قضايا وآراء

السودان: ما وراء أجندة الاتهام بالإرهاب.. زلزال المراكب أم أجندة يائسة؟

1300x600

(١)
بيان لجنة التمكين في السودان في ٣٠ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢١م يحمل مضامين غاية في الخطورة، ويكشف أبعادا جديدة في توجهات الزمرة الحاكمة وحواضنها السياسية، والانطلاق من فرضية عربات بلا لوحات واستهداف عضو لجنة واتهام طرف سياسي، وإثبات التهمة عليه والتأسيس على ذلك. كلها سياقات وقرائن تؤكد عمق الأزمة السياسية وتعقيدات المشهد الإقليمي وتأثيراته، ولا يمكن قراءتها بعيدا عن تصريحات أخرى ومواقف يأئسة.

وجاء نص البيان كالآتي: "مساء أمس السبت 30 كانون الثاني/ يناير 2021م حيث توقفت ثلاث سيارات ماركة بوكس تايوتا بدون لوحات، تحمل على متنها عددا من الأشخاص الملثمين، شكلوا تهديدا على المنزل، وحينما توجه طاقم الحراسة الموجود بالمنزل نحوها غادرت بصورة سريعة، حيث استخدمت الطرق الداخلية بدلا عن الإسفلت"، ودعت اللجنة بناء على ذلك تصنيف النظام السابق كجماعة إرهابية.

وفي رأيي أن القفز لاتهام النظام السابق بالإرهاب يعبر عن أربع فرضيات:

أولا: إحساس بالعجز والضيق لدرجة انسداد الأفق، مما أدى لحالة من اليأس، والشعور بالفشل أمام تراكم الأزمات، ولا مفر سوى خلق زوبعة وإدخال البلاد في فتنة، وقوى اليسار ذات تجربة في هذا المجال.

وثانيا: لفت انتباه قوى إقليمية، ذات اهتمام بهذا النوع من الخطاب والهواجس، خاصة أن المنظومة الحاكمة تعيش حالة عزلة وخيبة من التعاطف الدولي، خاصة أوروبا.

وثالثا: إحداث انقسام مجتمعي، مع تطورات الجبهة الشرقية، والحشود العسكرية التي تقودها إثيوبيا، مما يضعف الجبهة الداخلية.

ورابعا: استقطاب دعم شعبي مع أعضاء اللجنة بعد تكاثر السهام، فقد اضطر رئيس اللجنة الفريق ياسر العطا تقديم استقالته، وقال إن "كل مستويات الحكم تنتقد أداء اللجنة". والبلاغات تحاصر د. صلاح مناع وذهب للاستنصار بحزب الأمة القومي، وقد انحسر التعاطف الشعبي، وحتى الأجهزة الأمنية والشرطة والقضاء والنائب العام أبدوا تحفظات على أداء اللجنة، ولم يعد ثمة مخرج سوى البحث عن "شماعة جديدة".

ولكل من هذه الفرضيات مؤشرات وإثباتات، وربما لكل منها نصيب وتأثير، ومن بين المجموعات المتصارعة، فإن لكل طرف مصلحة في تقديم أجندة على أخرى.

وحدوث أي واحدة من هذه الفرضيات كارثة وطنية، وذات عواقب وخيمة وتتحمل وزرها قوى "قحت" بكل مسمياتها والمكون العسكري والشركاء الجدد، وسيدفعون الثمن أمام محكمة التاريخ.

(٢)
إن الفتق أصبح أوسع من إمكانية الرتق، ولم يعد من الممكن التخفي وراء زيف الادعاءات الكذوب والمسرحيات الهزلية، فلا الوطن وجراحاته المثخنة يحتمل مزيدا من هذه الزمرة، ولا المواطن وقد انهالت عليه النصال يرجو منهم نوالا، ولم يعد أحد على استعداد للاستماع للأراجيف والحكايات الفطيرة بعد كل حين وآخر، فالوضع يستدعي تدخل الحكماء والعقلاء والأخذ بيد هؤلاء، وقد أوردوا البلاد والعباد في المزالق والمهالك..

كما أن قواعد النظام السابق وقياداته صبرت على أذى كثير من اعتقال وتشهير ومطاردات ومصادرة ممتلكات وحرمان من حق الوظيفة، وغير هذا، وذلك حفاظا على وحدة الوطن وأمنه واستقراره، وأملا في تماسك المجتمع ونسيجه الاجتماعي، لقد رضوا دفع ثمن هذا الإفراط في التشفي والانتقام مقابل الاستقرار، وتجاوزوا كل محاولات جرهم لفخ العنف والإساءة للآخرين، وهذا عهدهم وسيظل. والذين يتوقعون من الإسلاميين "حماقة" سيحصدون الخيبة، فالسلطة والحكم وسيلة وليس غاية، وأبواب الفكرة مشرعة دعوة للناس وإشاعة للبر وبذلا للمعروف وإغاثة للملهوف، وفي ذلك مندوحة من مغالبة الشأن العام وتحرر من رهن الوظيفة، فلا وقت لهم لتفاصيل أوهام الفاشلين إلا بقدر ما يصيب العامة من عسر الحياة.

(٣)
لقد استغل الشاعر ابن الرومي مركبا، وعصفت به الأمواج، فأنشد قصيدة صوّر فيها المشهد جاء فيها:

.. تطامَنُ حتى تطمئنَّ قلوبُنا
وتغضبُ من مزحِ الرياح اللواعبِ
.. وأَجرافُها رهْنٌ بكلِّ خيانةٍ وغَدْرٍ
ففيها كُلُّ عَيْبٍ لِعائبِ..
ترانا إذا هاجتْ بها الرِّيحُ هَيْجةً
نُزَلزَلُ في حَوماتها بالقواربِ..
نُوائِلُ من زلزالها محو خسفها
فلا خيرَ في أوساطها والجوانبِ
زلازلُ موجٍ في غمارٍ زواخرٍ

وهدَّاتُ خَسْفٍ في شطوطٍ خواربِ..

لقد تلاعبت الريح بالسفينة، وهدرت الأمواج وتلاطمت، وهذا موقف شديد يتطلب إرادة صلبة وعزيمة راكزة وقناعات مستقرة، ودون ذلك وجل وزلزلة. وكذلك أمر الحكم والولاية على الناس، تكتنفه عواصف من الأزمات، تقابل بحسن التدبير والسهر على العمل، والعزم والتوكل، ولا يجدي ترحيل الأزمات نفعا. كما أن الهروب للأمام يخلق تحديات جديدة، وهذا ما حدث خلال عام ونيف؛ تقفز هذه الحكومة من وضع لآخر دون تبصر ودراسة، وتراكمت الأزمات وأحاطت بالوطن من كل جانب، وجاء النذير بالتظاهرات والاعتصامات وهدير الشوارع، وحدثت الزلزلة، ولا تفيد هذه المرة "وصفة إثارة المشاعر"، والدراما المضحكة. هذا الحال يقتضي مواجهة الأمر بشجاعة وحكمة.

(٤)
ومع ذلك، فإن مع المهم الانتباه لخطورة تصرفات اليائسين، خاصة مع خياراتهم المحدودة ونفوسهم الشحيحة ووطنيتهم المنقوصة، مما يستدعي صحوة ضمير العقلاء والوقوف قليلا على المشاريع الخطيرة التي يتبناها البعض عن وعي، أو في سعيهم الدؤوب لاختطاف القرار الوطني والذهاب بعيدا في تمرير أجندة مشبوهة. وفي ظل غياب مشروع وطني متكامل وبرنامج حكومي واضح وسياسات ضابطة، فإن أجندة "التجزئة" ستخلق فتنة كبرى، تلتهم الوطن وأهله جميعا، والذين يحذرون من عواقب ما يجري في بعض البلدان العربية، عليهم إدراك "أنها دخلت من هذه الكوة".

إن مهام الانتقال محددة، وصولا للانتخابات وخيار الشعب، وعلى الحكومة ومؤسساتها السير إليها، وأنصح معارضيها بأن يكون ذلك مطلبهم الوحيد والأهم.