في دول العالم الثالث تمويلا خارجيا، معظمه من الدول الغربية (سواء كانت دولا أم منظمات أو أشخاص). ومن السذاجة بمكان الاعتقاد أن هذا التمويل كله غير مشروط، فلكل جهة تمويل أسبابها الخاصة للتمويل.

كيف يجب أن تتعامل منظمات حقوق الإنسان مع هذا التمويل؟ هل ترفضه بالكلية أم تقبله بالكلية أم كيف؟

من حيث المبدأ يجب على منظمات حقوق الإنسان ألا تتلقى تمويلا مشروطا، فهي إن فعلت تفقد مصداقيتها وحياديتها.

لمواجهة هذا التحدي الكبير هناك جملة من المقترحات تشكل بمجملها محددات مفيدة:

أولا: أن تتمتع منظمة حقوق الإنسان بالمهنية والجدية والشفافية والحكم الصالح، الأمر الذي يشجع الجهات الداعمة سواء كانت محلية أم إقليمية أم دولية على تقديم التمويل.

ثانيا: البحث عن مصادر تمويل غير مشروطة، كإطلاق نداءات جلب التمويل على موقعها الالكتروني.

ثالثا: البحث عن شراكات مع منظمات حقوق إنسان أخرى تتعاون فيما بينها للقيام بحملة حقوقية معينة أو نشاط معين، وهكذا يتوزع العبء على الجمعيات الشريكة.

رابعا: التعامل ببراغماتية عالية مع هذا التمويل، بحيث تحافظ على مهنية وحيادية المنظمة، وتراعي الخصوصية الثقافية للمجتمع الذي تعمل فيه من جهة، وتراعي شروط الجهات الداعمة من جهة أخرى.

خلاصة القول..

إن العمل الحقوقي هو ضرورة مجتمعية ملحة، خصوصا في الظروف الحالية التي نعيشها. ويتحمل النشطاء الحقوقيون حملا ثقيلا في تعريف المجتمع بحقوقه ومن ثم الدفاع عنها، ويتحملون في سبيل ذلك مخاطر كثيرة من بينها الاعتقال. ولكي ينجح العمل الحقوقي في ظل هذه الظروف يجب أن تتوفر لهذه المنظمات الحقوقية عوامل نجاح عالية. إن المحددات الخمسة التي ذكرت أعلاه يمكن أن تشكل قواعد عمل تساعد على النجاح.