أخبار ثقافية

حين وقفت أم كلثوم على مسرح الأولمبيا الباريسي

دهش منظم الحفل من الحضور الهائل المكون من جنسيات عربية وإسلامية وغربية فضلا عن شخصيات فرنسية رفيعة- جيتي

في عام 1966 قرر مدير مسرح الأولمبيا في باريس كوكاتريس القيام بجولة في العالم العربي لاختيار صوت يستحق أن يغني على مسرح الأولمبيا الفرنسي.

وبعد جولته في بعض الدول العربية يحط كوكاتريس الرحال في القاهرة، قبل أن يلتقي وزير الثقافة أنور عكاشة، ويسأله عن أفضل صوت في مصر، فيجيب عكاشة، بأنه أم كلثوم.

بدأ كوكاتريس بالسؤال والاستفسار عن مقدرات أم كلثوم، وهل حقا تستحق أن تغني على خشبة مسرح الأولمبيا الذي تأسس عام 1893 على يد برونو كوتركس، ويعتبر أقدم مسرح عروض مغطاة بالمدينة.

وبعد أيام قرر كوكاتريس لقاء أم كلثوم، ودعوتها للغناء في باريس، وافقت أم كلثوم لكنها سألت ضيفها الفرنسي كم هو أجر المطربة الفرنسية الشهيرة إديث بياف عندما تغني على هذا المسرح؟ أجاب كوكاتريس، عشرة مليون فرانك، فردت أم كلثوم حسنا، أنا سأخذ عشرين مليون فرانك.

تفاجأ كوكاتريس من السعر، خصوصا أن مدة الأغنية المتعارف عليها في الأوساط الفنية الأوروبية ليست طويلة، فهل يعقل أن تأخذ مطربة مبلغ عشرين مليون فرنك من أجل عشرين أو ثلاثين دقيقة غناء؟ وبعد أخذ ورد، تدخل الأديب محمد سلماوي الذي كان يترجم الحوار، وقال للكوكاتريس إن مدة الأغنية الواحدة للسيدة أم كلثوم هي ساعة كاملة، وهي ستغني أغنيتين في كل ليلة.

وافق كوكاتريس وعاد إلى باريس للتحضير لمجيئ أم كلثوم، وما كان منه إلا أن رفع سعر تذكرة الحضور من أجل تأمين المبلغ المطلوب لها.

ثم طلبت أم كلثوم طلبا بدا لكوكاتريس غريبا، حيث رفضت أن تهبط طائرتها في مطار أورلي، وأصرت مطار لوبورجي في ضواحي باريس، وبعد نقاش مطول، وافق كوكاتريس على طلبها.


اقرأ أيضا : إسرائيليون يرفضون إطلاق اسم "أم كلثوم" على شارع بحيفا


وفيما الترتيبات تجري على قدم وساق، وقعت حرب عام 67 التي تلقت فيها مصر هزيمة عسكرية، اعتقد على أثرها كوكاتريس أن أم كلثوم لن تحضر إلى باريس في ظل هذه الأجواء، لكن أم كلثوم أصرت على القدوم.

أم كلثوم في باريس


طرح كوكاتريس على التلفزيون الرسمي الفرنسي أن يغطي وصول أم كلثوم إلى باريس وأن يجري معها لقاء حصريا، وهذا ما جرى فعلا.

سرعان ما بدأت أم كلثوم تجري بروفاتها استعدادا للحفلتين المقرر إقامتها في 13 و15 تشرين الثاني/ نوفمبر، ولم يصدق كوكاتريس ما سمع، فذهب إليها وقبل يدها إعجابا منه بهذا الصوت العظيم، وكانت أم كلثوم جالسة على كرسى مذهب من طراز لويس السادس عشر.

وعندما جاء موعد الحفل الأول، دهش منظم الحفل من الحضور الهائل المكون من جنسيات عربية وإسلامية وغربية، فضلا عن شخصيات فرنسية رفيعة.
 
بدأت حفل اليوم الأول من الساعة العاشرة مساء وحتى الثانية والنصف فجرا، وفيما كان جلال معوض يقدم الحفل، ذكر عبارة أدت إلى حالة من التشنج، عندما قال إن أم كلثوم تغني اليوم في باريس وغدا ستغني في القدس، في إشارة إلى حتمية تحرير المدينة المقدسة.

انزعج كوكاتريس من هذه العبارة وذهب فورا إلى أم كلثوم ليقول لها إن الحفل فني وليس سياسيا، فما كان من كوكب الشرق إلا أن ردت، أنها هي التي طلبت من معوض قول ذلك، والتفتت إلى الفرقة الموسيقية وقالت لهم "لموا الآلات يا ولاد"، فرد كوكاتريس بالقول ليكن ما تريدين.

غنت كوكب الشرق في باريس أغنيات عدة، وفي مقدمها "الأطلال" من كلمات الشاعر إبراهيم ناجي وألحان الموسيقار رياض السنباطي، و "أنت عمري" من كلمات أحمد شفيق كامل وألحان محمد عبد الوهاب، و "بعيد عنك" من كلمات مأمون الشناوي وألحان بليغ حمدي.

ولم يكن اختيار هذه الأغنيات الثلاث عبثيا، فهي لأهم الملحنين والكتاب، وهكذا أرادت أم كلثوم من هذه الأغنيات أن يكون لأصحابها حضورا في باريس من خلالها.

وأثناء غناءها "الأطلال" تعثرت قدمها أعلى خشبة المسرح وكادت ان تفقد توازنها وتسقط وهي تغني بيت "هل رأى الحب سكارى مثلنا كم بنينا من خيال حولنا"، وأثناء ذلك صعد شخص إلى المسرح، وأصر على تقبيل قدميها.

انتهت حفلتا أم كلثوم وسط ضجيج إعلامي لم تعرفه باريس من قبل، وقد كتب جان ميشال بوريس، أحد مديري مسرح الأولمبيا في تلك الفترة، إن ثلاثة مغنين فقط هم من حفروا أسماءهم في ذاكرة الأولمبيا، فجاءت على رأسهم أم كلثوم، وجاء بعدها أديت بياف، وجاك برال.

أما صحيفة اللوموند فقد كتبت "كانت الساعة الواحدة صباحا وربما الثانية، ولكن الجمهور لا يبالي.. في وقت كهذا باريس كلها تعتبر في حالة سبات، لكن داخل المسرح ذي الكراسي الحمراء وفي مثل تلك الليلة الأمر كان مختلفا تماما.. فالحضور مسحور، وعلى استعداد للبقاء طوال الليل للاستماع إلى السيدة القادمة من القاهرة التي كانت تغني أغنية لا نهاية لها، ليتم تمديد وقت نزول الستار وسط هتافات الحشد".