قضايا وآراء

لبنان: عصفورية السراب.. ألو بايدن

1300x600
وصل بايدن إلى البيت الأبيض ولم تصل الحكومة اللبنانية الجديدة إلى السراي الكبير في وسط المدينة المحطمة منذ اندلاع انفجار المرفأ الشهير (بيروتشيما).. لم تفلح كل الوساطات والتدخلات من القامات الداخلية والخارجية للأسف، لا الرئيس ماكرون وما يمثل في الوجدان اللبناني والثقل الدولي الأوروبي، ولا غبطة بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق المدعوم فاتيكانيا استطاع أن يجمع الأضداد كلهم على الطاولة، حتى مآسي اللبنانيين في أيام حجرهم القاسية والمثقلة بالجوع والعوز والقلة لم تنجز الحد الأدنى من العودة إلى الضمير الإنساني والوطني الذي تكاد تشعر أنه اضمحل أو رحل.

إنذار الفوضى الكبرى.. طرابلس

الناس في واد اللقمة المفقودة والمال المحتجز في دهاليز المصارف من جهة والدولة من جهة أخرى، وبينهما المصرف المركزي وحاكمه الذي بات يتأرجح كرسيه تحت ضربات الداخل والخارج في مشهدية درامية قاتلة. أما أهل الحل والعقد فهم في واد يقف عند مقولة المسودة الحكومية في بعبدا من جهة، وحرب البيانات بين الرئاسات من جهة أخرى، وطروحات دستورية وغير دستورية وبحث عن جنس الملائكة، ودعوة إلى التمديد في جمهورية لم يبق منها شيء، ودعوات لانتخابات مبكرة لمجلس نيابي أسير الخارج والإقليم.

ببساطة إننا في عصفورية المشهد اللبناني الذي يبدأ من أصغر تفصيل لبناني باهت ويمر بالإقليم النائم على جمر تحت الرماد، وصولا إلى أمريكا المنشغلة بمشاكلها الداخلية والخارجية. وهنا نسأل: هل من يذكر المعنيين أن الناس باتوا قاب قوسين أو أدنى من أن ينفلت عقالهم ويعودوا إلى مشاهد الفوضى التي لا تخدم أحدا إلا الدمار في الممتلكات مثل الدمار الكامن في النفوس والغالية طرابلس مثال؟ وللتذكير فهي أفقر مدينة على شاطئ المتوسط بحسب المنظمات الدولية!

ترى هل نسي الجميع مفاعيل انتفاضة 17 تشرين؟ ألم يتعظ أحد بعد؟!

الناس جوعى ومدمرون من الداخل ويائسون وبائسون.. انظروا إلى التقارير حول البؤس واليأس في لبنان.

عصفورية الكل في الكل

إن العصفورية القائمة حتى الساعة تستلهم اللغة الخشبية ذاتها في الاعتماد على اتصالات فوق الطاولة وأخرى تحت الطاولة، ومبادرات من هنا وهناك، وكأن المطلوب مفقود والمراد واحد في لعبة اللف والدوران: حكومة مستقلة الرأي قادرة وفاعلة ولها القبول المحلي والإقليمي العربي والدولي؛ لانتشال ما تبقى من وطن ومواطنين عبر إصلاحات اقتصادية وإدارية وسياسية وقضائية.. حكومة تمتلك هامشا من القدرة لمواجهة مرحلة حساسة تنذر بزوال وطن كما وصفها ناظر الخارجية الفرنسي معالي السيد جان إيف لودريان، حينما وصف السياسيين اللبنانيين بالانفصال عن الواقع مما يهدد بزوال لبنان!!

إن العصفورية المستمرة تعول اليوم على الاتصال بين ماكرون وبايدن لحلحلة الملف اللبناني، وبمجرّد تسريب مضمون الاتصال الأول بين الرجلين بعد تنصيب الأخير، توهم الجميع بأنّ ثمة جرعة أوكسجين أُعطيت للمبادرة الفرنسية الغارقة في موتها السريري منذ أشهر ولا من يجرؤ على دفنها، حيث لا خيارات إلاها، وبات الكل مترقباً انعكاسات العلاقة الفرنسية- الأمريكية الجديدة على تشكيل الحكومة اللبنانية، في رهان على تفويض أمريكي للرئيس ماكرون دونما استعمال لسلاح العقوبات التي طالت الوزراء خليل وفنيانوس، فطار تكليف السفير أديب وضربت الوزير باسيل فتعقد تكليف الحريري المعقد أصلا في حرب التعويم والإلغاء بين بعبدا وبيت الوسط.

ألو الرئيس بايدن.. أنا الرئيس ماكرون

إن المضي بالركون إلى أن الولايات المتحدة ستترك الفرنسيين يعملون للحل في لبنان قد يكون في محله، لكن من الطبيعي أن يدرك الجميع أن الفيتو الأمريكي في لبنان والإقليم لم تتغير، فالإدارة الجديدة ليست بهذا اللين الذي ترغب به بعض الأطراف اللبنانية. كذلك من قال إن الفرنسيين لا يزالون بنفس الزخم الذي كان أيام التعاطف بعد انفجار المرفأ والاندفاعة الماكرونية؛ التي قوبلت بلا مبالاة من معظم الأطراف السياسيين اللبنانيين الذين تعاملوا مع مبادرة ماكرون إما من زاوية المصالح الإقليمية أو من ركن المصالح الشخصية والفئوية، وإما من واقع تقاسم الجبنة في لعبة المحاصصة التي لن تنتهي إلا بخراب الهيكل فوق رؤوس الجميع.

إن نجاح المبادرة الفرنسية الأولى توقف عند جملة معطيات وأمور داخلية بالأساس، فهل تغير شيء من حسابات فرقاء الداخل؟ فالفريق الرئاسي لا زال يدور في لعبة الصلاحيات والدستور والمواد القانونية وتعويم من هنا ورسائل كلامية وصوتية من هناك إلى كل من يعنيهم الأمر في الداخل والخارج، ناهيك عن طروحات خارج السياق والزمان والمنطق. أما الفريق المعني تكليفا فيبدو مطمئناً إلى وضعه، في ظلّ ما يعتبره إجماعاً على وجوده بحكم موقعه ضمن بيئته السنية على رأس حكومة المبادرة الفرنسية. والفرنسيون يدركون أنه لا بديل عنه لهذه المهمة لعدة عوامل؛ منها بقاء الآخرين في مواقعهم، وأنّه في الدخول الفرنسي المتجدّد على خط تأليف الحكومة، لن يكون الجهة التي ستدفع الثمن.

ولكن ما الضمانة في لعبة الدومينو المتحركة، وعلى ما قال الوزير جنبلاط، مَن لنجاح الحكومة في ظل الاشتباك الحالي الذي سينعكس على داخل الحكومة إن أبصرت النور في غياهب الشهور القادمة؟ وتاليا أين هو دور حزب الله اللاعب الأقوى الذي لا يزال متفرجا على مشهد الانهيار الكامل؟ ولكن إلى متى؟!!

ويسأل البعض: هل لأحد مصلحة في الانهيار الكبير للوصول عبره إلى اتفاق جديد يعدل النظام والدستور ويرسم العقد الاجتماعي الجديد بين اللبنانيين، في اتفاق أكبر من اتفاق الدوحة الشهير الذي جاء بعد أحداث 7 أيار/ مايو 2008، وأدنى من اتفاق الطائف الذي جاء بعد أحداث 1975 وما تلاها من حرب أهلية مقيتة؟

إن الاستمرار في السلبية المطلقة وسياسة انعدام الثقة والرهان على وحي خارجي إلى ما شاء الله هو ضرب من الجنون، لا بل هو البحث عن الماء لشعب ظمآن في صحراء السياسيين البائسين لن يغني من جوع.

يا سادة كُفّوا عن عصفورية المراوحة وتحميل المسؤولية إلى المجهول الذي لن يقود إلا إلى درب واحد؛ ربما يكون جهنم (الجحيم)، حيث سيجد الكل نفسه أمام معادلة ضياع الوطن في عصفورية السراب، حيث الانتظار على شبكة هاتفي قصر الإليزيه الفرنسي والبيت الأبيض الأمريكي.