قضايا وآراء

رسالة للثوار: لا تنخدعوا بالثورات السابقة

1300x600
قد تكون الثورات العربية أهم حدث في تاريخ الدول العربية التي أحدثت جدلا كبيرا حول التحول الديمقراطي في العالم العربي: طرقه وعوائقه وفرص نجاحه. وفي هذه الأيام، ومع عودة المظاهرات إلى الشارع اللبناني من بوابة عاصمة الشمال طرابلس، وفي ذكرى الثورة المصرية واستذكار أحداثها، عاد النقاش حول شكل الثورة وأدواتها الأصلح للنجاح وإسقاط النظام.

تجمّع اللبنانيون بمئات الآلاف لأيام عديدة، وهي أرقام نسبة لعدد سكان لبنان، كبيرة وكبيرة جدا. ولكن لا شيء تغيّر، فما هي مشكلة الثورة اللبنانية؟ على المقلب الآخر وبعد الانقلاب العسكري في مصر عام ٢٠١٣، تظاهر المصريون بالملايين وافترشوا شوارعها وأحياءها، ولكن دون جدوى، بل على العكس تم سحقهم في رابعة العدوية والنهضة دون أن يرمش للجيش جفن.

فلماذا "وصفة" تجمع الناس بأعداد كبيرة في الميادين مطالبين بإسقاط النظام نجحت بالأمس ولم تنجح اليوم؟ إذا قلنا إن لبنان يختلف عن غيره من البلدان، وأن الوصفة التي نجحت في مصر ليس بالضرورة أن تنجح في لبنان، لكن لماذا عادت "الوصفة المصرية" لتفشل في مصر أيضا؟ كررت المحاولة مرارا دون أي فائدة أو حتى تغيير طفيف في النظام، فما السبب؟

المشكلة تعود لعدم فهمنا لحقيقة ما حدث في الثورات السابقة، أو بعبارة أدق لأننا لا نريد أن نفهم حقيقة الثورات.

في مصر على سبيل المثال، يخطئ من يعتقد أن نجاح الثورة كان عن طريق تجمهر المصريين في الميادين لترتج بحناجرهم أسوار القصر الرئاسي ويرتعد الرئيس فيتنحى. بل حقيقة ما حدث أنه في جمعة الغضب (٢٨ كانون  الثاني/ يناير ٢٠١١)، يوم الثورة المصرية الحقيقي، استفاد الثوار من أعدادهم الهائلة ليتخطوا الخطوط الحمراء التي رسمتها لهم الشرطة، ليجدوا أنفسهم يصطدمون بها وبحواجزها، فيسيطرون على مراكز ويحرقون أخرى ويدفعون في سبيل ذلك مئات الشهداء وآلاف الجرحى، لتكون النتيجة عندها انهيارا وانسحابا واستسلاما كاملا للشرطة.

عندها، أصبح خط حماية الرئيس المخلوع حسني مبارك الأخير هو الجيش المصري، الجيش الذي وبخبرة وحنكة عالية وبتفكير بعيد المدى وبتاريخ قريب متذبذب مع مبارك وابنه -الذي فضّل رجال الأعمال على لواءات الجيش-، اختار التضحية بمبارك للحفاظ على مكتسباته وسيطرته على الدولة، وإيمانا منه بقدرته على العودة لقيادة المشهد مرة أخرى بعد وقت قصير، وهذا ما كان.

لذا لم تنفع حتى الآن وبعد الانقلاب أي ثورة؛ لأن السر ليس في تجمع الثوار، ولكن سر نجاح الثورة في ميزان القوة. فهل يعتقد أن الحاكم الذي قتل وسحق وشرد وعذب الآلاف ستخيفه يافطة أو صوت؟

وفي سوريا، استطاعت المعارضة بعد تسلحها كسر الرئيس وجيشه وإعلان انتصار الثورة التي قلبت ميزان القوة لصالحها، ولم تستطع إيران بكل قوتها تعديل الميزان حتى تدخلت روسيا العظمى، لتعود كفة الميزان للنظام السوري.

وكانت ليبيا قد أدت دورا كبيرا في دفع روسيا للدخول بثقلها في سوريا للدفاع عن النظام لكي لا تتكرر تجربة ليبيا، فكانت العوامل في سوريا كما ليبيا، حسابات سياسية قاعدتها الأساسية القوة بكل أشكالها الناعمة والخشنة.

أما في السودان، فرئيسه العسكري عمر البشير لم يكن مرحبا به دوليا لكثير من الأسباب، على رأسها دعمه المقاومة الفلسطينية، فاستغلت القوة الدولية مظاهرات الشعب بسبب فساد نظام حكمه، فدعمت مسؤولي الجيش الذين سارعوا لخلعه رغبة في الجلوس مكانه.

الأمر في لبنان لا يختلف على الرغم من الاختلاف العميق بين طبيعة لبنان وباقي الدول، ولكن هل يعتقد أن زعماء الحرب الأهلية الذين ضحوا بخيرة شباب لبنان ودمروا البلد بالمدافع على مدة ١٥ سنة وفرغوه بالفساد بعدها لـ٣٠ سنة؛ سيسلمون "البقرة الحلوب"، بنظرهم، عن طريق دغدغة مشاعرهم أو إخافتهم بالأعداد الشعبية؟

لعل في لبنان جوانب أعقد من مصر، ولكن هناك فسحة انتخابات يمكن التغيير من خلالها، ولو أن ٧ أيار/ مايو ٢٠٠٨ أنبأ بعكس ذلك. فعندما أعلنت الحكومة اللبنانية قرارات لم تعجب الطرف صاحب القوة في لبنان، اجتاح بيروت ليسوق لبنان لاتفاق الدوحة، وتصبح برضا الجميع وخوفا من السلاح، عصمة لبنان في يده.

إنه قانون الغابة "الحكم للأقوى".

لا ينكر أحد أهمية الضغط الذي تضعه المظاهرات على عاتق المسؤولين، ولكن هذا الضغط يدخل ضمن ميزان القوة الأوسع والأشمل والأعقد. وقلب نظام حكم، بحسابات الملاكمة، لا تسجل فيه المظاهرات ضربة قاضية، ومع الأسف، وفي أغلب الأحيان ولا حتى الانتخابات، ولنا في مصر والجزائر وفلسطين وحتى لبنان عبرة.

يعلم قسم كبير من الثوار علم اليقين أن موضوع إسقاط الدكتاتوريات موضوع معقد، ويحتاج لأسباب القوة على أشكالها من جيش ومال وإعلام ودعم خارجي، ولكن تتشابك القدرة مع الرغبة مع طبيعة الثائر العربي "الطيب"، ليقنع نفسه أن منشور فيسبوك أو تويتر والهتاف بصوت عال كان كافيا لإسقاط أنظمة سابقة، وأنه سيكون كذلك في قادم الأيام، ليتجنب الثائر الحقيقة المرة، وهي أن النضال الثوري يحتاج لتخطيط وتدبير وتنظيم ودعم وتغطية وقوة.

كان نتيجة هذا الفشل في المقاربة، فشل في إعادة إحياء الثورة المصرية وسيطرة الجيش على مصر، وإعادة إنتاج النظام العسكري السوداني وخفوت الثورة اللبنانية، وما ترافق مع ذلك من شهداء واعتقالات وتشريد، دون فائدة حقيقية في ميزان القوة.

النداء للثوار يمكن تلخيصه بأن عليهم في كل دولة استيعاب الحقيقة المرة الراسخة في علاقات الأنظمة وحركات التغيير للاعتراف بها والعمل على تطويرها، وإيجاد بدائل حقيقية بديلة عن إزهاق الأرواح والأوقات في غير مكانها دون التركيز على موازين القوة، التي حتما تختلف من بلد لآخر، عندها بكل تأكيد ستختلف طريقة التعامل الصحيحة في كل بلد مع اختلاف ميزان القوة فيه.

تعتبر المظاهرات من أهم عوامل خلط أوراق اللعب السياسية، ولكنها يجب أن تترافق مع تواصل خارجي وتنظيم داخلي وتغطية إعلامية وقوة تحمي الثورة، أو على الأقل تضع السلاح خارج المعادلة (كما هو حال الجيش التونسي الذي لم يتدخل، فحيّد القوة العسكرية من المعادلة، فكان هذا هو السبب الأهم في نجاح الثورة).

إن التغيير لا محالة قادم، ولكن، ومع الأسف، صدق من قال:

لا رأي للحق الضعيف ولا صدى   والرأي رأي القاهر الغلاب

لا عدل إلا إن تعادلت القوى   وتصادم الإرهاب بالإرهاب