كتب

هل يضمن النموذج المعرفي التوحيدي إصلاح النظام التربوي؟

إصلاح أعطاب الأمة لا يمكن تصوره دون إعادة الاعتبار للمرجعية العليا للأمة- (عربي21)

الكتاب: "النموذج المعرفي التوحيدي: مدخل للإصلاح التربوي الحضاري عند إسماعيل الفاروقي"
المؤلف: الدكتور حسان عبد الله حسان
الناشر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي
الطبعة الأولى 2019
عدد الصفحات: 336

لم ينل الدكتور إسماعيل الفاروقي حظه من الدراسة، فثمة حصار ضمني على أدبياته وكتبه، ضُرِبَ عليه في الولايات المتحدة الأمريكية، في اللحظة التي كان يخوض فيها حرب المقاربات النظرية والمنهجية في علم الأديان المقارن، ثم ضُرِب عليه في العالم العربي، لا لأي خلفية، سوى أن كتبه وأغلب إسهاماته كتبت باللغة الإنجليزية، فحالت اللغة دون أن تحظى أدبيات هذا الرجل بما يكفي من الاهتمام والعناية.

على أن ثمة اعتبارا آخر، ربما كان مفسرا إلى حد ما لضعف العناية بمنتوج هذا الرجل، كونه كان يكتب في حقل معرفي دقيق، لم يكن ينظر إليه بقدر من الإيجابية، فعلم الأديان المقارن، كان دائما يحمل حساسية شديدة في الدراسات العربية الإسلامية، بسبب الخلفية السياسية التي كانت تؤطر محاولة توطينه في برامج التربية والتعليم في الوطن العربي. ولذلك، ربما راح الدكتور إسماعيل الفاروقي ضحية هذه الحساسية المفرطة.

لكن ما يدعو حقيقة للأسف، أن الرجل، لم يكن يحمل مشروعا فرديا، وإنما كان ينتظم ضمن مشروع جماعي، حمل عنوان صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية، فقد كان من المؤسسين الأوائل لمدرسة "أسلمة المعرفة"، وكان له الفضل في صياغة وثيقتها التأسيسية" إسلامية المعرفة". فكان يفترض من الذين شاركوه هذا الهم، سواء بشكل مؤسسي (المعهد العالمي للفكر الإسلامي)، أو بشكل تشاركي (المفكرون الذين اشتغلوا معه في المشروع ذاته) أن يحملوا هم نقل كتبه إلى اللغة العربية، لتقريب الجمهور الواسع من مشروعه النظري وإسهاماته الفكرية. لكن، هذه المهمة، قد تأخرت كثيرا، وحتى الجهد المبذول إلى الآن ـ رغم المؤتمر الضخم الذي نظمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي حوله في الأردن، وأيضا ترجمة كتابه التوحيد، لا يمثل إلا النزر اليسير المبذول لتسليط الضوء على تراث هذا الرجل.

ويأتي ضمن هذه الجهود، جهد الدكتور حسان عبد الله حسان، عن النموذج المعرفي التوحيدي للدكتور إسماعيل الفاروقي، ودوره في تأطير الجانب التربوي وإصلاح نظامه، على اعتبار أن أزمة الأمة الحضارية، لا يمكن أن تجد حلها دون المدخل التربوي، الذي تعتبر عوائقه وكوابحه مصدرا للأزمات التي تعاني منها الأمة.

لماذا النموذج المعرفي التوحيدي لحل أعطاب النظام التربوي؟

ينطلق الباحث من مسلمة إصلاحية، ترى أن إصلاح أعطاب الأمة لا يمكن تصوره دون إعادة الاعتبار للمرجعية العليا للأمة، وأن تخلف النظام التربوي نفسه، يرجع إلى افتقاده هذه المرجعية العليا، التي تحكم تخطيطه، وترشد سياسات إصلاحه، وتطوره أو تعيد بناءه.

ويقصد الباحث بالنموذج المعرفي التوحيدي، الفلسفة التي تنطلق من التوحيد مصدرا ومرجعية معرفية لبناء النظام التربوي المنشود، ويرى أنه لا يكفي بسط مفاصل هذه الفلسفة التربوية التي تعبر عن هوية الأمة ومرجعيتها واستراتيجيتها المقبلة، بل لا بد من جانب آخر مصاحب، يهتم بوضع الخطط العملية للبناء التربوي، أي الخطة التي تعيد صياغة المفاهيم والقيم والتصورات في النظام التربوي والتعليمي في ضوء معطيات هذا النموذج المعرفي.

 

يعتبر الفاروقي أن أصل الداء يوجد في أعطاب النظام التربوي، الذي فشل في إعادة بناء الإنسان القادر على التعامل مع التحديات، التي تواجه الأمة، وتمنعه من القيام بوظيفته الاستخلافية العبادية التي خلق لأجلها.

 



يتركز جهد الكتاب في محاولة قراءة أفكار الفاروقي واستقراء النموذج المعرفي التوحيدي في ضوئها، ثم محاولة استخدام هذا النموذج أداة منهجية لتحقيق الإصلاح التربوي الحضاري للأمة.
يبرر الكاتب اشتغاله على هذا الموضوع، بالتشخيص الذي انتهى إليه في تقييم واقع النظام التربوي في العالم العربي والإسلامي، إذ تشير الإشكاليات البنيوية التي يعشيها، والازدواجية المعرفية التي يعاني منها (نمط تقليدي من التعليم، ونمط تعليم غربي)، وتعطيل فعالية الاجتهاد فيه، وحالة التغريب والانفصال عن الهوية، إلى أزمة النظام التربوي، وفشله في القيام بدوره الجوهري في تحقيق تقدم المجتمع وتجاوزه لأزماته. 

فيرى أن تقديم النموذج المعرفي التوحيدي الذي طرحه الدكتور إسماعيل الفاروقي، من شأنه إذا أطر النظام التربوي، أن يحل كثيرا من أزماته البنيوية، وأن يخرجه من مآزقه وأعطابه، وأن يتحول إلى أداة منهجية للإصلاح التربوي، حيث بإمكان هذا النموذج أن يصوغ فلسفة تربوية، منشدة إلى هوية الأمة وثقافتها وعقديتها ونظامها القيمي، ومستوعبة للمتغيرات العلمية والمعرفية المعاصرة ومتجاوزة لها، ومستشرفة لرؤية مستقبلية ناجزة في الواقع الاجتماعي المعاصر.

أعطاب التجديد الحضاري في العصر الحديث؟

يستعرض الكاتب سياقات التجديد الحضاري في العصر الحديث، ويتتبع المحاولات الإصلاحية السنية منها والشيعية (محمد عبده، رشيد رضا، حسن البنا، سيد قطب، مالك بن نبي، محمد باقر الصدر، علي شريعتي، ومحمد إقبال، والأبو الأعلى المودودي، ووحيد الدين خان، ومصطفى صبري، وعبد الحميد بن باديس) ويلخص القضايا الرئيسية التي انشغل بها المشروع الإصلاحي لكل علم من هؤلاء، ويستعرض معالم منهجية التجديد الحضاري عند الفاروقي، فينطلق من تقييمه لأزمة الأمة الحضارية، وضرورة استحضار المدخل السنني في فهمها، ليتحصل له من ذلك، تقرير مسؤولية المسلمين عن أزمة الأمة، ويستعرض تقييم الفاروقي لمساعي الإصلاح، التي أقدمت عليها الدول القومية في العالم العربي والإسلامي، ويعزو فشلها، إلى انشغالها بالمتطلبات المادية للأمة، وانطلاقها من مدخل قومي شعوبي، ومحاكاتها للنموذج الغربي في الاستهانة بعقيدة الأمة ومخزونها الروحي.

ويعتبر الفاروقي أن أصل الداء يوجد في أعطاب النظام التربوي، الذي فشل في إعادة بناء الإنسان القادر على التعامل مع التحديات، التي تواجه الأمة، وتمنعه من القيام بوظيفته الاستخلافية العبادية التي خلق لأجلها.

ويشير الكاتب إلى تمحور رؤية الفاروقي التوحيدية، على مفهوم التوحيد ومضامينه وآثاره في الواقع، وتجسداته في التاريخ وفي النشاط الإنساني، وأنه يبني للمسلم عالمه النظري، أي الرؤية حول الكون والحياة والإنسان، وعالمه العملي، الذي يعكس جميع أشكال نشاطه الإنساني، المنطلقة من رؤية الإنسان النظرية في التفاعل مع الكون والحياة.

في الأزمة التربوية للأمة

يستقرئ الكاتب أدبيات الفاروقي، فيستعرض أعراض الأمة على ثلاث مستويات، السياسي، والاقتصادي، والثقافي التربوي. ويركز في تحليل الفاروقي على منبع أزمة الأمة، أي النظام التعليمي، وأن عطبه يرجع بالأساس، إلى النموذج المعرفي، الذي يعمق الشرخ والانفصال والقطعية مع عقيدة الأمة وهويتها، ويرهن عقلها ومستقبلها بالغرب ونموذجه الحضاري، ويلخص الفاروقي أسباب هذه الأزمة في عاملين اثنين: الأول، هو سيادة عقلية الجمود، وغياب الاجتهاد الذي انطلق في الإسلام ليمثل حركة حياة كاملة، والثاني، هو التغريب، وما تعرض له النزم التربوي من اختراقات من قبل المنظومة المعرفية والقيمية الغربية.

ويخلص الباحث بناء على تحليل تقييم الفاروقي، إلى أن الأزمة التربوية التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي، ترجع بالأساس إلى غياب الرؤية الفكرية والفلسفية الأصيلة، التي تشكل قاعدة النظام التربوي والتعليمي، وافتقاد القيادات التربوية التعليمية إلى رؤية للتطوير، وغياب الرسالة الحضارية لدى الأستاذ الجامعي، والمحاكاة الشكلية للمقربات والمناهج الغربية، وغياب الدافعية الحضارية لدى الطالب المسلم، وضعف تمويل البرامج التعليمية.

ويستمر الباحث في استقرائه لمنتوج الفاروقي الفكري في تقييم واقع أزمة الأمة التربوية، فيشير إلى ابعاد أخرى في هذه الأزمة المعرفية، مثل الانفصال بين العقل والوحي، وعدم تلازم الفكر والعلم، والانفصام بين الثقافي والديني، أي بين القيم الروحية وبين السلوك الاجتماعي، ويبني الفاروقي نموذجا معرفيا تقييميا يحاول من خلاله تعليل فشل مساعي حل الأزمة التربوية للأمة، إذ يؤسس هذا النموذج على ثلاث أسئلة: إلى أي مدى مكنت الحركات الإصلاحية المسلمين من تعرف الإسلام؟ وإلى أي مدى مكنت المسلمين من إدراك غايتهم ورسالتهم الإسلامية؟ وإلى أي مدى مكنت الشعوب المسلمة من تطبيق الرؤية التي منحتها إياهم في حياتهم الخاصة. ويعتمد ثلاث مقاييس لتقييم شكل التعاطي مع هذه الأسئلة، يهتم الأول، بالعقل والمعرفة، أي مدى تمكن المسلمين من برامج التعليم الإسلامي، ويؤكد الثاني، على قيمة العمل ومدى التمكن من معاجلة العلل التي يعانيها المسلمون في منطقة معينة، ويعتمد المقياس الثالث، معيار تحويل الإسلام إلى واقع معيش يحقق مشيئة الله على الأرض.

 

الأزمة التربوية التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي، ترجع بالأساس إلى غياب الرؤية الفكرية والفلسفية الأصيلة، التي تشكل قاعدة النظام التربوي والتعليمي، وافتقاد القيادات التربوية التعليمية إلى رؤية للتطوير، وغياب الرسالة الحضارية لدى الأستاذ الجامعي، والمحاكاة الشكلية للمقربات والمناهج الغربية، وغياب الدافعية الحضارية لدى الطالب المسلم، وضعف تمويل البرامج التعليمية.

 



يقيم الفاروقي من خلال هذه الأسئلة والمقاييس الثلاثة، ثلاثة تيارات إصلاحية، تيار التغريب، وتيار السلفية، وتيار الصوفية. فيرى في أزمة التيار الأول، استلابه من قبل النموذج القيمي الغربي، ويرى أزمة الثاني، في جموده على ظواهر النصوص ومناهضته للعقل والتمدن، ويرى في أزمة الثالث، حرفه الحياة الروحية للمسلم وفصلها عن الحياة الاجتماعية.

ويتوقف الباحث على أزمة الصراع بين التيار الأول والثاني، ويستعرض نماذج من المحاولات الإصلاحية للطرفين، وما مثله ذلك من تناقض الأنساق المعرفية المؤطرة لمداخل الإصلاح التربوي والآثار السلبية التي انعكست على واقع الأمة من جراء هذا الصراع.

النموذج المعرفي التوحيدي للدكتور الفاروقي

يخصص الباحث الفصل الرابع من بحثه لبسط الرؤية البنائية للنموذج المعرفي عند الفاروقي، فيستعرض الضرورة الحضارية والتربوية للنموذج المعرفي (تبرير الحاجة إليه)، ويؤسس له من زاوية مفهومية، ثم يحاول أن يبني مفرداته ومفاهيمه وآلياته من خلال استقراء أدبيات الفاروقي.

ففي المستوى الأول، أي الضرورة التي تبرر الحاجة للنموذج المعرفي، يرى الباحث أن الأمر لا تعلق بضرورة واحدة، وإنما بضرورات عدة، تتمثل في معالجة الازدواجية المعرفية، والحاجة إلى ضابط منهجي وناظم فكري لحركة الفكر التربوي، ومواجهة التحديات المعرفية الحضارية، وإنهاء الاحتكار المعرفي الحضاري، وتحديد الإطار المرجعي للجماعات البحثية المتعددة داخل الإطار الحضاري الإسلامي، وتحقيق الوعي بالرؤية الكلية التوحيدية لدى العقل التربوي. 

أما في المستوى الثاني، فيستقرئ الباحث عددا من الإسهامات الفكرية التي اهتمت ببحث مفهوم النموذج المعرفي الحضاري (المسيري، منى أبو الفضل، نصر عارف، علي شريعتي، عبد الحميد أبو سليمان، عبد الماجد القويسي، وليد منير، عبد الرحمان النقيب)، ويخلص من التحليل المعرفي لهذه الإسهامات، إلى تحديد مفهوم النموذج المعرفي التوحيدي، فيعرفه بكونه جملة التصورات والمفاهيم والقيم والأحكام التي تمثل الخريطة المعرفية للعقل المسلم اتجاه المحددات الأساسية (الله، الكون، الحياة).

أما في المستوى الثالث، أي النموذج المعرفي التوحيدي كما ارتسم في أدبيات الفاروقي، فيستقرئ الباحث مرتكزاته (وحدانية الخالق، وحدة الخلق، وحدة الحقيقة ووحدة المعرفة، وحدة الحياة)، ويستعرض مبدأه الجوهري (التوحيد) وتجلياته الفكرية، فيحصر هذه التجليات في المعرفة والقيم والأخلاق والمساواة (الحرية والمسؤولية) والجمال، ويستعرض الأسس التفسيرية التي يعتمدها هذا النموذج المعرفي (الوحدة، العقلانية، ثنائية عالم الخالف وعالم المخلوق، الإدراكية، الغائية، توكيد العالم).

النموذج المعرفي التوحيدي وقضايا الإصلاح الحضاري

يأتي الباحث في الفصل الخامس إلى زبدة البحث وثمرته، أي علاقة النموذج المعرفي التوحيدي بقضية الإصلاح، أو قضية الإصلاح التربوي، باعتبارها المدخل الإصلاح الحضاري عند الدكتور إسماعيل الفاروقي، فيقتصر على محورين اثنين هما، إصلاح الجامعة (إصلاح برامجها ومناهجها وعلاقاتها المؤسسية ومتطلباتها العلمية والتوحيدية)، ثم قضية التكامل المعرفي، وأبعاده التطبيقية، فيؤكد على محورية الدين في الفلسفة التربوية، التي يرتجى إعادة بنائها مرة أخرى وفق النموذج التوحيدي، وإعادة بنائها بوصفها المتركز الأساس في التربية والتعليم، وتجديد الأهداف التربوية، وإعلاء هدف العبادة لله بصيغته التجديدية الحضارية، بوصفه غاية أساسية في التعليم الإسلامي، وإيلاء أهمية كبرى لنظرية المعرفة التي تعد الموجه ألأول لحركة التربية والتعليم وذلك بطرح نموذج جامعة حضارية يتولى الوقف الإسلامي حل مشكلة تمويلها.