مقالات مختارة

حرب اليمن والسلاح الأمريكي للسعودية

1300x600

في ظل التوازنات السياسية والتحالفات الإقليمية والدولية التي سادت العالم منذ الحرب العالمية الثانية، يصعب استشراف المستقبل المنظور في ظل ما يبدو من سياسة أمريكية "جديدة" في عهد جو بايدن.

 

فالتشوش الذي هيمن على العالم خلال رئاسة سلفه، دونالد ترامب، يمنع الرؤية الواضحة لما هو قادم من الأيام، حيث يصعب الاعتقاد بحدوث تغيير جذري في السياسة الأمريكية التي تعد تجسيدا لمقولات الإمبريالية والرأسمالية والاستكبار.

 

يصدق ذلك خصوصا بعد تأكيدات البيت الأبيض التزامه بضمان أمن "إسرائيل" وعدم استعداده لاتخاذ سياسات تزعج قادته. فهل يُتوقع مثلا أن يقرر بايدن سحب سفارة بلاده من مدينة القدس المحتلة؟


هل سيلغي القرار الإسرائيلي بضم الجولان ومساحات من الضفة الغربية للكيان؟ هذا لا يلغي أهمية بعض الخطوات التي أعلنها الرئيس الجديد، كالعودة لمجلس حقوق الإنسان أو الغاء قرار ترامب بمنع مواطني سبع دول إسلامية من دخول أمريكا، أو التخلي عن تصنيف جماعة "أنصار الله" اليمنية على لائحة الارهاب.

 

ولكن ربما الإعلان الأهم الذي سيكون مؤشرا لاتجاه السياسة الأمريكية، هو وقف تزويد السعودية بالأسلحة التي يمكن أن تستخدم في العدوان على اليمن، والحديث عن سحب الولايات المتحدة من أية عمليات هجومية في تلك الحرب.

 

إن الحديث عن السلاح الأمريكي للسعودية له أبعاد عديدة؛ أولها أن العلاقات الأمريكية السعودية تعدّ أحد ملامح النظام السياسي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأنها تحددت عبر لقاءات رفيعة المستوى شملت الرئيس الأمريكي روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس الدولة السعودية الحالية (اتفاقية كوينسي 1945).

 

هذه العلاقات تواصلت طوال سبعين عاما، وأصبحت من ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية. وكان لتلك العلاقات انعكاسات على أوضاع العالم العربي والشرق الأوسط، وكانت مثار لغط شديد ورفض من قبل التيارات التقدمية واليسارية خلال حقبة الحرب الباردة. فلم تكن السعودية في نظر أتباع تلك التيارات إلا كيانا تابعا للأمريكان، ومعاديا للتوجهات التقدمية والقومية العربية.

 

وخلال تلك الحقبة، حالت تلك العلاقات دون صعود السعودية إلى موقع الريادة أو القيادة في العالم العربي، وازدادت أهمية السعودية لدى الأمريكيين بعد الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979، التي أنهت ما كان يسمى "سياسة العمودين" أي إيران والسعودية. واهتمت أمريكا وحلفاؤها الغربيون بالسعودية خصوصا بعد الطفرة النفطية وتوسع القدرة الشرائية السعودية.

 

وكانت بريطانيا من أهم حلفاء أمريكا بعد الحرب، ووطدت علاقاتها مع السعودية. وفي عهد السيدة مارغريت ثاتشر، تمت أكبر صفقة عسكرية في التاريخ آنذاك أطلق عليها "اليمامة"، التي بلغت تكلفتها بعد انتهاء مدتها أكثر من 80 مليار دولار، وشملت تزويد السعودية بطائرات تورنادو.

 

أما البعد الثاني لتك العلاقات، فقد انعكس على التوازن الدولي خلال الحرب الباردة؛ فكانت السعودية وحليفاتها الخليجيات محسوبة على الفلك الغربي في مقابل المعسكر الشرفي بزعامة الاتحاد السوفياتي.

 

وعلى صعيد العالم العربي، كانت الدول "التقدمية" آنذاك تضم كلا من مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا والجزائر بالإضافة لمنظمة التحرير الفلسطينية. فكان العالم العربي موزعا بين هذين التحالفين، وانعكس ذلك على الحراكات الشعبية التي هيمن الشيوعيون والقوميون والبعثيون عليها، بينما كانت الحركات الدينية التقليدية تتحرك بغطاء ديني ومالي سعودي، ولكنها كانت محدودة الانتشار والأثر.

 

ولم يكن للتيارات الإسلامية دور إلا بعد ثورة إيران وصعود ما أطلق عليه "الإسلام السياسي"، الذي حل محل التيارات اليسارية، وكان مرفوضا من قبل السعودية.

 

لقد ساهم الاستقطاب الدولي آنذاك في تعزيز مكانة السعودية لدى أمريكا، فتم تسليحها بدون حساب، خصوصا مع تصاعد النفوذ الإيراني الإقليمي والخشية من رياح الثورة الإسلامية التي كانت تهدد بين الحين والآخر بالوصول إلى الجزيرة العربية، خصوصا بعد حادثة جهيمان العتيبي في العام 1979.

 

وكان التدخل السوفياتي في أفغانستان فرصة لتمدد النفوذ السعودي الإقليمي من خلال مقاومته ودعم "المجاهدين".

 

وهذا يؤكد أهمية الدور السعودي في التوازن الدولي، وأثره على توجهات العالمين العربي والإسلامي. وطوال العقود الأربعة الأخيرة تمدد النفوذ السعودي مستفيدا من أمرين: انحسار الوجود اليساري وكبح جماح الحركات الإسلامية بالقمع والاضطهاد في أغلب البلدان العربية. ولذلك ستبقى أمريكا متشبثة بالحكم السعودي، ولن تغير جوهريا سياساتها تجاهه.


البعد الثالث، أثر العلاقات الأمريكية – السعودية على التحالف الغربي بشكل عام، فإعلان بايدن قراره وقف تزويد السعودية بالسلاح ربما كان منسجما مع توجهات بعض الدول الغربية، ولكنه تعارض مع التوجه البريطاني الذي أصبح مستقلا عن الاتحاد الأوروبي؛ فقد أعلنت بريطانيا أنها لن تتبع القرار الأمريكي، بل ستواصل سياسة تصدير السلاح للرياض ضمن ما أسمته "شروط إجازات التصدير".

 

فبريطانيا معروفة بتأسيس سياساتها وفق ما يضمن مصالحها الاقتصادية، ولا تريد التفريط بها، وترى في السعودية شريكا تجاريا مهما، يستورد منها 40 بالمائة من صادراتها العسكرية، وإن كانت تراها منافسا على صعيد النفوذ الإقليمي وأمن الخليج الذي تعدّه لندن منطقة نفوذ تاريخية لبريطانيا. بينما لدى بعض دول الاتحاد الأوروبي سياسات ومواقف مختلفة نظرا لمتانة اقتصادها.

 

فألمانيا أدت دور قيادة العالم الغربي في السنوات الأربع الماضية خلال رئاسة ترامب، الذي سحب بلاده من المؤسسات الدولية وقلص نفوذها القيادي في العالم.

 

وتعدّ عودة بايدن للمسرح الدولي نقطة إيجابية من وجهة نظر بريطانيا التي تجري وراء أمريكا، خصوصا في التصدي للصين وروسيا.

 

وفي ضوء الوعي الشعبي في أوروبا بأوضاع الشرق الأوسط خصوصا تجاه الحرب على اليمن، فمن المتوقع أن تتوسع دائرة الاختلاف في المواقف والسياسات بين بريطانيا وأوروبا؛ نظرا لعدم استعداد بريطانيا لتغيير سياساتها في الشرق الأوسط، وإصرارها على تعميق تحالفها مع السعودية والإمارات والبحرين، فهي تعدّ ذلك التحالف عاملا إيجابيا للضغط على إيران، خصوصا في مجال أمن الخليج الذي تصر بريطانيا أن تكون لاعبا أساسيا فيه.


البعد الرابع: أثر تلك العلاقات على توازن القوى المستقبلي مع كل من روسيا والصين، فبينما تسعى أوروبا للتحاور معهما وتتجنب سياسات المواجهة، فإن للولايات المتحدة سياسة أخرى ستزداد وضوحا في فترة بايدن.

 

وقبل أن يستلم منصبه، وقّع الاتحاد الأوروبي اتفاقية اقتصادية مهمة تسمح للمستثمرين الأوروبيين بدخول السوق الصينية. وقالت بروكسل؛ إن "الاتفاق الشامل بشأن الاستثمارات" هو الأكثر انفتاحا من قبل الصين، التي خفّضت العوائق أمام الشركات الأوروبية وعزّزت فرص المنافسة، وشدّدت قواعد حماية البيئة.


وبرغم ذلك، يُتوقع تحسن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن. وتستخدم السعودية علاقاتها مع الصين للضغط على أمريكا، ولكن ليس متوقعا أن تتجاوز الأمور أكثر من ذلك، ولا يستبعد أن تكون تلك العلاقات من العوامل التي تؤدي لتأرجح علاقات السعودية مع الصين، لتتناغم مع تأرجح السياسة الأمريكية تجاه السعودية.

 

وهذا الأمر قد يدفع بايدن لإعادة النظر في سياساته الخارجية، خصوصا إزاء قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. فالسعودية ليست مرتاحة من الصين عموما خصوصا لجهة علاقاتها مع إيران، وهي علاقات وثيقة تزداد ترسخا بسبب تصاعد التنافس السياسي والاقتصادي بين بكين وواشنطن.

 

فالأساطيل الأمريكية تمخر مياه بحر الصين الجنوبي كما تاجد بمنطقة الخليج، وبريطانيا هي الأخرى توجد عسكريا بمنطقة الخليج بشكل يزداد توسعا، بعد مرور خمسين عاما على انسحابها من المناطق الواقعة شرقي السويس كافة.

 

الأمر المؤكد أن أهمية منطقة الخليج تراجعت في العقود الأخيرة، خصوصا مع تقلص الاعتماد على نفطه، ولذلك أصبح التحالف الإنكلو أمريكي أكثر تركيزا على مواجهة ما يعدّه تحديا حقيقيا من الشرق، خصوصا من الصين وروسيا، وهذا ما يجمعهما ويجعل من السعودية حليفا مهما لدعم تلك الاستراتيجية.

 

(القدس العربي)