كتاب عربي 21

أصوات الفلسطينيين في صناديق الوهم.. كشف حساب!

1300x600
بينما كان وزراء الخارجية العرب يبحثون في مقر الجامعة في القاهرة مستقبل القضية الفلسطينية باعتبارها قضية مركزية على حد ادعائهم، وكما تعودنا أن نسمع منذ عقود، خرج وزير الخارجية الأمريكي الديمقراطي الجديد أنتوني بلينكين، في مقابلة مع السي إن إن، ليقطع أبهت خيوط الشك بأن مواقف أمريكا تجاه إسرائيل ثابتة ثبوت جبال روكي: القدس عاصمة لإسرائيل، والجولان مهمة لأمنها، واتفاقات أبراهام تخدم السلام والتجارة وحركة الناس، ولا شيء تقدمه أمريكا إلا تشجيع الفلسطينيين على التفاوض حول الوضع النهائي قبل إقامة دولتهم، التي تجنب بلينكن اعتبار القدس الشرقية عاصمة لها.

فهل بقي هناك من شك يمكن للمرء أن يتذرع به لبناء آمال، ولو في حدود الوهم وخداع النفس، بأن أمريكا ستتغير يوما وتغير مواقفها؟ ما يتغير هو حدة التعابير والمفردات التي يتلفظ بها ساسة أمريكا المتعاقبون.

كان دونالد ترامب مباشرا وواضحا، وربما أقول أصدق وأقل نفاقا من الديمقراطيين، سواء في مواقفه المعلنة من إسرائيل، أو من الوضع الداخلي الأمريكي. بل إن لغة بلينكن تقترب في صراحتها ونغمتها المباشرة من لغة أسلافه الجمهوريين. فما كان لمايك بومبيو، سلف بلينكن، أن يعبر عن سياسة أمريكا بصورة أفضل، اللهم إلا في لغة الجسد، كما يقولون، إذ الأول فظ ببدانته وغلظته، والثاني أيسر بنعومته وبما يبطن ويخفي.
كان دونالد ترامب مباشرا وواضحا، وربما أقول أصدق وأقل نفاقا من الديمقراطيين، سواء في مواقفه المعلنة من إسرائيل، أو من الوضع الداخلي الأمريكي. بل إن لغة بلينكن تقترب في صراحتها ونغمتها المباشرة من لغة أسلافه الجمهوريين

لو أن أولئك الذين يطبلون للانتخابات في رام الله، والذين يتحاورون في القاهرة استعدادا للمشاركة فيها، سمعوا، وقد فعلوا بالتأكيد، ما قاله بلينكن لقالوا للفلسطينيين الذين يريدون منهم شرعية جديدة لكارثة أوسلو وسلطتها: لقد بلغنا نهاية الطريق، لكنهم لن يفعلوا أبدا، وسوف يجلسون إلى مائدة التفاوض العبثي تلبية للكلام الذي يصدر من واشنطن هذه الأيام، بحدة أقل مما كان يصدر من إدارة ترامب.

إننا نعيش، نحن العربَ، في دوامة وهْم يعبث بشعوبنا ومصائرنا، وأول الواهمين الذين ينخدعون ويخدعون أنفسهم هم من تسلموا زمام أمر الفلسطينيين من بينهم. لقد خدعنا أنفسنا منذ البداية حين تغافلنا في بداية القرن عما يحاك لنا من قبل نفر من شركائنا في العروبة، ابتغوا عروشا ودولا يمن عليهم بها المنتصرون في الحرب العالمية الأولى، ولو على حسابنا. وثرنا وقدمنا الشهداء ونحن نشاهد بريطانيا تهود أرضنا، ثم خدع قادتنا آنذاك أنفسهم وخدعونا حين استجابوا لطلب من بعض العرب بوقف ثورة 1936، وبوعود كثيرة وبعثات دولية تتوافد على ديارنا، وتقارير وكتب بيضاء، والأرض تسلب رويدا رويدا من تحت أقدامنا. ثم ظننا أن جيوش جامعة الدول العربية ستعيننا فخذلتنا كما خذلت شعوبها من قبلنا، وخذلنا أنفسنا فقامت إسرائيل عام 1948 على الهَبْر من فلسطين، ووجدنا أمهاتنا وآباءنا ونساءنا وأطفالنا في خيام شتات جاءتنا من بلجيكا، فأصبحت لنا عنوانا ليس له قرار، واسما يعايرنا به بعض أهلينا. ولم يبق لنا يومذاك إلا بعض عظام من جسد وطننا المستباح، قبل أن تهجم عليها عام 1967 ضباع تسحقها اليوم بين فكوكها القوية في الضفة الغربية، وتحاصر غزة الحرة وأهلها.

وثرنا في مواطن اللجوء لعلنا نعود لفلسطين، وتغافل قادة ثورتنا عن الحقائق في تلك المواطن، لنجد أنفسنا نغرق في صراعات كنا سندرك أن نشوبها حتمي، لو أننا استقينا العبر والدروس مما عشناه في السنوات السابقة. ثم توسعت دوائر شتاتنا، ثورة وشعبا، وتوسعت معها دوائر الوهم في عقولنا، فركنَّا سلاحنا جانبا، وأصبحت الفنادق بديلا للخنادق، ورحنا نتساقط في عماياتنا واحدة تلو الأخرى.
نجد أنفسنا نغرق في صراعات كنا سندرك أن نشوبها حتمي، لو أننا استقينا العبر والدروس مما عشناه في السنوات السابقة

قلنا للعالم نقبل بدولة واحدة على أرضنا نتقاسمها مع عابرين حلوا محلنا لا يعرفون ترابنا ولا يعرفهم، ولا هم من سحنتنا ولا نحن من سحنتهم، فرفضوا وظلوا يقتلعون جذورنا من أرضنا، ويطاردوننا في المنافي في ديار بني جلدتنا، وفي غيرها خارج ما نسميه ونؤمن به وطنا لكل العرب.

ثم طالبنا بأن نكون وحدنا المسؤولين عن فلسطين نقرر مصيرنا ومصيرها، مع أنها ما انفصلت يوما، عبر تاريخها الأقدم فيما سطرته البشرية، عن محيطها الأقرب في جزيرة العرب، وعن محيطها الأبعد قليلا في ربوع الهجرات المتعاقبة، حتى شواطئ الأطلسي غربا، وتخوم جبال زاغروس الإيرانية شرقا، وقلب أفريقيا جنوبا وتخوم الأناضول شمالا.

وتاهت بنا الأشرعة فلم نجد في لجج المنافي مراسي نطمئن لها وتطمئن لنا، ووجد النظام العربي الفرصة السانحة ليتنصل من فلسطين، وينسلخ من مسؤولياته نحوها لعل الواحد منهم يجد بالتقرب من الشيطان ملاذا يحميه من غضبه. فتهافتت الأمة عاما بعد عام وفشلت أيما فشل، وما ظلمها أحد بل هي تظلم نفسها حتى اليوم، وقادتها ماضون في غيهم وهم يدوسون على جثة فلسطين.

ثم أعلنا قيام "دولتنا" على الورق وفي أروقة الوهم، واستمرأ الثائر السابق المشية على السجاد الأحمر، وكأننا في إحدى حفلات مشاهير هوليوود! وكم صفقنا حين ناشدنا العالم ألا يضطرنا لأَنْ نسقط غصن الزيتون الأخضر من أيدينا، بعد أن أسقطنا البندقية.

ثم قلنا نقبل بدولة على ما تبقى قبل عام 1967 وغيَّرنا مواثيقنا ووقفنا في صف بائعي أسواق النخاسة، نهتف ونرخص ما نقبله يوما بعد يوم.

وذات ليل احتطبنا في أصقاع أوسلو وعدنا، في غفلة من شعبنا ومن أمتنا، لنخدع أنفسنا، بل لا نخجل من الكذب عليها، عدنا وليس في وفاضنا إلا اتفاقيات تؤمن لعدونا أمنه بأيدينا، وتجعل شعبنا قوة عمل تعمل لديه، إذ لا يجد معينا يكفيه في الداخل والخارج.

وهل حفظ لنا عدونا عهود أوسلو؟ حاصرنا فلم نجد سلاحا ندافع به عن أنفسنا، وقتل كل حلم راودنا ونحن نمشي على السجاد الأحمر، ونستعرض الحرس ونتوهم ونغرق في أوهامنا وما زلنا.

نتوهم أن ساكنا جديدا للبيت البيض سينصفنا، إذ يقبل أن يستقبل رئيس سلطتنا أمام موقد النار في المكتب البيضاوي وقد استنكف عن ذلك سلفه. وكم فرحنا مثل الأطفال إذ دعونا على دونالد ترامب بخراب البيت، وفرحنا بخروجه واعتبرناه استجابة ربانية لدعوتنا.
نتوهم أن ساكنا جديدا للبيت البيض سينصفنا، إذ يقبل أن يستقبل رئيس سلطتنا أمام موقد النار في المكتب البيضاوي وقد استنكف عن ذلك سلفه

وها نحن اليوم نتراكض نحو صناديق الوهم لنجدد البيعة لسدنة أوسلو قبل أن يواصلوا ماراثون المفاوضات بلا نهاية، فحياتنا مفاوضات ومفاوضات ومفاوضات ،كما قال كبير المفاوضين الراحل صائب عريقات. فنحن نفاوض ونفاوض وما من تلة أو رأس جبل في الضفة الغربية التي نحلم بدولة عليها، بل على بعضها، إلا وعليها مستوطنة تقضم الأرض يوما بعد يوم.

نفاوض وننسق أمنيا مع عدونا ونطالب العرب المطبعين ألا يفعلوا، فكيف؟ وهؤلاء فاشلون ضاقت عليهم عقولهم وقصرت بهم همهم فخذلوا شعوبهم قبل أن يخذلوا فلسطين.

نعم نحن نتوهم اليوم جميعا، حتى أولئك الذين ما زالوا يقبضون على الحق وعلى البندقية في غزة الأبية. ويا لها من خديعة! فمن يشاهد من عامة الشعب في الضفة الغربية تلفزيون فلسطين يتحدث عن الحملات الانتخابية، يتخبطه الوهم فيظن أننا مستقلون، ولا يفيق من وهمه إلا حين يجد سلاح أحد جنود الاحتلال مصوبا عليه عند أحد الحواجز.

أما أولئك الذين لا يقفون طويلا عند الحواجز من خاصة الناس، فلا يريدون أن يستفيقوا لأن الوهم هو نعيمهم، كما هو حال أخي الشقاوة في الجهالة ينعم. وقد لا نستفيق جميعا من غفلتنا إلا حين تحاول إسرائيل تحقيق ما قاله بلينكن في مقابلته مع السي إن إن: "لكن كما قلت بحق، هذا لا يعني أن تحديات العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين تختفي. لا يزالون هناك. إنهم لن يختفوا بأعجوبة". وهذا الصدق الوحيد الذي تفوه به بلينكن في المقابلة، فنحن الشعب هنا يا سيادة الوزير وسنبقى.