قضايا وآراء

تطوّرات أحداث الحرب في إثيوبيا.. والسيناريوهات المتوقعة

1300x600
حكمت الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي إثيوبيا أكثر من ربع قرن، وبعد موت رئيس الوزراء ميليس زيناوي المفاجئ جاء هايلي مريام ديسالين خلفا له، إلاّ أنّه استقال تحت ضغط المظاهرات الشعبية بقيادة الأرومو، وانتقلت السلطة إلى آبي أحمد بسلاسة، ضمن تفاهمات واشتراطات تحالف الجبهة الثورة الديمقراطية للشعوب الإثيوبية (الإهودق) على أن يحافظ القائد الجديد على إرث (الإهودق)، مثل النظام الفيدرالي وعدم ملاحقة القيادات التي حكمت البلاد منذ 1991م، لكنّه لم يتقيّد بذلك لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية.

فالتيغراي كانوا يسيطرون على مفاصل الدولة الأساسية (الجيش، الأمن، المؤسسات المالية، العلاقات الخارجية)، وكان ذلك أمرا لا يطاق للقائد الجديد، فبدأ بتغيير قيادات التيغراي في الجيش والأمن حتى يوازن القوة بين القوميات الإثيوبية في تلك المؤسسات من ناحية، ويأمن من شر سيطرة تيغراي عليه من ناحية أخرى. ومثل ذلك أعلن الإصلاح الاقتصادي وخصخصة الشركات العامة وغيرها.

وهذه الإجراءات وغيرها أدت إلى فقدان قيادات التيغراي امتيازاتها التي كانت تتمتع بها من الثروة والسلطة، وتباعا انسحبت قيادات التيغراي إلى إقليمها. وبدأ الخلاف يتسع بينها وبين آبي أحمد، تلاه تبادل الحرب الإعلامية وملاحقات لبعض العناصر الأمنية من التيغراي بتهمة ارتكابهم جرائم ومدنيين بتهمة الفساد، إلاّ أنّ حكومة إقليم تيغراي رفضت تسليمهم للحكومة الفيدرالية.

ومن الأمور التي زادت الشقة بينهما، إعادة آبي أحمد العلاقات الإثيوبية- الإريترية ونسج علاقات شخصية مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، العدو اللدود لقيادات التيغراي الحالية. وبمرور الوقت بدأ آبي أحمد أيضا ينحو منحى الابتعاد من النظام الفيدرالي ويقترب من النظام المركزي، وقواه الصلبة من الأمهرا.

ازداد التوتر بين الحكومة الفيدرالية والتيغراي، لعدم تقيّد إدارة إقليم التيغراي بقرار البرلمان الفيدرالي القاضي بتأجيل الانتخابات البرلمانية بسبب جائحة كرونا، وإجراء الانتخابات في الإقليم والفوز بها، الأمر الذي عدته الحكومة الفيدرالية مخالفة صريحة للدستور الإثيوبي، وإثر ذلك جُمّدت ميزانية الإقليم. وأخيرا جاءت مشكلة استيلاء حكومة إقليم تيغراي على القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي.

هذه الأمور وغيرها مجتمعة أدت إلى توتر شديد بين الطرفين، إلى أن تطوّرت إلى مواجهات عسكرية عنيفة دخلت الآن في أسبوعها الثالث، وكل من الطرفين يدّعي تحقيق تقدم في العمليات العسكرية ضد الآخر. ويصعب التأكد من ذلك بسبب غياب الإعلام المحايد.

دخل الطرفان الحرب وكل له حساباته وتوقعاته لمآلات الحرب. ويُعتقد أنّ حكومة إقليم التيغراي كانت تراهن في عدة أمور منها: دخول إريتريا في المعركة بصورة واضحة مع آبي أحمد فتصبح الحرب حرب إقليمية، وهو ما سيعجل من تدخل القوى الدولية لإيقاف الحرب، وعندما علمت بعدم مشاركة إريتريا مباشرة في العمليات العسكرية ضربت العاصمة الإريترية بالصواريخ لجرّ إريتريا إلى الحرب، إلاّ أنّ الحكومة الإريترية فوتت هذه الفرصة على التيغراي بضبط نفسها وعدم الرد على قولا أو فعلا.

أمّا العنصر الثاني الذي كانت تراهن عليه حكومة إقليم تيغراي، فهو أن تتحرك الأقاليم الإثيوبية الأخرى التي لها مشاكل مع الحكومة الفيدرالية بالتزامن مع إقليم تيغراي، فتشتت قوة الجيش الإثيوبي في الأقاليم. وما لم تأخذه قيادات التيغراي في الاعتبار في هذا الموضوع أنّ هذه الإقاليم كانت لها مشاكل عميقة مع التيغراي أثناء حكمها، أكثر من الحكومة الفيدرالية، ولذا لم تتحمس حتى الآن أن تتحرك لتخفيف الضغط عليها.

ومسألة أخرى، كانت قيادة التيغراي تراهن على تدخل القوى الدولية لإيقاف الحرب دون التأخر بسبب وضعية إثيوبيا الداخلية وحساسيتها الإقليمية، إلاّ أن المبررات الدستورية والأمنية التي قدمتها الحكومة الفيدرالية تبدو حتى الآن مؤثرة في مواقف المجتمع الدولي، إضافة إلى أن الإدارة الإمريكية في الوقت الحالي منشغلة بشأنها الداخلي بسبب الانتخابات وانتقال السلطة إلى الإدارة الجديدة.

أمّا الحكومة الفيدرالية فكانت تراهن على الحسم العسكري السريع وإبعاد القضية من التدويل، وعدم إظهار مأساة المدنيين حتى لا تتعرض للضغط من المجتمع الدولي. ولهذا يتضح من عدم سماحها للمنظمات الدولية والمؤسسات الإعلامية للوصول إلى إقليم تيغراي.

على العموم، حتى الآن لم تحسم المعركة لصالح أحد الطرفين، وإنّ مؤشراتها تدل على أن أمدها سيطول ومآلاتها مفتوحة على كل السيناريوهات. ومهما يكن من أمر، فإنّ هذه المعركة ستترك انعكاسات سالبة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بعيدة المدى على إثيوبيا بوجه خاص وعلى منطقة القرن الأفريقي بشكل عام.

السيناريوهات المتوقعة من الحرب الحالية

السيناريو الأول: بعد حرب طاحنة أن تستولي الحكومة الفيدرالية على المدن الرئيسية في إقليم تيغراي وتنسحب قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إلى الجبال والمناطق النائية، وتحول المعركة إلى حرب عصابات وجر الحكومة الفيدرالية إلى حرب استنزاف طويلة، وعلى أمل أن تتبنى هذه الاستراتيجية الأطراف الأخرى في إثيوبيا، الناقمة في الحكومة الفيدرالية، مثل الأرومو وبني شنقول والعفر والصومال وشعوب الجنوب وغيرها، الأمر الذي سيؤدي إلى تآكل قوة الحكومة الفيدرالية من أطرافها وتقويض أركانها، وتفكيك العقل المركزي فيها وتركيبه مرة أخرى بمشاركة الجميع كما حدث عام 1991م. إلاّ أنّ هذا السيناريو مخاطره عالية، وربما يؤدي إلى تفكيك الدولة الإثيوبية إلى دويلات، إضافة إلى أنّ عدم الاستقرار في إثيوبيا سيؤدي إلى عدم استقرار المنطقة برمتها.

السيناريو الثاني: انتصار الحكومة الفيدرالية وتمكّنها من تعيين حكومة موالية في الإقليم ومحاكمة قيادات الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، ولكن ذلك يحتاج إلى حسم عسكري سريع والسيطرة على الأسلحة الاستراتيجية الموجودة في حوزة حكومة الإقليم، ودعم من سكان الإقليم بعد إقناعهم بأن الحرب غير موجهة بل هي موجهة فقط ضد المجموعة المتمردة على القانون، ومعالجة ملف اللاجئين وإبعاد المشكلة من التدويل. ومع هذا فإن هذا السيناريو ليس بالأمر السهل تحقيقه، لأنّ الحكومة الفيدرالية تواجه خصما متمرسا يمتلك الخبرة القتالية والتجهيزات العسكرية ومعرفة تفصيلية لمن يحاربه.

السيناريو الثالث: انتصار الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي على الجيش الفيدرالي عسكريا، وهذا ممكن، لأنها تملك الخبرة العسكرية والسلاح ومعرفة مواطن القوة والضعف في الجيش الفيدرالي. وفي حالة تعذر حسم المعركة عسكريا وتمكن التيغراي من إطالة أمد الحرب وتدويلها لتشكل خطورة على الأمن الإقليمي، وكسب حلفاء وداعمين من القوى الإقليمية، وإظهار مأساة المدنيين داخل الإقليم وفي مخيمات اللاجئين في السودان والمناطق الأخرى.. هذه الأمور وغيرها ستكون مدعاة لضغط المجتمع الدولي على الحكومة الفيدرالية لإيقاف الحرب والجلوس على طاولة المفاوضات مع التيغراي.

السيناريو الرابع: هو تحول هذه المعركة إلى حروب عرقية وانزلاق إثيوبيا إلى فوضى عارمة. وهناك مؤشرات مقلقة في هذا المضمار منها: السماح لمليشيات الأمهرا بالمشاركة في المعركة بجانب الحكومة الفيدرالية دون الاكتراث للحساسية والعداء بين التيغراي والأمهرا، والتعتيم الإعلامي على ما يجري في الإقليم، إضافة إلى التحريض المكثف ضد شعب إقليم تيغراي عبر الوسائط الإثيوبية المختلفة دون تمييز، وما يتعرض له أبناء التيغراي في الوقت الحالي في الأقاليم الإثيوبية الأخرى من ظلم واضطهاد.

وكان على الحكومة الفيدرالية ووسائطها الإعلامية أن تفرق بصورة لا لبس فيها بين شعب التيغراي والمجموعة التي تعتبرها خارجة عن القانون. وإن الخلط بينهما ينبؤ بمؤشرات خطيرة قد تعرض شعب تيغراي للإبادة، لذا على المجتمع الدولي أن يضغط على الحكومة الفيدرالية لفتح ممرات آمنة للمدينيين والسماح بدخول المواد الغذائية والمنظمات الدولية مثل الصليب الأحمر للوصول إلى المدنيين.