كتب

إعادة قراءة الماركسية.. هل تفيد في فهم تطورات العالم؟ (1من2)

يرى كارل ماركس أن المسيحية هي الدين المتناسب مع الاقتصاد السلعي- (عربي21)

الكتاب: "كارل ماركس أو فكر العالم- سيرة حياة"
الكاتب: جاك أتالي، ترجمه عن الفرنسية محمد صبح
الناشر: دار كنعان- دمشق ، الطبعة الأولى 2008

465 صفحة من القطع المتوسط

رغم أن هذا الكتاب صدر منذ فترة من الزمن، لكن الذي شدّني إليه أمران، أولهما أن مؤلفه هو الخبير الاقتصادي والمفكر الفرنسي جاك أتالي الذي تبوأ مسؤوليات رفيعة، فهو عضو مجلس الدولة وكان المستشار الخاص للرئيس الأسبق فرانسوا ميتران (1981- 1991) ومؤسس وأول رئيس للبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير في عام 1991، وهو المفكر الفرنسي الذي لم يكن شيوعيًا، ولا ماركسيا، ولكنه سبق له القول إن العالم الرأسمالي سيشهد أكبر أزمة مالية نقدية اقتصادية عالمية تتجاوز تداعياتها أزمة 2008، لأن أزمة 2008 نتجت عن انهيار قدرة الأسر الأمريكية على تسديد أقساط قروضها وإفلاس بعض المصارف.

وثانيهما، أن كتابه هذا ظهر بعد السقوط التاريخي للماركسية وأحزابها، بوصفه إعادة قراءة الماركسية اليوم، بعيدا عن التحزب الأيديولوجي، السابق. وعلى الرغم من هذه المفارقة، فإن جاك أتالي، أنجز كتابًا مهمًا عن الماركسية في وجوهها المختلفة، رصد فيها مسار ماركس وتكون أفكاره، وانتقال هذه الأفكار من حيز النظرية إلى حيز التطبيق.

العولمة الرأسمالية الليبرالية لم تعد منقذا للبشرية 

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، انتشرت اللغة الكونية الجديدة، التي ترفض توجيه نقد صريح وواضح إلى النيوليبرالية، أو الرأسمالية الجديدة، والطبقات المالكة للثروة، والاستغلال والسيطرة والتفاوت الاجتماعي، باعتبارها مفاهيم أعيد النظر فيها بشكل قاطع بحجة بطلانها أو وقاحتها المفترضة، نتيجة هيمنة امبريالية رمزية قبل كل شيء متمثلة في الخطاب النيوليبرالي المنتصر. 

وما يزيد مفاعيل قوة وضرر هذا الخطاب أنَّ من يشيعه ليس فقط دعاة الثورة النيوليبرالية الذين يريدون تحت غطاء "التحديث" إعادة صنع العالم بالقضاء على المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن مئة عام من النضالات الاجتماعية والتي باتت توصف كأنها تقاليد قديمة أو معوقات في وجه الرأسمالية الجديدة، بل أيضا منتجون ثقافيون من اليسار ما زالت غالبيتهم تعتبر نفسها تقدمية، لكنها محبطة مع انهيار تجربة "الاشتراكية المشيدة" في الاتحاد السوفييتي، التي بدت صالحة في مرحلة ما من القرن العشرين.

النيوليبرالية الرأسمالية الغربية التي انتصرت على الماركسية والاشتراكية في نهاية عقد الثمانينيات وقعت هي الأخرى في فخ لاهوت الخلاص وميكانيزماته الذي وقعت فيه الماركسية حين طرحت نفسها على أنها ايديولوجية خلاص البشرية.

فها هي الأزمة المالية التي اندلعت شرارتها في الولايات المتحدة الأمريكية في صيف 2008، وامتدت إلى معظم دول العالم، تعبر في جوهرها عن أزمة الرأسمالية العالمية في طورها الراهن بوصفها نظاماً مهيمناً، ويشكل قاسما مشتركاً بين البشر جميعاً، ويمتد في كل مكان، ويخص الجميع على كل مساحة الكرة الأرضية. وهذه الأزمة المالية العالمية الخانقة التي ليست بجديدة، لكنها تعد الأقوى والأصعب من بين الأزمات التي عرفها مجتمع المال والأعمال منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

في ظل هذا السياق، استعادت بعض مقولات الفكر الماركسي بريقها، نظراً لأن الماركسية مثلت في عهد ماركس أول حركة فكرية نقدية جدية للرأسمالية في مرحلتها الأولى، مرحلة الثورة الصناعية الأولى، ويأتي كتاب المفكر الفرنسي جاك أتالي، المستشار السابق للرئيس الراحل فرانسوا ميتران، الذي يحمل العنوان التالي: "كارل ماركس أو فكر العالم"، في مرحلة تاريخية من سيادة النيوليبرالية المظفرة، والتي اعتقد القسم الأكبر من المثقفين أن نظريات ماركس نبذت وتصوراته للعالم بصفة جماعية، والإنجاز السياسي الذي أقيم حول اسمه أرسل إلى مزابل التاريخ (ص 7 من المقدمة).

ويضيف الكاتب في المقدمة، قائلا: "وفي الاجمال، إن المسار الفريد لهذا المنبوذ، مؤسس الدين الجديد الوحيد في هذه القرون الأخيرة يتيح لنا أن نفهم كيف تأسس حاضرنا على هؤلاء الرجال النادرين الذين اختاروا العيش مهمشين في الفاقة، ليحافظوا على حقهم بأن يحلموا بعالم أفضل. في الوقت الذي كانت أروقة السلطة مفتوحة أمامهم. فنحن مدينون لهم بواجب العرفان بالجميل، كما يرينا أعماله في الوقت ذاته، كيف انزلق افضل الأحلام إلى الهمجية الأسوأ" (ص9).

كان المعتقد الماركسي يقول إن المحرك الرئيسي لخلاص البشرية ليس الشعب، وإنما طبقة البروليتاريا أخص منتجات الصناعة الرأسمالية، التي يجب أن تتحد في الكون كله من أجل تحقيق سعادة البشرية وإيصالها إلى "أرض الميعاد" أي الشيوعية، حيث الرفاه والمساواة للجميع.

في هذا الطور الراهن من العولمة الرأسمالية المتوحشة، النيوليبرالية تقول الشيء ذاته معكوساً، حيث لم تعد البروليتاريا هي منقذة البشرية بل الشركات المتعددة الجنسية ورجال الأعمال والبيزنس، والمؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة، التي صارت حارس المعبد ومديروها الرهبان الكبار وأنبياء البشرية الجدد، اجتماعات زعماء وقادة الدول الصناعية الثمانية (G8) التي باتت تشبه اجتماعات اللجان المركزية للأحزاب الشيوعية الكبرى التي كانت تقاريرها الصادرة عنها بمنزلة الكلام المقدس.

ديناميكية الاقتصاد

فالاقتصاد الرأسمالي العالمي قائم منذ ما لا يقل عن خمسمئة عام، وارتبطت الثورة الصناعية بطريقة إنتاج جديدة لم يعرفها التاريخ من قبل، هذه الطريقة كانت نمط الإنتاج الرأسمالي، وبعكس التشكيلات الاجتماعية الراكدة بأهدافها الكثيرة المتلازمة، المنصبة على إرضاء ديناميكية الاقتصاد في الرأسمالية تستند إلى تكامل الوسائل من خلال الهدف المشترك، ألا وهو جني الأرباح، هذا التكامل يشد الوسائل إلى نظام مرتبط يهدف، ويفضي إلى تطورها وتبدلها المستقل. ولقد كمن الدور التاريخي لنمو الإنتاج الرأسمالي في "مركزة وسائل الإنتاج المبعثرة والضيقة، وتوسيعها وتحويلها إلى روافع ذات أثر جبار في إنتاج الحاضر" (ماركس أنجلز: المؤلفات الكاملة ـ الجزء 14، برلين 1962 (ص 211).

ولم تعرف ديناميكية الرأسمالية حدوداً، بل ودمجت العالم بأسره في نظامها، مخضعة البلدان التي كانت تسيطر فيها أنماط إنتاج ما قبل رأسمالية، لهيمنتها. لقد جعل نمط الإنتاج الرأسمالي "الشرق تابعا للغرب" وتطورت الكولونيالية كظاهرة ملازمة للرأسمالية، بقدر ما تطورت هذه وأصبحت العلاقة بين المستعمرات والبلدان الرأسمالية المتقدمة في الغرب علاقة ترتبط بنهب المستعمرات وإثراء المتروبولات الرأسمالية.

وكان ماكس فيبر قد عزا نشوء الرأسمالية إلى حركة الإصلاح الديني وظهور الأخلاق البروتستانتية فـ "التحرر من الاتجاه الاقتصادي التقليدي يبدو بمنزلة أحد العوامل التي ينبغي أن تفرز الميل إلى التشكيك أيضا بالتراث الديني، وإلى التمرد على السلطات التقليدية. لم يجعل ماركس من الصراع الطبقي مفتاح قراءة كل المجتمعات، كما لم يبن مفهوم الإنتاج الاجتماعي على قاعدة الإنتاج وإعادة إنتاج الحياة (الشراب والأكل والسكن) بل على قاعدة إنتاج وإعادة إنتاج الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية (وهذا ما يوجب بداهة المادي والرمزي). ويرى ماركس أن الثورة في نظره تعني التحول الشامل للعلاقات الاجتماعية وأن هذا التحول ممكن لكنه ليس أمراً حتمياً. فتناقضات الرأسمالية هي التي تخلق ضرورة تغير المجتمع. بيد أن الأمر لا يتعلق بضرورة الممكن المرتبطة بحدث القطيعة الذي يتسبب به الفعل الجماعي، ومفهوم الثورة عند ماركس لا يحمل معاني محددة في الحاضر بل يمتد إلى المستقبل.

 

لقد جعل نمط الإنتاج الرأسمالي "الشرق تابعا للغرب" وتطورت الكولونيالية كظاهرة ملازمة للرأسمالية، بقدر ما تطورت هذه وأصبحت العلاقة بين المستعمرات والبلدان الرأسمالية المتقدمة في الغرب علاقة ترتبط بنهب المستعمرات وإثراء المتروبولات الرأسمالية.

 



ويعتبر ماركس أن إدراك زمن المفهوم وتأثيره والبنى المتوافقة معه يتم من خلال التطور التاريخي. وبذلك فإن مفهوم الثورة لا يعبر عن العلاقات التي يدركها فحسب، إنما يشكل أحد عوامل تلك العلاقات، فيفتح المفهوم بعض الآفاق ويعلق بعضها الآخر. ويشكل هذا النفي للمفاهيم المغلقة على نفسها المسار العلمي لماركس. ومن ناحية ثانية، لا يعني تطور المفهوم عدم تحديد المعنى. فكثرة المعاني لا تلغي منطق الحركة الخاصة بالمفهوم، وقد تحمل بعداَ مضمراً يرجع إلى لاوعي الأفراد والمجموعات وقد يحمل المفهوم شيئاً من الانسجام ومن التناقضات. لكن المفاهيم تظل بشكل عام غير حيادية، بما أنها تصاغ وفق رؤية اجتماعية مهيمنة.

وفيما يرى أنجلز أن مؤلفات ماركس هي مؤلفات تامة لا تناقض فيها بين البرنامج والفعل ولا تردد حول الطريق المفترض اتباعه للتقدم في النقد، وهي تقدم في نظره، تفسيراً شاملاً للتاريخ والمجتمع يكفي أن تغذيه بوقائع جديدة وتنظيرات ثانوية كي نتممه ونجعله عملياً أكثر ويرى نقاد الماركسية أن ماركس لم يتحدث البتة عن طبقات كأشخاص فاعلين أو كممثلين جماعيين يتدخلون على نحو واع في العلاقات الاجتماعية.

فالطبقات في نظر ماركس هي مركبات من السيرورات والحركات الاجتماعية التي لا يمكن تشبيهها بكيانات ثابتة والطبقات هي في إعادة بناء دائمة بفعل تراكم رأس المال ودورانه. ويمكن الإشارة إلى التغييرات التي تصيب العلاقات بين مختلف عناصر البورجوازية والتغييرات التكنولوجية والتغيرات التي تشمل طبقة المأجورين (أولئك الذين ينتجون فائض القيمة) لنواحي تراتبية المهمات والأهلية وطرق التكون وطرق الانخراط في العمل وعمليات الإنتاج وتتجدد هذه الطبقة من خلال الهجرات والحركية الاجتماعية.

تنبع أهمية كتاب جاك آتالي من المسألة التالية: اليوم وقد كانت النظم السياسية التي اعتنقت الماركسية تزول جميعاً من على سطح الأرض، وبعد انقضاء فترة من الزمن على مؤلفات كارل ماركس، وبصرف النظر عن القيمة العلمية التي يحتلها فكره في الثقافة العالمية، وفي أعقاب المنحى الذي سلكته الماركسية على صعيد النزعة الطوباوية التي تحكمت في سيرورتها التاريخية، ولا سيما بعد النتائج والتداعيات الكارثية المتعددة على جميع المستويات الأيديولوجية والثقافية والسياسية، كان لا بد من وقفة فكرية هادئة تعيد النظر في كل ما كتب وقيل حول فكر ماركس، فضلاً عن البحث النقدي العلمي في طبيعة أزمة الرأسمالية المالية المعاصرة.

 

يرى ماركس أن الثورة في نظره تعني التحول الشامل للعلاقات الاجتماعية وأن هذا التحول ممكن لكنه ليس أمراً حتمياً. فتناقضات الرأسمالية هي التي تخلق ضرورة تغير المجتمع. بيد أن الأمر لا يتعلق بضرورة الممكن المرتبطة بحدث القطيعة الذي يتسبب به الفعل الجماعي، ومفهوم الثورة عند ماركس لا يحمل معاني محددة في الحاضر بل يمتد إلى المستقبل.

 



يقول الكاتب جاك آتالي في معرض إعادة قراءته لفكر ماركس: "الرؤية الكلية للعالم هي رؤية (البيان الشيوعي) و(رأس المال) والثغرات التي تتيح عدة تفسيرات هي التي تواكب كل أعمال ماركس. والممارسة المتسمة بالحرية والديكاتورية في آن، هي ممارسته أيضاً. والصديقان اللذان سيدفنانه تحت عدة طبقات متعاقبة من التبسيط، ثم من الأكاذيب، كانا إنجلز وكاوتسكي. والقائدان الكاريزميان، كانا لينين وستالين، وهما يعتمدان على الحزب الشيوعي والكومنترن. أما الوضع السياسي الذي أتاح استيلاء الماركسية على السلطة فكان الحرب العالمية الأولى، في روسيا وبروسيا باعتبار هذا البلد وذاك الوارثين المنحرفين لهيغل وماركس، ولنزعة توجيهية وطنية، ولاشتراكية أممية. إذ هناك سيولد الانحرافان الرهيبان للقرن العشرين: النازية والستالينية (ص 383) .

إن المهم أيضاً الإشارة إلى حقيقة منسية جداً هي أن الإصلاح الديني لا يعني بالتأكيد إزالة سيطرة الكنيسة بشكل نهائي على شؤون الحياة بل يعني بالأحرى استبدال القديمة منها بشكل جديد من السيطرة، وهي تعني استبدال سلطة متراخية إلى الحد الأقصى، وغير موجودة عملياً في حينه، بأخرى تخترق كل ميادين الحياة العامة والخاصة، فارضة تنظيماً للسلوك شديد الوطأة والقساوة... إن البروتستانت قد أيدوا استعداداً خاصاً للعقلانية الاقتصادية سواء كانوا يشكلون شريحة مسيطرة، أم شريحة مسيطراً عليها، الأغلبية أم الأقلية. وهذا ما لم يكن ملحوظاً عند الكاثوليك، في هذه أو تلك من الحالات. بالنتيجة ينبغي ألا يبحث عن مبدأ الاختلاف في المواقف هذه فقط في الظروف الخارجية والمؤقتة تاريخياً واجتماعياً، بل أيضاً في الطبيعة الملازمة للمعتقدات الدينية ومن داخلها.

وقد رأى ماركس أن المسيحية هي الدين المتناسب مع الاقتصاد السلعي. "بالنسبة لمجتمع منتجي البضائع، حيث تتلخص علاقته الانتاجية الاجتماعية العامة في أن المنتجين يعتبرون هنا منتجات عملهم بضائع، وبالتالي قيماً، وحيث تقف أعمالهم الخاصة بهذا الشكل الشيئي تجاه بعضها البعض كعمل بشري متجانس، بالنسبة لهذا المجتمع يكون شكل الدين الأكثر ملاءمة هو المسيحية بعبادتها للإنسان المجرد ولا سيما في مظاهرها البرجوازية كالبروتستانتية والربوبية... إلخ" (كارل ماركس ـ رأس المال ـ دار التقدم ـ موسكو الكتاب الاول ـ الجزء الاول "ص 117").